Saturday, May 12, 2018

استيطان فلسطين قبل تصريح بلفور


تردّدت بين كلمة "استيطان" و "استعمار" كعنوان لهذا المقال ولكن الفرق في نهاية المطاف طفيف فكلاهما يمكن استعماله إيجابيّاً أو سلبيّاً. في كلّ الأحوال عنوان الكتاب مصدر المعلومات أدناه "أرض الأنبياء" إصدار عام ١٩١٦ أي أنّه سبق تصريح بلفور ودخول الولايات المتّحدة الأمريكيّة في مجزرة الحرب العظمى (الحرب العالميّة الأولى) عام ١٩١٧. المؤلّف Albert Heusser (١٨٨٦-1929) أمريكي شغل منصب محاضر في قسم التعليم في مدينة نيويورك وكان عضواً في الجمعيّة الوطنيّة الجغراقيّة National Geographic Society وله عدّة مؤلّفات. قام السيّد Heusser بزيارة للشرق الأدنى قبيل (مقدّمة الكتاب عام ١٩١٣ ولكن النصّ يحتوي على كثير من الإشارات إلى الحرب) وفي مطلع "السفر برلك"  بدأت من بور سعيد في مصر ومنها إلى بيروت فدمشق ففلسطين استعمل فيها وسائل المواصلات الحديثة (السفن والقطار) إضافة إلى القديمة (العربات التي تجرّها الدواب وأحياناً صهوة هذه الدوابّ) عندما لم يتوافر له غيرها. نتج عن هذه الرحلة كتاب يتجاوز الثلاثمائة صفحة معظمها يحتوي على صور تاريخيّة بالأبيض والأسود.  عن خلفيّته الدينيّة الكاتب مسيحي وعلى الأغلب بروتستانتي بدلالة حبّه وتبجيله للشعب اليهودي وإيمانه الصهيونيّ الهوى بوجوب عودتهم إلى أرض الميعاد.  



ليست هذه القناعة بمستغربة من إنجيلي ملتزم يستهويه كتاب العهد القديم الذي يؤمن به العديد من الناس وبكلّ تفاصيله كحقائق تاريخيّة لا تقبل الجدل بله الدحض. هناك بعض التشابه بين استيطان أمريكا من قبل الأوروبيّين من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي والذي أطلق عليه في الماضي اسم "القدر المتجلّي" (بالإنجليزيّة Manifest Destiny) وبين استيطان فلسطين (أيضاً على يد الأوروبييّن) على حساب سكّان البلاد الأصلييّن ومن العدل أن يقال أنّ مصير الفلسطينييّن غير اليهود كان أفضل من عدّة أوجه من مصير من أطلق عليهم الأوروبيّون تسمية "الهنود الحمر" و Winston Churchill لقب "المتوحّشين" ولم ير هذا الأخير غضاضة في قيام عرق "أقوى وأرفع درجة وأدرى بأمور العالم"  بإزاحتهم والحلول محلّهم.  

إذاً عنصريّة السيّد Heusser عاديّة ومنتشرة (وبالطبع ليس سكّان الشرق الأدنى أنفسهم على ضعفهم وتخلّفهم بغرباء عن العنصريّة التي تزخر فيها أدبيّاتهم ككتاب ألف ليلة وليلة مثلاً) وحتّى متنوّرة نسبيّاً إذ رغم أنّه وصف العرق التركي بأنّه أدنى من العرق العربي (صفحة ١٧٣) والدمشقييّن -على كثرة حمّاماتهم التي لم تفته الإشارة إليها- بالقذارة رغم أنّهم يهتمّون بأيديهم وأقدامهم "إلى درجة الوسوسة" (صفحة ٦٢ إشارة للوضوء) والخوارنة في كنيسة القيامة بالقذارة والأميّة (صفحة ١٧٧) والعرب بأنّهم أصحاب "مخّ سميك" وأهل القدس -غير اليهود- بالكسل والغباء (صفحة ٢١٥) ورغم ازدرائه للمدارس الإسلاميّة وتعليمها الذي لاقيمة له (صفحة ١١٠) ورغم ورغم ورغم .... يرتأي أنّ الله لن يستأثر بعطفه المؤمنين بالمسيح ويستثني المسلمين البسطاء الورعين (صفحة ١٨٨) ويدعو إلى تقديم المساعدات الاجتماعيّة والطبيّة لهم بغضّ النظر عن نجاح التبشير المسيحي بينهم. 

