يمكن القول إذا استثنينا المقدّمات والفهارس أنّ كتاب الراحل عبد العزيز العظمة يبلغ حوالي ٢٧٠ صفحة طولاً تقسم على وجه التقريب بالتساوي بين جزء أوّل متعلّق بمدينة دمشق وجزء ثان يتناول تاريخ سوريا منذ حملة نابوليون على مصر (ومن ثمّ فلسطين) عام ١٧٩٨ وحتّى ثلاثينات القرن العشرين وهذا الجزء سياسي بالدرجة الأولى تغلب عليه لهجة عاطفيّة نعكس قناعات المؤلّف الراسخة كعربي النشأة عثماني الهوى إسلامي العقيدة. يقول على سبيل المثال (صفحة ١٤٧) أنّه مع انتهاء عهد الأموييّن "انتهى الحكم العربي" وقام العبّاسيّون "بقوّة الأعاجم" ومن ثمّ ولمدّة ١٢٠٠ سنة توافد الأغراب على البلاد العربيّة بما فيهم العثمانييّن "أرقى تلك الأمم علماً ومعرفةً". يضيف (صفحة ١٤٨) أنّ تهمة محاولة العثمانييّن تتريك العرب وهضم حقوقهم باطلة ولا تعدوا كونها دعاية أجنبيّة مغرضة ويزيد فيقول (صفحة ١٢٣) أنّ الدولة العثمانيّة هي "صاحبة البلاد" وأنّها (صفحة ١٧٤) "الأمّ الرؤوم" لا بل يدافع (صفحة ١٥٢) عن طردها للأتراك والأروام (أي اليونان والمقصود هنا مسيحييّ آسيا الصغرى) الذين يتّهمهم بالخيانة العظمى.
هنا تحسن الإشارة أنّ بعض آراء المؤلّف لا تخلوا من العنصريّة فهو مثلاً (صفحة ٢٤٤ ) يستنكر مجيء الارمن والشركس والآشورييّن واليهود "وغيرهم ممّن لفظتهم أوطانهم" إلى سوريا لمزاحمة أهلها و"الاستيلاء على موارد معيشتها" كما يصف جنود فرنسا من إفريقيا (صفحة ٢٦٢) "بعبيد السنغال" لا بل وينعت الغجر (صفحة ٢٦٠) "الذين لا دين لهم" بأوصاف "السفالة واللصوصيّة وفساد الأخلاق".
يبرز بطلان من سلاطين بني عثمان خلال المائة والعشرين سنة الأخيرة من حياة الدولة (الكلام دوماً للمؤلّف): البطل الأوّل محمود الثاني (حكم ١٨٠٨ إلى ١٨٣٩) والذي يعزوا إليه الفضل (صفحة ١٦٣) ببقاء الإمبراطوريّة على قيد الحياة قرناً إضافيّاً رغم أطماع القوى الاوروبيّة وتمرّد محمّد علي والي مصر الذي وصل إلى قاب قوسين أو أدنى من القسطنطينيّة. قام محمود بجملة من الإصلاحات منها التجميليّة (عندما استبدل العمامة بالطربوش) ومنها الإداريّة والعسكريّة (إبادة الجيش الإنكشاري عام ١٨٢٦). البطل الثاني السلطان عبد الحميد الثاني (حكم ١٨٧٦ إلى ١٩٠٩) الذي حاول تعزيز السلطة المركزيّة بشتّى الوسائل وكان على قدر كاف من الوعي والكفاءة كي يتبنّى التقنيّة الحديثة ووسائل الاتّصال والمواصلات كما شدّد على هويّته الإسلاميّة وحاول جهده أن يحصد ولاء المسلمين سواء كانوا من رعايا العثمانييّن أم لا ويجمعهم تحت راية الخلافة في القسطنطينيّة ونجح في ذلك إلى حدّ لا بأس به.
أدان الكاتب جماعة الاتّحاد والترقّي (تركيّا الفتاة) الذين سيطر قادتهم (أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا وجاويد باشا) على مقاليد الحكم بعد سقوط عبد الحميد واتّهمهم (صفحة ٢٠٧) بتشويه سمعة هذا الأخير وبإضاعة ليبيا وبقايا ممتلكات العثمانييّن في أوروبا وأخطر من هذا وذاك بتوريط الإمبراطوريّة في الحرب العظمى (الحرب العالميّة الاولى) التي نعرف جميعاً نتيجتها ولكنّه يبقى في نهاية المطاف مواطناً عثمانيّاً مخلصاً إلى درجة أنّه يبرّر (صفحة ٢٢٠) شنق جمال باشا لعدد من الشخصيّات السوريّة خلال الحرب كعمل مشروع في سبيل الحفاظ على كيان الدولة وإن "أفرط" جمال في الشدّة.
يحتفظ العظمة بالكميّة الأكبر من الإدانة والحتقار لشريف مكّة حسين وابنه فيصل الذين يتّهمهم علانية أو مواربة بالسذاجة (في تعاملهم مع الإنجليز) والغدر والخيانة والتذبذب والنذالة والتبعيّة بينما يكيل الثناء دون حساب للدولة العثمانيّة (صفحة ٢٣٧) التي "حافظت على هذا الشرق طيلة تلك العصور وأمّنت استقلاله وحمت بيضة الإسلام وأعلت شوكته وتساهلت مع غير المسلمين ومنحتهم مساعدات...وهي...تفضل جميع الدول الغابرة والحكومات الحاضرة بلا مراء". سواءً وافق القارىء على آراء المؤلّف أم لم يوافق فلا يمكن اتّهامه بالمداهنة والنفاق حيث أنّه كتب ما كتب بعد سقوط الإمبراطوريّة وفي وقت كان مديحها فيه آخر ما يمكن أن يفكّر به الوصوليّون والمتسلّقون.
يذكر المؤلّف (صفحة ٢٦٨) قائمة الوزراء من "أصدقاء فرنسا" بعد طرد فيصل ومنهم عبد الرحمن باشا اليوسف وفارس بك الخوري كما ينصّ على برقيّة (صفحة ٢٨٥) وقّعها عدد من أبرز شخصيّات سوريا يناشد هؤلاء فيها فرنسا ويخطبون ودّها وثانية إلى غورو ومن الأسماء الكثيرة الواردة السادة محمّد كرد علي وعطا الأيّوبي وعبد المحسن الأسطواني والأمير طاهر الجزائري والدكتور رضا سعيد وغيرهم.
نعم هناك سوريّون (وليس أي سورييّن) أيّدوا الانتداب الفرنسي ولربّما فعل بعضهم ذلك عن قناعة وأمّا عن ممارسي مبدأ "من تزوّج أمّي فهو عمّي" فهم موجودون في كلّ زمان ومكان.
http://bornindamascus.blogspot.com/2018/05/blog-post.html
No comments:
Post a Comment