رأينا أنّ العلاقة التاريخيّة بين الريف والمدينة غير متوازنة ولربّما لم يكن من المبالغة القول أنّ المدينة في أغلب الحالات طفيليّة تأخذ من الريف أكثر بكثير ممّا تعطيه ومع ذلك ليست كلّ الأرياف سواسية: جبل لبنان مثلاً أكثر استقلاليّة وأغنى من سائر الريف ولعدّة عوامل أهمّها انفتاحه على المتوسّط والبعثات الغربيّة ووعورته التي جعلت إخضاعه للضرائب بشكل منتظم عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، فلّاح غوطة دمشق موسر نسبيّاً ويزور العاصمة بانتظام (العكس غير صحيح: سكّان مدينة دمشق يحتاجون لدليل في متاهات الغوطة)، قد يتمتّع الفلّاح في جبال العلوييّن باستقلال نسبي ولكن بظروف معيشيّة متواضعة، أمّا عن فلّاح السهول الداخليّة فحالته يرثى لها وهو موضع استغلال ملّاك الأراضي وتجّار المدن يبيع محاصيله بأبخس الأثمان كي يحصل على الحدّ الأدنى الضروري لإبقائه على قيد الحياة وهو غالباً لا يملك الأرض التي يزرعها وحتّى إذا ملكها فالموضوع موضوع وقت إلى أن يكره على التنازل عنها للمالك أو التاجر الذي أقرضه بذاره أو قوت يومه. المالك لا يزرع والزارع لا يملك.
بشكل عامّ لا يعرف الريف السوري حتّى منتصف القرن العشرين الإنارة ولا الكهرباء ولا الطرقات المعبّدة ولا وسائل المواصلات الحديثة. النقل على ظهور الدوابّ أمّا العجلات فهي غير معروفة وفي كلّ الأحوال ليس هناك دروب تصلح لها. لغياب المواصلات أثر بالغ الاهميّة في موضوع التسويق إذ الفلّاح مكره أخاك لا بطل مضطرّ لبيع إنتاجه في أقرب سوق ممّا يجهله تحت رحمة الوسطاء. الإنتاج قليل والتبادل أقلّ. الغالبيّة العظمى من الفلّاحين أميّون والقرى عموماً محرومة من المدارس والمعابد وفي كلّ الأحوال الفلّاح أفلّ تديّناً -بالمعنى التقليدي وخصوصاً من ناحية ممارسة الطقوس- من أهل المدن وإن تعلّق بزيارة الأولياء والعادات الموروثة القديمة قدم التاريخ. الأمراض تفتك بالريف السوري: البرداء، السلّ، الرمد (سبب هامّ للعمى وقتها)، حبّة حلب.... ويساعد على تفشّيها البيوت الأبعد ما تكون عن التهوية والشروط الصحيّة. وفيّات الأطفال مرتفعة للغاية.
حاولت سلطات الانتداب الفرنسي جهدها لتحسين وضع الريف السوري وكان فرض الأمن أحد أهمّ منجزاتها ولكنّ جهودها اصطدمت بعدّة عوائق أهمّها:
أوّلاً: نقص رؤوس الأموال. افتقرت سوريا في هذا الوقت للتمويل الضخم الضروري لتنفيذ مشاريع ذوي النوايا الحسنة وأحد الأسباب كان طبيعة الانتداب المؤقّتة حسب متطلّبات عصبة الأمم إذ يقتصر دور فرنسا من الناحية النظريّة على الأقلّ على تحضير سوريا للاستقلال وهذا لا يشجّع المستثمرين الأوروبيّين على توظيف أموالهم عندما يجهلون ما قد يحدث غداً على عكس الوضع السائد في المستعمرات خاصّة الاستيطانيّة كالجزائر مثلاً.
ثانياً. العوائق الاجتماعيّة والسياسيّة وهي أيضاً محكومة بطبيعة الانتداب المؤقّتة التي شجّعت القيادات السوريّة (وأغلبها قيادات مدن) على المطالبة بالاستقلال كواجب وطني وحدّت من قدرة الانتداب على إجراء إصلاحات جذريّة على غرار أتاتورك في تركيّا (الذي ذهب إلى حدّ منع الحجاب واعتماد الأحرف اللاتينيّة) ورضا خان في إيران.
ثالثاً. المطلوب لتنمية فعّالة ليس فقط تحسين البنية التحتيّة وسنّ القوانين وإنّما ثورة اجتماعيّة شبه مستحيلة وغير موجودة في أي مكان في الشرق الأدنى باستثناء فلسطين تحت الانتداب البريطاني وتحديداً المشروع الصهيوني الذي استورد المستوطنين الأوروبيّين بالجملة وإن سلّم الكاتب أنّ الثمن كان فادحاً للغاية وهذا قبل النكبة بعامين! (مات المؤلّف عام ١٩٤٦ بعد نشر الكتاب بفترة لا تتجاوز الأشهر). مع ذلك يقول أنّ نجاح فرنسا في الريف السوري تجاوز ما حقّقته بريطانيا في العراق وشرق الأردنّ.
خرجت فرنسا وبريطانيا من الحرب العالميّة الثانية مرهقتان واستفاد الشرق الأدنى من ضعفهما النسبي سياسيّاً لتحقيق استقلاله المنشود كما استفاد اقتصاديّاً طوال فترة تواجد الجيوش الأوروبيّة على أراضيه والتي أدّت لزيادة التبادل التجاري لمصلحة الأهالي ولكن التحرّر من الاستعمار أو الانتداب جاء على أيدي نخبة أهل المدن بالذات وهذا التحرّر السياسي لم يترافق بالضرورة مع تحسّن في الحريّات الفرديّة أو تطوّر اجتماعي واقتصادي إيجابي. يضيف الكاتب أنّ ثمن الاستقلال باهظ إذ يتحتّم على الدولة الفتيّة تحمّل الكلفة الفوريّة لجيش وطني وبعثات ديبلوماسيّة وهذا يأتي على حساب مشاريع التنمية الطويلة الأمد. هكذا على الأقلّ بدت الأمور غام ١٩٤٦.
يخنم السيّد Weulersse فيقول أنّ مستقبل الشرق الأدنى إن خيراً وإن شرّاً يتعلّق بمصير الفلّاح.
No comments:
Post a Comment