إعجاب المؤلّف باليهود واحترامه لهم لا حدود لهما عمليّاً فالعالم بأسره "مدين لهم" وقد بادلوا إسائته بإحسان (صفحة ٨٨-٨٩) عبر التاريخ وأمّا عن هجرتهم (وغيرهم من الأوروبييّن) إلى فلسطين فالأرض المقدّسة أحوج ما تكون "لدماء فتيّة" من الغرب واليهود أحقّ من المسلمين بالحرم الشريف (صفحة ١٥٥) . هنا تجدر الإشارة إلى هجرات غبر يهوديّة إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين سواء كانت بشكل مستوطنات ألمانيّة بروتستانتيّة تنتظر المجيء الثاني للمسيح المنتظر (صفحة ٣٠٣) أو البعثات الدينيّة الروسيّة كون روسيا حامية المسيحييّن الأورثوذوكس في العالم عموماً والشرق الأدنى والديار المقدّسة خصوصاً. من الناحية العدديّة كانت هذه الهجرات أقلّ بكثير من نظيرتها اليهوديّة. 


ازدادت الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين بعد تصاعد الاضطّهاد ضدّهم في روسيا ورومانيا عام ١٨٨١ وموّل هذه الهجرة كبار أثرياء اليهود في فرنسا (البارون Edmond de Rothschild) وإنجلترا (Sir Moses Montefiore) وغيرهم. لم يقتصر الدعم على رعاية الهجرة إلى فلسطين فالألماني Baron Maurice de Hirsch مثلاً ترك ٣٠ مليون دولار (صفحة ٢٩٠) لجمعيّة الاستيطان اليهودي Jewish Colonization Association وهو مبلغ خرافي في ذلك الوقت ويمكن إضافة صفرين بكل سهولة له في عملة اليوم ولكن البارون المذكور حبّذ الهجرة إلى الأرجنتين وليس فلسطين.  

إذاً لا غرابة في ازدهار المستوطنات اليهوديّة بعد هذه الاستثمارات الهائلة من عدد من أغنى أغنياء العالم وقتها وقد زار المؤلّف عدداً من هذه المستوطنات وأثنى على رقي أهلها وحسن ضيافتهم وطموحهم وورعهم وكدحهم وإنسانيّتهم (صفحة ٣١٠ الطبيب Kahan يقدّم العناية الصحيّة عن طيبة خاطر لليهود والعرب) وكفاحهم ضدّ البرداء (الملاريا) والرمد (التراخوما) التي كانت تعيث في البلاد فساداً لا بل يضيف أنّ الفضل يرجع لليهود (صفحة ٣٠٩) في جلب ثمار البرتقال والليمون إلى فلسطين بعد عودتهم من السبي البابلي ويحتفظ بأسمى آيات الثناء لمستوطنة تلّ أبيب الروسيّة (صفحة ٢٩٥)  في ضاحية يافا (معظم المستوطنات وقتها كانت تقع بين يافا والقدس). بالطبع لم يغفل الكاتب المقارنة بين قرى أهل البلاد الأصلييّن البائسة والمستوطنات الأوروبيّة الحديثة والأنيقة التي استعمل المهاجرون فيها أحدث التقنيّات لجرّ الماء والزراعة وتربية الحيوانات والتشجير. 

يختم الكاتب (صفحة ٢١٦) بالجزم أنّ فلسطين المستقبل لليهودي الذي سيقطنها وبعمّرها ويغنيها (قال أيضاً في صفحة ٣٠٠ أنّ النفوذ الأوروبي سيتعاظم في فلسطين بغضّ النظر عن المنتصر في الحرب العالميّة الأولى) وينهي الكتاب مستشهداً بكتاب العهد القديم والبيتان ١٤-١٥ من الإصحاح التاسع لسفر عاموس:

"وأردّ سبي شعبي إسرائيل فيبنون مدناً خربة ويسكنون ويغرسون كروماً ويشربون خمرها ويصنعون جنّات ويأكلون أثمارها.
وأغرسهم في أرضهم ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم قال الربّ إلهك." 

No comments:

Post a Comment