مَن مِنَ الدمشقييّن لا يعرف هذه القصيدة لشاعر الشام العظيم نزار قبّاني؟ ليس ترديدُ شِعْرِ نزار وقفاً على السورييّن، ولم يكتفِ عشّاقُهُ بقرائتِهِ واقتناء دواوينِهِ، والاستماع إليه من شفتيّ المبدع الراحل؛ كثيرةٌ هي قصائد نزار التي تحوّلت إلى أغانٍ مشهورة، لحّنها الرحابنة والموجي وبليغ حمدي ومحمّد عبد الوهّاب وكاظم الساهر، وغنّاها عمالقةُ الطرب عبر السنوات وعلى رأسِهِم فيروز وعبد الحليم وأمّ كلثوم ونجاة وماجدة الرومي وعفاف راضي وكاظم الساهر. لا غرابة، والحالُ كذلك، أن يتبنّى المؤلّفان الترجمة الإنجليزيّة لمطلع هذه القصيدة عنواناً لكتابِهِما الذي رأى النور عام ٢٠١٦.
أقام Gabe Huck وقرينَتُهُ Theresa Kubasak في دمشق بدايةً من صيف ٢٠٠٥ ونهايةً بشهر آب ٢٠١٢، وجمعا في هذه الفترة كمّاً لا بأس به من المعلومات عن أحياءِ المدينة ومعالمها ومرافقها وأهلها ومأكولاتها (بما فيها طريقة الإعداد)، ونشرا انطباعاتِهِما عنها في كتابٍ قاربَ عددُ صفحاتِه ٢٧٠، تخلّلتُه بعض الخرائط مع مجموعةٍ من الصور بالأبيض والأسود. مع ذلك لم يكن وصفُ المدينة الدافعَ الذي حداهما إلى الكتابة، كما سيتّضحُ من الأسطر التالية.
المؤلّفان أمريكيّان، امتهنا التدريس، وتولّى Huck أيضاً إدارةَ أحد دور النشر الصغيرة. ميولُهُما السياسيّة يساريّةٌ، ممّا دفعهُما إلى التصويت في الانتخابات الرئاسيّة لمرشّح الحزب الأخضر رالف نادر. هدفُ إقامتهما في الشرق الأدنى محاولةٌ شخصيّةٌ لمساعدة اللاجئين العراقييّن، ضحايا السياسات الأمريكيّة على الأقل منذ عام ١٩٩١ وحتّى اجتياح الولايات المتّحدة عام ٢٠٠٣، الذي أطلق عليه الكلبيّون cynics في الإدارة الأمريكيّة اسم "عملية حريّة العراق"، وتمخّض عن القضاء على ما تبقّى من النظام والبنية التحتيّة لهذا البلد العريق، وتهجير الملايين من أهلِهِ.
أدان عشراتُ الملايين من مواطني الولايات المتّحدة غزو العراق، بيد أنّ الكاتِبَيْن لم يكتفيا بالإدانة، بل حاولا ولعدّة سنوات وبإمكانيّاتٍ متواضعة للغاية، أن يساعدا العراقييّن عملاً لا قولاً. وقع اختيارُهُما على دمشق دون سواها (عمّان أو بيروت مثلاً) لاعتباراتٍ ماديّة. الحياةُ في العاصمةِ السوريّة رخيصةٌ نسبيّاً، سمحت لراتبهما التقاعدي يسدّ الضرورات المعيشيّة. تكفي نظرةٌ إلى أماكن إقامتِهِما وكثرة تنقّلهِما (غرفة على سطح بيت عربي في باب توما ٢٠٠٥-٢٠٠٦، مخيّم اليرموك ٢٠٠٦-٢٠٠٨، ساحة عرنوس ٢٠٠٨-٢٠٠٩، وأخيراً الجسر الأبيض ٢٠٠٩-٢٠١٢)، حتى ندرك ضخامةَ مجهودِهِما تحت ظروفٍ صعبة، تعيّن عليهما خلالَها مغادرة سوريّا بين حينٍ وآخر بهدف المحافظة على تأشيرتهما، مع كل ما رافَقَ هذه العمليّة من التعقيدات البيروقراطيّة التي يعرفها القاصي والداني من السورييّن.
