لا داعي للمبالغة في التركيز على فينيقبا ككيان جغرافي سياسي فقد كانت -على عكس مصر التي وحّدها النيل وحكمتها قوّة مركزيّة بشكل شبه مستمرّ منذ خمسة آلاف سنة- مقسّمة إلى مدن دول مستقلّة تتوسّع غرباً إلى سواحل البحر المتوسّط (أشهر مثال طبعاً هو قرطاج مستعمرة صور في تونس الحاليّة) مع اتّصال محدود للغاية مع الداخل وهذا وضع فرضته الجغرافيا وسلستان جبليّتان كما رأينا ويمكن دون مبالغة القول أنّ التبادل التجاري والثقافي بين الساحل الكنعاني ووادي النيل فاق نظيره مع الداخل السوري. من الناحية اللغويّة سادت الآراميّة في سوريا والكنعانيّة في فينيقيا وتغيّر هذا الوضع في العهد الهلنستي على الأقلّ في المدن عندما طغت الإغريقيّة على اللهجات المحليّة لدى المثقّفين وإن ظلّت لغة معظم الناس محليّة وبالنتيجة أزاحت الآراميّة أختها الكنعانيّة في الساحل.
لا يختلف إثنان على ازدهار سوريا عموماً في العهد الروماني وليست هذه السطور بكافية لإعطاء معبد بعلبك ولا مدرسة حقوق بيروت حقّها لا كثيراً ولا قليلاً وبناء عليه فلنتجاوز بضعة مئات من السنين لنأتي إلى القرن السابع الميلادي عندما هاجر شعب مسيحي يدعى الجراجمة أو المردة يكتنف أصوله الكثير من الغموض من الأمانوس إلى سوريا ومنها إلى جبل لبنان ويعتقد المؤرّخون أنّ موارنة اليوم يتحدّرون من هؤلاء الجراجمة وإن كان هناك خلاف على ذلك.
مع الجراجمة بدأ جبل لبنان في رأي الدكتور فيليب حتّي بدخول مسرح التاريخ كملجأ للأقليّات إذ حدّت وعورة التضاريس من قدرة الدول والإمبراطوريّات المجاورة على إخضاع سكّان هذه المرتفعات إلى درجة أنّ معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان اضطرّا لدفع الجزية ليس لبيزنطة فحسب وإنّما أيضاً للجراجمة حتّى يتفرّغ الأوّل لنزاعه مع علي بن أبي طالب وأشياعه والثاني إلى حربه ضدّ إبن الزبير.
انتشرت أقليّة ثانية في جبل لبنان في مطلع القرن الحادي عشر للميلاد عندما وجد مبشّرو الموحّدين (الدروز) استقبالاً أكثر حرارة لدعوتهم فيه منه في مصر مسقط رؤوسهم ومع الوقت تمّت إضافة الطيف الدرزي إلى الشعب الآرامي اللغة تماماً كما في حالة المورانة ولعبت هاتان الطائفتان دوراً جوهريّاً في تاريخ لبنان منذ ذلك الحين.
أتى العهد الصليبي ليحمل في طيّاته تغيّراً إلى الغرب في توجّه الموارنة ويعود التعامل الماروني الصليبي على الأقلّ لعهد البابا Innocent III وإن لم يتمّ إتّحاد الكنيسة المارونيّة النهائي مع الكرسي البابوي حتّى عام ١٧٣٦ وفتح هذا المجال للحماية الفرنسيّة كراع ومدافع عن الكاثوليك خصوصاً في الشرق الأدنى.
