كَتَبْتُ هذا المقال بالإنجليزيّة منذ ثلاث سنوات، ليس لأنّي أكثر طلاقةً بها منّي بلغتي العربيّة الأمّ، ولا لاعتقادي أنّ المعنيّين بِهِ أجانب، ولكن لأنّني بكل بساطة ولسنواتٍ كثيرة نَظَرْتُ إلى لوحة المفاتيح العربيّة نظرةَ خوفٍ وتوجّس. تغلّبت منذ حوالي العامين على هذه العقدة، وأقوم اليوم بناءً عليهِ بتعريب المقال كرأي شخصي على هامش المأساة التي عاشتها وتعيشها سوريّا منذ سبع سنوات. الترجمة كما توخّيتُها أمينةٌ وليست حرفيّة، ويمكن الرجوع للرابط المرفق للاطّلاع على الأصل.
تمخّضَ عصرُ المعلوماتيّة ووسائل التواصل الاجتماعي عن ثورةٍ ثقافيّة بكلّ معنى الكلمة، وأصبح بإمكان أي إنسان أن يبحث على الشبكة عن شتّى المواضيع بمنتهى السهولة، وإذا شاءت الأقدار أن يتبنّى أحدُهُم وجهةَ نظرٍ معيّنة، فليس ثمّة ما هو أسهل من إسنادها عن طريق رابطٍ أو روابط يضغط عليها بالسهولة التي حكّ فيها علاء الدين مصباحَهُ السحري ليخرج منه الجنّي مع "شبّيك لبّيك عبدك بين إيديك".
المشكلة أنّ الكثير من هذه الروابط مضلّلة، إن لم تكن كاذبة أو على الأقلّ متحيّزة، يحتاجُ المرءُ إلى جرعةٍ لا بأس بها من المعرفة والتحليل وحتّى التشكيك ليفسّر المعطيات ويستعملها عوضاً عن السماح لها أن تستعمله وتستغلّه. أحد أهمّ مصادر المعلومات على الشبكة، شئنا أم أبينا، الويكيبيديا. لست هنا في مَعْرِض التقليل من فائدتها فأنا أستعملها بكثرة مع الحذر، والحذرُ مطلوبٌ لا بل وجوهري خاصّة فيما يتعلّق بالمقالات التاريخيّة والسياسيّة.
أذكر تبادلاً جرى بين أحد مستعملي الشبكة (أمريكي على الأغلب) وبيني بالإنجليزيّة على موقع هفنجتون بوست عام ٢٠١١ أو ٢٠١٢ عن التركيبة الطائفيّة للجيش السوري. جَزَمَ محدّثي بما لا يقبل الالتباس أنّ هذا الجيش في غالبيّته علوي، وعندما اعترضتُ على "إفادته" زوّدني على الفور برابط للويكيبيديا يؤيّد كلامَهُ ويثبت حجّتَهُ بالدليل "القاطع". الضربة الفنيّة القاضية كما يقولون. لم يكن في نيّتي الإفصاح لدعي لا يعرف عن سوريّا إلّا ما تردّده وسائلُ إعلامِهِ عن كوني سوريّ المولد، وأنّني خدمت سنتين ونيّف في هذا الجيش العلوي المزعوم. اكتفيت بالردّ أنّ الجيش السوري مؤلّفٌ من كافّة السورييّن، والسبب بكل بساطة يعود إلى وجود خدمة إلزاميّة تنطبق على جميع الذكور مع بعض الاستثناءات التي لا علاقة لها بالطائفيّة لا كثيراً ولا قليلاً. بالطبع أرفقتُ رابطاً يعزّز كلامي (ودون اللجوء لقرآن الويكيبيديا المنزل)، ولكن السيّد (أو السيّدة) المذكور(ة) لم يتنازل بالردّ، مَنْ أنا أمام موسوعة الإنترنت رقم واحد وأين الثرى من الثريّا؟
هناك بالتأكيد نقطةٌ هامّةٌ لا يمكن المرور عليها مرور الكرام. الجيش السوري مكوّن من جميع السورييّن ما في ذلك من شكّ وهذا الأمر من البديهيّات لكل من يحيا في سوريّا، ومع ذلك لا مناص من التسليم بأنّ نسبة العلوييّن بين الضبّاط وصفّ الضبّاط أعلى من نسبتِهِم في الشعب السوري، وأنّ قياداتٍ علويّة تدير بعض القطعات المفتاحيّة، وأنّ هذا الوضع دام عشراتٍ من السنوات. ما السبب يا ترى؟ هل هناك سياسة متعمّدة لبناءِ جيشٍ طائفيّ الكوادر إن لم يكن طائفيّاً؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو الهدف من هذه السياسة؟
____________
يتعيّن علينا إذا أردنا فهم الطريق الذي أوصل العلوييّن إلى وضعهِمِ الحالي أن نعود بالزمن إلى الوراء على الأقلّ حتّى العهد العثماني. تعرّضت الأقليّات في سوريّا منذ مئات السنين إلى التمييز، وأحياناً إلى الاضطهاد، ولَعِبَ هذا الاضطهاد دَوْرَهُ في دفع ليس فقط العلوييّن، وإنّما أيضاً الدروز والموارنة والإثني عشريّة إلى الاعتصام بالجبال، الملجأ التاريخي للقضايا الخاسرة إذا جاز التعبير. اصطدمت طموحاتُ هذه الأقليّات (وأحياناً الأكثريّة السنيّة) مع مركز الإمبراطوريّة على بعد آلاف الكيلومترات، وتمثّل الخلاصُ للبعض، خاصّة في المدن والسهول المكشوفة، في الخضوع لإرادة السلطان والتعاون مع عمّالِهِ وجباةِ ضرائبِهِ.
