يعتبر كتاب فتوح البلدان لأحمد إبن يحيى البلاذري (مات ٨٩٢ للميلاد) أحد أهمّ وأقدم المؤلّفات التي نملكها عن العهد الإسلامي الأوّل إذا سلّمنا أنّه بدأ مع محمّد وانتهى مع نهاية العصر العبّاسي الذهبي في منتصف القرن التاسع. المقصود بالعصر الذهبي طبعاً عصر القوّة السياسيّة وليس الازدهار الفكري والأدبي والفنّي. ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزيّة في مطلع القرن العشرين على دفعتين كما سنرى ويفيد العالم Richard Gottheil (١٨٦٢-١٩٣٦ وهو أكاديمي أمريكي صهيوني من مواليد إنجلترا) في مقدّمة الكتاب أنّ ما نملكه حاليّاً ليس كتاب فتوح البلدان الأصلي الذي اختفى بعد القرن السابع عشر وإنّما مختصر له.
يعود الفضل في ترجمة هذا السفر النفيس إلى الإنجليزيّة لشخصين: الأوّل الدكتور فيليب خوري حتّي (١٨٨٦-١٩٧٨) الذي نقل ثلثي الكتاب من العربيّة إلى الإنجليزيّة ونشرت Columbia University هذا العمل عام ١٩١٦ أمّا الثاني فهو الدكتور Francis Clark Murgotten أستاذ اللغات في University of Nevada ولم أنجح في الحصول على معلومات تذكر عنه. قامت جامعة Columbia بنشر الجزء الثاني والأخير من الترجمة عام ١٩٢٤.
ترجمة الجزء الثاني على مهنيّتها والحهد الكبير المبذول فيها لا ترقى إلى ترجمة الجزء الأوّل ولسبب وجيه: ندر من الكتّاب الشرقييّن أو المستشرقين من تملّك اللغتين العربيّة والإنجليزيّة كما فعل الدكتور حتّي الذي أتقن فنّ الرواية والكتابة إلى أقصى الحدود وكان أبعد ما يكون عن اللغة الأكاديميّة الجافّة كما تشهد بذلك كتبه العديدة السهلة المتناول للهواة كما هي للإخصّائييّن. في كلّ الأحوال يبقى القسم الذي ترجمه الدكتور Murgotten رغم أخطائه (التي يمكن تحرّيها دون عناء مع المقارنة بالأصل) أسهل متناولاً -ويا للأسف- للقارىء من النصّ العربي والسبب هو افتقار هذا الأخير إلى الحدّ الأدنى من الهوامش الضروريّة لفهم نصّ كتب بلغة عمرها أحد عشر قرناً ونيّف. تبقى المخطوطات التاريخيّة الغير مدقّقة والغير معلّقة عاصية على الإنسان المعاصر إذ أنّ حاجتها إل "إخراج" حديث سهل المتناول لا تقلّ عن حاجة القرآن أو الكتاب المقدّس إلى التفسير والشرح اللغوي والتاريخي لوضعها في السياق المناسب.
يشارك البلاذري أقرانه من مؤرّخي المسلمين الدينييّن والدنيوييّن في إعطاء مكان الصدارة للإسناد "عن فلان إبن فلان عن فلان أبي فلان أنّ فلاناً قال" ويشترك مع كثير منهم في ذكر عدّة أوجه للرواية الواحدة إذا اختلفت سلاسل الإسناد ولكنّ العلميّة والموضوعيّة تتوقّف عند هذا الحدّ ولا يوجد محاولة تذكر للتحليل والنقد ناهيك عن التبرير.
المؤلّف إيراني من بغداد وبشكل عامّ دور العرب في التدوين والتأريخ وحتّى في العلوم الدينيّة واللغويّة محدود اللهمّ إذا استثنينا قرض الشعر والخطب البليغة وما شابه. يمكن أن نضيف أنّ البلاذري كان عبّاسي الهوى بدلالة استعماله مصطلح "الدولة المباركة" عندما يتكلّم عن السلالة العبّاسية ولكن هذا يمكن تفسيره بأسباب نفعيّة وليس فقط موضوعيّة أو عاطفيّة.
بالنسبة لمصادر التاريخ العربي كما تعرفه فهي التالية:
أوّلاً: أقاصيص وأساطير العهد السابق للإسلام أو ما يسمّى الجاهليّة.
ثانياً: سير النبي محمّد والصحابة.
ثالثاً: كتب التاريخ ومنها التراجم والمغازي والأنساب والطبقات.
بالنسبة لكتب السيرة فأقدمها "سيرة رسول الله" لإبن إسحق (مات ٧٦٧ للميلاد) ولكنّنا لا نعرف هذه السيرة مباشرة وإنّما من خلال إبن هشام (مات ٨٣٤) أمّا بالنسبة للمغازي فأسبقها ما كتبه الواقدي (مات ٨٢٢ م) وفيما يتعلّق بالطبقات فهناك عمل إبن سعد كاتب الواقدي (مات حوالي عام ٨٤٤).
"فتوح البلدان" للبلاذري إذاً أحد أقدم المصادر الموجودة وهو يستشهد بإبن إسحق مباشرة (أي دون ذكر إبن هشام ) وفيما يلي أسماء أبرز مؤرّخي الفتوحات العربيّة:
- الطبري (مات ٩٢٣ للميلاد) وهو أوّل مؤرّخ حوليّات وأهمّ من كتب التاريخ بعد البلاذري ولكنّه لا يستشهد بهذا الأخير ولا يذكره.
- إبن الأثير (مات ١٢٣٣).
- أبو الفداء (مات ١٣٣١).
إذا كان الطبري لم يستشهد بالبلاذري فكثير من المؤلّفين اللاحقين المؤرّخين منهم والجغرافييّن استشهدوا به كالمسعودي (مروج الذهب) وياقوت (معجم البلدان) والمقدسي (أحسن التقاسيم) والهمذاني (كتاب البلدان). الخلاصة البلاذري مصدر أساسي لا غنى عنه لكل من يهتمّ بالغزوات والفتوحات العربيّة الإسلاميّة وتجدر الإضافة هنا إلى أنّه كغيره يركّز على التاريخ السياسي دون سواه.
للحديث بقيّة.
No comments:
Post a Comment