Sunday, January 14, 2018

تغلغل العرب في سوريّا قبل الإسلام: الأنباط والتدمريّون



نتابع قصّة هجرات القبائل العربيّة (١) من شبه جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب (٢) كما رواها المستشرق الفرنسي Dussaud، وهنا يتوجّب التنويه أنّ الموضوع قيد البحث ليس تاريخ الأنباط ولا التدمرييّن، باستثناء القسم المتعلّق بعمليّة انتقالِهِم من البداوةِ إلى الاستقرار مع تركيزٍ على بعض خصائصهم، خصوصاً لغتهم وآلهتهم.

تكفي نظرةٌ إلى الخريطة الملحقة لنرى أنّ سوريّا ما هي إلّا امتداد جغرافي لشبه الجزيرة العربيّة، أمّا لماذا كانت الهجرات من الجنوب إلى الهلال الخصيب وليس العكس، فالسبب بكل بساطة غياب مغريات الاستيطان في جزيرة العرب في عهد لم يعرف النفط، باستثناء بعض المناطق كاليمن السعيد مثلاً، وحتّى هذا الأخير كان جبليّاً وبعيداً ومكلفاً للغاية للفاتحين من الرومان إلى العثمانييّن. تناسَبَ الانتقالُ من البداوةِ إلى الاستقرار طرداً مع استتباب الأمن وقوّة الدولة كما في العهد الروماني، وعندما ضَعِفَ المركز وتكاثرت الصراعات المحليّة والغزوات الأجنبيّة (٣) حَصَلَ العكس، وهَجَرَ الفلّاحُ أرضَهُ ليصبح بدويّاً متنقّلاً. 

____________

تعاظمت قوّة الأنباط مع انحطاط الدولة السلوقيّة، وضمّ ملكُهُم الحارثة الثالث دمشق عام ٨٥ قبل الميلاد وتطوّر في المدينةِ حيٌّ نبطي شرق شارع باب توما الحالي. امتدّت دولة الأنباط في أقصى اتّساعِها من الحِجْر (٤) جنوباً مروراً بالعاصمة پترا (٥) إلى بصرى ودمشق شمالاً، وأوكَلَ إليهمُ الرومان مهمّة حراسة الصحراء (٦)، وسمح لهم Pompey (٧) بالاحتفاظ بدمشق لقاء جزية، وبالنتيجة اصطنع الإمبراطور Trajan إقليم Arabia (٨)، المتمركز على بصرى أو Bostra وانتهى استقلال الأنباط. 

الأنباطُ تجّارٌ تكلّموا العربيّة والآراميّة، وتبنّوا هذه الأخيرة واشتقّوا أبجديّتَهُم منها. الكتاباتُ النبطيّة مرحلةٌ انتقاليّةٌ إلى العربيّة، أمّا عن آلهة الأنباط فعلّ ذو الشرى أهمُّهُم. مع انحطاط الأنباط انتقلت مهمّة "پوليس الصحراء" إلى تدمر، ومن ثمّ الحيرة، وأخيراً الغساسنة. أصبحت اللغةُ العربيّةُ رسميّةً في عهد ملوك الحيرة (٩)، وإن احتفظ هؤلاء بالكتابة النبطيّة. تلاشت الكتابات العربيّة الجنوبيّة (١٠) بعد الفتح الإسلامي باستثناء الحبشيّة. 

____________

يعود ذكر تدمر لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد. تبنّت المدينةُ (١١) الآراميّةَ (١٢) عوضاً عن العربيّة بهدف التجارة، واستعملت أيضاً اليونانيّة، أمّا عن آلهتها فمنها التدمريّة المحليّة ومنها السوريّة والعربيّة (١٣). أهمّ الأرباب ثالوث بل (بليرحبول - عجل بعل) وهو من وَحْيٍ بابلي ولا علاقة له مع بعل؛ هناك أيضاً ثالوث بعلشمين (بعلشمين - عجل بعل - ملاك بل). قصّة أذينة وأرملته زنوبيا ومحاولتها الاستقلال عن رومية وهزيمتها وتدمير المدينة عام ٢٧٣ للميلاد على يد Aurelian أكثر من معروفة ولا داعي لتكرارها في هذه الأسطر.

باختصار نَجَحَ الأنباطُ والتدمريّون (١٤) في الانتقال من البداوةِ إلى الاستقرار، لا بل وازدهرت مُدُنُهُم لفترةٍ طويلةٍ في قلبِ بادية الشام بفَضْلِ تجارتِها ومواقِعِها الاستراتيجيّة على طريقِ القوافل.


للحديث بقيّة. 

____________

١. أي التي لا تزال في مرحلة البداوة. 
٢. مصطلح "الهلال الخصيب" يعود إلى المؤرّخ والآثاري الأمريكي James Breasted.
٣. كما في عهد الانحطاط العبّاسي وما تلاهُ. 
٤. مدائن صالح (بين المدينة وتبوك).
٥. اكتشف السويسري Burckhardt پترا عام ١٨١٢. 
٦. أي حماية الحضر من البدو. 
٧. فَتَحَ أو ضمّ Pompey سوريّا إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة عام ٦٤ قبل الميلاد. 
٨. المقاطعة العربيّة أو الپتراء العربيّة عام ١٠٦ للميلاد. 
٩. اللخمييّن أو المناذرة. 
١٠. الصفائيّة مثلاً. 
١١. شأنها شأن دمشق والأنباط. 
١٢. بالأبجديّة التدمريّة. 
١٣. اللات مثلاً. 
١٤. هناك أمثلةٌ أقلُّ شهرةً. 

No comments:

Post a Comment