استقلّت سوريا رسميّاً عام ١٩٤٦، وعنى هذا الحاجةَ لبناء جيشٍ وطني عوضاً عن الاتّكال على حماية القسطنطينيّة أو پاريس، وفَتَحَ هذا الجيش أبوابَهُ لجميع السورييّن باستثناء اليهود (لا أعلم متى بدأ هذا التمييز). علاوةً على الخدمة الإلزاميّة، أتيح التطوّعُ لكلّ من رَغِبَ بِهِ، ولكن مَن اختار أن يتطوّع؟ يمكن طرح هذا السؤال في أي دولة وليس فقط سوريّا.
ليست الخدمةُ العسكريّة في سوريا نزهةً حتّى في أوقات السلم. صحيحٌ أنّ بعض المتطوّعين يصلون إلى مناصب متنفّذة تسمح لمن لم يردعه وازعٌ أخلاقي بالثراء الغير مشروع، ولكن هذه الحالات هي الاستثناء وليست القاعدة. تعيش الغالبيّة العظمى من المتطوّعين حياةَ تقشّفٍ، ومن المتطوّعين من خَسِرَ يَدَهُ أو ساقَهُ أو حتّى حياتِهِ، ويسري هذا بالطبع على المجنّدين في حالة حرب. النتيجةُ باختصار أنّ الغني أو ابن الأغنياء، أو معظم من يملك خياراتٍ بديلة، لن يتطوّع بالجيش، وأنّ ما يجذب محدودي الإمكانيّات إليه هو الفرصة لتحسين وضعِهِم الاجتماعي والاقتصادي. الجيشُ "خيارُ" من لا يملك خياراتٍ أفضل، وهذا صحيح في كلّ العالم. يترتّبُ على ذلك أنّ السبب في كون نسبة العلوييّن في الجيش تتجاوز نسبَتَهم إلى إجمالي المواطنين، عائدٌ إلى كون نسبة الفقر بينهم تتجاوز (أو على الأقلّ تجاوزت) نسبَتَها في المجتمع السوري ككلّ. التطوّعُ بالجيش متناسبٌ طرداً مع شحّ الموارد وعكساً مع الدخل، وهناك استثناءات بطبيعة الحال. يمكن لمن يريد التوسّع في القراءة عن هذا الموضوع الرجوع إلى كُتُب حنّا بطاطو و Patrick Seale و Jacques Weulersse وغيرها.
____________
نأتي الآن لعنوان المقال وبيت القصيد: هل ظاهرة "حكم الأقليّات" جديدة؟ هل هي وليدة القرن العشرين؟ هل نَجَمَت عن رحيل الاستعمار؟ تاريخ سورّيا موغلٌ في القدم ومع ذلك سأختار القرن السابع الميلادي كبداية، على اعتبار أنّ جميع السورييّن عمليّاً يعرفون جيّداً تاريخَهُم منذ الفتح الإسلامي، أو يعرفون خطوطَهُ العريضة على أقلّ تقدير.
