سوريّا بحدودها السياسيّة الحاليّة خليقةُ فرنسا والنصف الأوّل من القرن العشرين، بيد أنّ سوريّا الجغرافيّة، أو بلاد الشام، قديمةٌ قِدَم التاريخ، تارةً شكّلت إقليماً (أو أقاليماً) في إمبراطوريّة، وطوراً مجموعةً من الدويلات المتنافسة إن لم نقل المتناحرة والمتقاتِلة. اعتَقَدَ Dussaud أنّ هدفَ السورييّن لم يكن يوماً وحدةً سياسيّة، وأنّ صراعَهُم مع رومية وبيزنطة كان بالدرجةِ الأولى دينيّاً، وفي نهاية المطاف انتصرت الآلهةُ السوريّةُ على الرومانيّة واعتنق الرومان المسيحيّة.
ليس الدينُ الإسلامي صحراويّاً، على الرغمِ من بداياتِهِ العربيّة واعتمادِهِ التقويم الهجري القمري (١)، ويعلم جميع من دَرَسِ تاريخَ الإسلام أنّ مركزَ ثقلِ الدين الجديد كان دوماً في المدن، والكبرى منها خصوصاً بدلالة المساجد والمدارس والزوايا والأربطة وأماكن إقامة العلماء والفقهاء. تأخّرت أسلمةُ الأرياف وساهَمَ في ذلك عدّةُ عواملٍ اقتصاديّة وثقافيّة وتراثيّة.
المعلوماتُ المتوافرة عن آلهة قريش قبل الإسلام محدودةٌ ،أغلبُها من مصادرٍ إسلاميّةٍ لاحقة. أحد أهمّ وأشهر هذه المصادر "كتاب الأصنام" لابن الكلبي (وفيّات ٨١٩ للميلاد). استنتجَ Dussaud من استقراءِ المراجع أنّ رسالة محمّد لم تكن توحيديّةً بالكامل منذ البداية، وأنّها مرّت من الشرك Polytheism إلى التوحيد Monotheism مع احتمال عبورِها لمرحلة Henotheism (٢) بينَهُما. ذكرت النصوص الصفائيّة الله قبل الإسلام بخمسة أو ستّة قرون (٣)، ولكن لا دليل أنّ الصفائيّين أو غيرهم مثّلوه بصنمٍ، وإن أثار المؤلِّف احتمال كون الحجر الأسود في الكعبة رمزاً لله bétyle لدى البعض، وعلّ هذا يفسّر الاهتمامَ الخاصّ الذي أحاط به محمّد والمسلمون هذا الحجر.
بالرجوع إلى ترتيب آيات القرآن حسب تسلسلِها الزمني، بناءً على دراسات المُسْتَشْرِق الألماني Nöldeke، استنتجَ البعضُ أنّ إصرارَ محمّد على عبادة الله وحْدَهُ (٤) جاءَ في مرحلةٍ لاحقة؛ يتعيّن في هذا السياق الإشارة إلى الآيتين ١٩ و ٢٠ من سورة النجم "أَفَرَأَيْتُمُ اڵَّاتَ وَالْعُزَّىٰ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ"، والفقرة اللّاحقة المحذوفة "تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى". إذا قَبِلْنا هذه "الآيات الشيطانيّة"، فهذا يعني أنّ محمّداً وضع اللّات، مع أقانيمِها العزّى ومناة، في مرتبةٍ تحت الله، ولكن مع الاعتراف بألوهيّتها أو على الأقلّ قدسيّتِها. غنيٌّ عن الذكر أنّ الغالبيّة الساحقة من كَتَبَة الإسلام يرفضون الاعتراف بهذه الإضافة على النصّ المقدّس، ولكنّها مذكورة في الواقدي والطبري وابن سعد، مصادرٌ تجاوزَ عُمْرُها ألفاً من الأعوام.
أخيراً هناك حالة الإله هُبَل وهو صنم على شكل إنسان دَخَلَت عبادتُهُ من شرق الأردن إلى مكّة في القرن الثالث الميلادي لتنافس العبادة الأقدم للحجر الأسود. اندثرت عبادةُ هُبَل مع انتصار الإسلام ولا يزال الحجرُ الأسود موضعَ احترامٍ إلى اليوم.
للحديث بقيّة.
____________
١. التقويم القمري غير مناسب للمجتمعات الزراعيّة والريف تحديداً.
٢. الإيمان بإله قبلي واحد مع التسليم باحتمال وجود إله أو آلهة غيره كما في حالة موسى والعبرانييّن.
٤. عوضاً عن الاكتفاء بتمجيدِهِ ورفعِهِ فوقَ بقيّة الآلهة.
La pénétration des Arabes en Syrie avant l'islam. Paris, P. Geuthner, 1955.


No comments:
Post a Comment