أسّسَ الكاتبان ما أسمياه مشروع الطالب العراقي Iraqi Student Project IPS، الذي تلخّصَ بمساعدة أكبر عدد ممكن من النجباء من شباب وشابّات اللاجئين العراقييّن على تعلّم الإنجليزيّة (بالطبع بذل المؤلِّفان الكثيرَ من الوقت والجهد لتعلّم العربيّة)، والتحضير لإمتحان Test of English as a Foreign Language TOEFL، ومن ثمّ تأمين منح من جامعات أمريكيّة لهؤلاء الطلّاب والطالبات، بكل ما يعنيه هذا من الصعوبات الماديّة والقانونيّة واللوجستيّة، بما فيه تحضير المرشّحين للمقابلة في القنصليّة الأمريكيّة بهدف الحصول على التأشيرة، لا بل ودفع رسم هذه التأشيرة نيابةً عنهم، ومن ثمّ جمع التبرّعات لتغطية كلفة بطاقة السفر إلى الولايات المتّحدة. تكلّلت جهودُهُما خلالَ سبع سنوات بقبول ٦٠ من طُلّابهِمِا في الجامعات الأمريكيّة. قد يبدو هذا الرقم متواضعاً، بيد أنّه في الواقع مدهشٌ إذا أخذنا بعين الاعتبار محدوديّة إمكانيات الزوجين، "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًۭا"، ولا يسعنا إلّا إحناء الرأس احتراماً لإخلاص هَذَيْن المتطوّعَيْن وتفانيهِما.
أحبّ الكاتبان دمشق وأهلَها وقاطنيها، وتعاملا عن كثبٍ مع السورييّن والعراقييّن والفلسطينييّن، ولم يغفلا الإشارةَ لما فعله الإسرائيليّون لأهل فلسطين، السابق بعشرات السنوات لمآثر الولايات المتّحدة في العراق وغيرها. بالطبع كان لهما رأيٌ في المأساة التي عاشتها سوريّا منذ عام ٢٠١١، ولا أعتقد أنّ هذا الرأي سيسرّ الكثيرين من السورييّن، مؤيّدين كانوا أم معارضين. هذا متوقّع عندما يتّخذ أهل البلاد أنفسُهم من الأحداث مواقفاً متناقضةً على طول الخطّ. للأمانة حاول المؤلّفان قدر الإمكان إعطاء صورة "متوازنة" إذا جاز هذا التعبير، وسلّما أنّ "النظام" قَمَعَ "المظاهرات السلميّة" بعنف و"فوراً"، ممّا أدّى إلى إجهاض محاولات تأمين "تغيير سلمي" للحكومة. أقرّ الكاتبان أيضاً أنّ للحكومة السورية مؤيّديها، ممّن خامرتهم الريبة في نوايا الولايات المتحّدة التي تُقاطع بلدهم وتُساند إسرائيل، وتتدخّل باستمرار في شؤون ليس فقط سوريّا، وإنّما أيضاً العراق وأفغانستان وغيرها، عوضاً عن مساعدة الفقراء وتأمين العناية الصحيّة لملايين من الأمريكييّن الذين لا يملكونها (أشار الزوجان هنا إلى رخص الطبابة في سوريا مقارنةً مع الولايات المتّحدة التي كانت الرعاية الصحيّة فيها ولا زالت أغلى من أي مكانٍ آخر على سطح الأرض).
خَتَمَ المؤلّفان بذكر بعض الكتب بالإنجليزيّة لمن يرغب في المزيد من المعلومات عن سوريّا والشرق الأدنى. فيما يتعلق بدمشق بالذات كتاب Ross Burns عن تاريخِها (لرّبما أفضل الموجود ككتاب شامل ووجيز نسبيّاً)، والنسخة الإنجليزية لكتاب السيّدة سهام ترجمان بعنوان Daughter of Damascus للأصل العربي "يا مال الشام".
أحبّ المؤلّفان دمشق وبَذَلَا سنواتٍ من حياتِهِما بإخلاصٍ وتجرّد ودون مقابل لمساعدة شبيبة العراق. من دواعي السرور والحمد أنّ المشرق استقطبَ العلماءَ والأدباء وفاعليّ الخير، وليس فقط جحافلَ الغزاة والفاتحين.

No comments:
Post a Comment