كانت ولا تزال السرعة التي انتشر بها الفاتحون المسلمون من الجزيرة العربيّة، والسهولة التي هزموا بها الجيوش الساسانيّة والبيزنطيّة، مثيرةً للدهشة، ويمكن اعتبارُها شكلاً مبكّراً للحرب الصاعقة أو الخاطفة blitzkrieg (تعبيرٌ استعمل لوصف توسّع الجيوش الألمانيّة البالغ السرعة في أربعينات القرن العشرين). كان الشرق الأدنى وقتها لا يزال مسيحيّاً في غالبيّتِهِ العظمى، واللغات السائدة فيه الآراميّة في الريف واليونانيّة في المدن. النتيجة المنطقيّة أنّ العرب الفاتحين وقتها كاتوا أقليّة لغويّة ودينيّة، شكلّت نخبةً عاشت على الضرائب (جزية وخراج) التي دفعتها الأكثريّة لإعالة الغزاة المحاربين وذويهم، خاصّة وأنّ العرب يربأون عن مهنة الزراعة وإن شجّعوا ومارسوا التجارة. لم يقم الأمويّون بالذات بأي محاولة جديّة لتغيير دين رعاياهم، بل فضّلوا بقاء "أهل الذمّة" على مُعْتَقَدِهِم كونه أكثر مناسبةً للفاتحين من الناحية الماديّة. للإنصاف كان الأمويّون متسامحين، وعلّ معاوية أكثرهم تسامحاً (بالمقابل عمر بن عبد العزيز أكثرهم ورعاً وبالتالي تمييزاً ضدّ الذمييّن). لهذا التسامح أسبابٌ عمليّة، منها أنّ الدولة الفتيّة كانت بعيدةً عن الاستقرار وأنّ المسلمين كانوا ضعفاء عدديّاً.
لفظت الدولة الأمويّة آخرَ أنفاسِها في حمّامِ دمٍ على يد العبّاسييّن، وتزامن هذا مع بعث الهيمنة الإيرانيّة بلَبوسٍ إسلامي، وانتقال مركز ثقل الإمبراطوريّة من ساحل المتوسّط الهلنستي إلى بغداد خليفة المدائن الساسانيّة وبابل الكلدانيّة. تهمّشت سوريّا تحت الحكم العبّاسي. ليس في نيّتي هنا سرد تاريخ معروف ومطروق، وأكتفي بالقول أنّ الإمبراطوريّة العبّاسيّة وقعت تحت النفوذ الإيراني ثمّ التركي منذ البداية وحتّى سقوطها على يد هولاكو والمغول في القرن الثالث عشر.
توالى على سوريّا في العصور الوسطى الطولونيّون والحمدانيّون والفاطميّون والسلاجقة والأتابكة والأيّوبيّون. جميع هؤلاء كانوا من "الأقليّات" بشكلٍ أو بآخر، وكثيرٌ منهم بالكاد تكلّموا العربيّة، التي أصبحت اللغة السائدة مع مرور الزمن. يكفي تأمّل أسماء الفاتحين الجدد إيرانيّةً كانت أم كرديّةً أم تركيّة. صلاح الدين على سبيل المثال كردي بغضّ النظر عن التفاهات التي يتعلّق ويتشدّق بها بعض العروبييّن. سيطر المماليك (ترك وشركس) على سوريا من ١٢٥٠ حتّى ١٥١٦، وتلاهم العثمانيّون الذين عيّنوا ولاةً أجانب على الشام من كافّة أرجاء إمبراطوريّتهم المترامية الأطراف.
الخلاصة حكمت "الأقليّات" سوريّا على الأقلّ منذ الفتح الإسلامي عمليّاً دون انقطاع، وبالنتيجة انصهرت هذه الأقليّات في البوتقة الشاميّة، واعتمدت اللّغة العربيّة، وساهمت في إغناء التراث السوري العريق. فلنقل أنّها لم تعد "أقليّات". كافّة المجموعات الدينيّة والطائفيّة واللغويّة والعرقيّة من "الوثنييّن" إلى الأموييّن والإيرانييّن والترك والأكراد واليهود والمسيحييّن (بكلّ طوائفهم) والمسلمين (أيضاً بكلّ طوائفهم) كانت في مرحلةٍ ما "أقليّات"، وعلى الأغلب عانت من نفس الوصف النمطي السلبي مِن قِبَل الجهلة ممّن يدّعون أنّهم "الأكثريّة"، وينسون أو يتناسون أصولَ آبائِهمِ وأمّهاتِهِم.
لا يستهدف التمييّز الأشخاص فقط، وإنّما الجماعة بكامِلِها. من المسلّم به أنّ انتقاد السياسييّن مشروعٌ ومسموح، لا بل واجب طالما تناوَلَ أفعالهَم وأقوالَهم. انتقاد سياسة الرئيس أوباما أو الرئيس الأسد أو أي سياسي مفهوم، ولكن التهجّم عليهما لأنّ الأوّل أسود والثاني علوي شائنٌ ومعيب.
No comments:
Post a Comment