يعتبر الكثيرون الأمير الدرزي فخر الدين المعني الثاني ١٥٧٢-١٦٣٥ الباني الأوّل لدولة لبنان وأنّ ما بناه كرّسه الأمير بشير الشهابي (الذي اعتنق المسيحيّة سرّاً) ١٧٦٧-١٨٥٠ مع التحفّظ أنّ هدف كليهما كان اقتطاع مملكة لهما ولذريّتهما على حساب الإمبراطوريّة العثمانيّة في عهد لا يعرف القوميّات (أي الأمّة الدولة Nation State) لا في الشرق الأدنى ولا حتّى في أوروبا. بالنسبة لوضع الأقليّات في الجبل فقد تعايش الدروز مع الموارنة وديّاً وكانت الخلافات قبليّة (قيسيّة ضدّ يمنيّة) وليست طائفيّة وظلّ هذا الوضع سائداً حتّى ثلاثينات القرن التاسع عشر عندما استعان إبراهيم باشا إبن محمّد علي وقائد جيوشه في سوريا بالموارنة لسحق عصيان الدروز في حوران وأدّى هذا لضغينة هؤلاء وعدّة فتن طائفيّة توّجتها مذبحة ١٨٦٠ التي خلقت القوى الأوروبيّة في أعقابها متصرّفيّة جبل لبنان.
شهد النصف الثاني للقرن التاسع عشر تزايد نشاط البعثات التبشيريّة الغربيّة في سوريا عموماً وما أصبح لبنان لاحقاً خصوصاً كما شهد النهضة الأدبيّة والفكريّة العربيّة التي تزعّمها عمالقة من أمثال ناصيف اليازجي وبطرس البستاني ويخلط العروبيّون بين هذه الحركة الثقافيّة وبين "القوميّة العربيّة" التي ظلّت كميّة مهملة حتّى الحرب العظمى ١٩١٤-١٩١٨ عندما تمخّضت عنها بنات أفكار البريطانييّن ووجدت صداها لدى العديد ممّن ركبوا موجة العروبة التي بلغت ذروتها في خمسينات القرن العشرين بتزاوج بين الفكر العروبي السوري والقيادة الحماسيّة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
خلق الفرنسيّون لبنان الكبير بعد أن وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها وبتأييد معظم اللبنانييّن (أي سكّان جبل لبنان وبالذات الموارنة) وقد أكّدت بعثة King & Crane الأمريكيّة هذا وهو أمر لا تجشّم المصادر العربيّة نفسها عناء ذكره بل تكتفي بالإشارة أنّ الغالبيّة العظمى من السورييّن رفضت الإنتداب الفرنسي والمشروع الصهيوني رفضاً قاطعاً وهذا طبعاً صحيح وإن نافى الدقّة.
سبقت الإشارة أنّ متصرفيّة جبل لبنان اقتصرت على الجبل ذو الأكثريّة المسيحيّة (٣٢٩٠٠٠ ألف منهم ٢٤٢٠٠٠ ماروني من أصل ٤١٥٠٠٠ حسب التقديرات عام ١٩١٣) ولكن نظراً لرغبة الفرنسييّن في خلق كيان قابل للحياة من الناحيتين الإقتصاديّة والجغرافيّة فقد قاموا بإضافة المدن الساحليّة مغ بيروت كعاصمة (زاد عدد سكّان بيروت من أقلّ من ٥٠٠٠ عام ١٨٠٠ إلى أكثر من ١٢٠٠٠٠ عام ١٩٠٠!) وأيضاً البقاع وبعلبك مع أقضية راشيّا وحاصبيّا ومرج عيون وعنى هذا إضافة ٢٠٠٠٠٠ نسمة إلى السكّان معظمهم مسلمين وكما يقول الدكتور حتّي ما كسبه لبنان في المساحة خسره في التماسك أو اللحمة ومع الأسف أثبتت الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعد عشرين سنة من صدور الكتاب لترينا أنّ الولاءات المذهبيّة والقبليّة تفوّقت (ولربّما لا تزال) على الولاء للوطن.
مع ذلك بدت الأمور مشرقة في لبنان في مطلع عهد الإستقلال والفضل بالدرجة الأولى يرجع إلى التجارة والسياحة في وقت لعب فيه هذا البلد الصغير دور صلة الوصل بين الغرب والشرق الأدنى وحرص سياسيّوه على الموازنة بين السيادة الوطنيّة (التمسّك بخصوصيّة لبنان) والتعاون مع الدول المجاورة (لإرضاء المؤمنين بالهويّة العربيّة) والحفاظ على علاقات وديّة مع الغرب.
No comments:
Post a Comment