Saturday, May 26, 2018

جامع بني أميّة الكبير


يختزل الجامع الأموي في العهد الإسلامي ومن قبله كنيسة يوحنّا المعمدان ومعبد جوبيتر حتّى حدد إله آرام دمشق تاريخ المدينة العظيمة الذي يتجاوز ثلاثة آلاف عام. ليس هذا الجامع أهمّ معالم دمشق الدينيّة منها والدنيويّة قاطبة فحسب، ولكنّه أيضاً أحد أبكر وأكبر وأجمل وأفخم الجوامع التاريخيّة في العالم ونموذج احتذى به كثير من بناة دور العبادة الإسلاميّة التي تلته. أضف إلى هذا وذاك أنّ تاثيره العماري والفنّي يتجاوز الإسلام نظراً لتاريخه الطويل.  



المؤلّف هو الدكتور Finbarr Barry Flood من جامعة Edinburgh وعنوان الكتاب الصادر عام ٢٠٠٠  "دراسات في صناعة ثقافة أمويّة بصريّة". المكتوب "مبيّن من عنوانو" كما يقولون: البحث أكاديمي معقّد وليس بالتأكيد موجّهاً لقارىء على عجلة من أمره يبحث عن المختصر المفيد. علاوة على ذلك لا تغطّي صفحات الكتاب (٣٣٠ مع ٩٠ صورة ملحقة) الجامع ككلّ وهي بالتأكيد لا تهدف لذلك. من أراد تغطية وافية ومهنيّة للجامع فعليه بكتاب الدكتور طلال عقيلي ومن تستهوه الصور الكبيرة الملوّنة الرائعة بدقّة عالية مع سرد ممتع للغاية لتاريخ الجامع يمكن له مراجعة كتاب العالم الفرنسي  Gérard Degeorge. أخيراً من لم يملك الوقت أو الرغبة لقراءة سفر كامل مخصّص للمعبد يستطيع الرجوع إلى الحيّز الذي خصّصه العالم الأوسترالي Ross Burns للجامع في كتابه القيّم عن تاريخ مدينة دمشق. 


يتناول الدكتور Finbarr البحث من منظور مختلف مركّزاً على عناصر معيّنة في زخرفة الفسيفساء والكرمة على جدار الحرم (اندثرت بعد حريق ١٨٩٣ كما سنرى لاحقاً) والساعة على الجدار الجنوبي (غير ساعة باب جيرون كما سنرى) والنقوش الكتابيّة في حرم الصلاة (اندثرت)  وعلاقة الجامع بالنسيج العمراني المحيط به ويقارن كلّ هذا مع المواصفات التي وصلتنا عن كنيسة المعمدان في دمشق وآيا صوفيا في القسطنطينيّة وما سبقها.  كلّ هذا وأكثر في نظر المؤلّف كان في إطار برنامج عمراني غير مسبوق واسع المدى وهائل الحجم نفّذه الوليد ابن عبد الملك ليس في دمشق فحسب، وإنّما أيضاً في المدينة المنوّرة ومكّة وجامع ودار إمارة الفسطاط في مصر وجامع صنعاء الكبير وعمليّاً لم يستثن هذا البرامج إلّا العراق لأسباب سياسيّة يعرفها الجميع. 

كان لهذا البرنامج أبعاد دينيّة وأبعاد سياسيّة. كان عدد المسلمين يتزايد بسرعة وبالتالي فلا بدّ من بناء دور عبادة لتلبية حاجاتهم الروحيّة ولكن هذه الحاجات لا تستدعي بالضرورة هذا المستوى من البذخ الذي يحتاج إلى المزيد من الشرح والتفسير وهنا يبرز البعد السياسي: أحد أهداف الوليد كان توجيه رسالة واضحة ليس فقط إلى الأمّة الإسلاميّة (مفهوم الأمّة هنا بالطبع مختلف جذريّاً عمّا آل إليه اعتباراًَ من القرن التاسع عشر تحت تأثير أوروبا) بل أيضاً إلى العالم الخارجي عموماً وبيزنطة خصوصاً أنّ الإسلام باق وأنّ الوليد وأسرته المالكة باقون وأنّه وأنّهم على أقلّ تقدير أنداد للقسطنطينيّة التي حاول الأمويّون أخذها بالقوّة عدّة مرّات وفشلوا. 

يزعم بعض المستشرقين أنّ الوليد لم يفعل أكثر من نسخ أساليب البيزنطييّن في عمائرهم التي استحوذ ومن سبقه من الفاتحين العرب عليها بحدّ السيف ولكن الموضوع في نظر الدكتور Finbarr كان أعقد من ذلك بكثير. ما فعله الوليد ومهندسوه هو "ترجمة" بعض التراث الفنّي السابق كي يصبح هذا التراث موائماً لحاجات الدولة الفتيّة وفي نفس الوقت يحافظ على درجة كافية من الاستمراريّة لضمان ولاء بلاد الشام -عمود الإمبراطوريّة الفقري ومركز ثقلها- التي كاتت لا تزال مسيحيّة في أغلبيّتها الساحقة.

للحديث بقيّة. 

No comments:

Post a Comment