نتابع قصّة هجرات القبائل العربيّة (١) من شبه جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب (٢) كما رواها المستشرق الفرنسي Dussaud، وهنا يتوجّب التنويه أنّ الموضوع قيد البحث ليس تاريخ الأنباط ولا التدمرييّن باستثناء القسم المتعلّق بعمليّة انتقالِهِم من البداوةِ إلى الاستقرار مع تركيزٍ على بعض خصائصهم، خصوصاً لغتهم وآلهتهم.
تكفي نظرةٌ إلى الخريطة الملحقة لنرى أنّ سوريّا ما هي إلّا امتداد جغرافي لشبه الجزيرة العربيّة، أمّا لماذا كانت الهجرات من الجنوب إلى الهلال الخصيب وليس العكس، فالسبب بكل بساطة غياب مغريات الاستيطان في جزيرة العرب في عهد لم يعرف النفط، باستثناء بعض المناطق كاليمن السعيد مثلاً، وحتّى هذا الأخير كان جبليّاً وبعيداً ومكلفاً للغاية للفاتحين من الرومان إلى العثمانييّن. تناسَبَ الانتقالُ من البداوةِ إلى الاستقرار طرداً مع استتباب الأمن وقوّة الدولة كما في العهد الروماني، وعندما ضَعِفَ المركز وتكاثرت الصراعات المحليّة والغزوات الأجنبيّة (٣) حَصَلَ العكس، وهَجَرَ الفلّاحُ أرضَهُ ليصبح بدويّاً متنقّلاً.
تعاظمت قوّة الأنباط مع انحطاط الدولة السلوقيّة، وضمّ ملكُهُم الحارثة الثالث دمشق عام ٨٥ قبل الميلاد وتطوّر فيها حيٌّ نبطي شرق شارع باب توما الحالي. امتدّت دولة الأنباط في أقصى اتّساعِها من الحِجْر (٤) جنوباً مروراً بالعاصمة پترا (٥) إلى بصرى ودمشق شمالاً، وأوكَلَ إليهمُ الرومان مهمّة حراسة الصحراء (٦)، وسمح لهم Pompey (٧) بالاحتفاظ بدمشق لقاء جزية، وبالنتيجة اصطنع الإمبراطور Trajan إقليم Arabia (٨)، المتمركز على بصرى أو Bostra وانتهى استقلال الأنباط.
كان الأنباط تجّاراً يتكلّمون العربيّة والآراميّة وقد تبنّوا هذه الأخيرة واشتقّوا أبجديّتهم منها وكانت كتاباتهم مرحلة انتقاليّة للعربيّة أمّا عن آلهتهم فعلّ أهمّها ذو الشرى. مع انحطاط الأنباط انتقلت مهمّة "بوليس الصحراء" إلى تدمر ومن ثمّ الحيرة وأخيراً الغساسنة أمّا عن اللغة العربيّة فقد أصبحت رسميّة في عهد ملوك الحيرة (اللخمييّن أو المناذرة) وإن احتفظ هؤلاء بالكتابة النبطيّة بينما تلاشت الكتابات العربيّة الجنوبيّة (الصفائيّة مثلاً) أمام الفتح الإسلامي باستثناء الحبشة.
يعود ذكر تدمر لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد وقد -شأنها في ذلك شأن دمشق والأنباط- تبنّت الآراميّة (أبجديّة تدمريّة) عوضاً عن العربيّة بهدف التجارة واستعملت أيضاً الأغريقيّة أمّا عن آلهتها فمنها التدمريّة المحليّة ومنها السوريّة والعربيّة (اللّات) وأهمّ الأرباب ثالوث بل (بل-يرحبول-أغلبول) وهو من وحي بابلي ولا علاقة له ببعل وهناك أيضاً ثالوث بعلشمين (بعلشمين-أغلبول-ملاكبل). قصّة أذينة وأرملته زنوبيا ومحاولتها الاستقلال عن روما وهزيمتها وتدمير المدينة عام ٢٧٣ للميلاد على يد Aurelian أكثر من معروفة ولا داعي لتكرارها في هذه الأسطر.
باختصار الأنباط والتدمريّون وهناك أمثلة أقلّ شهرة أقوام نجحت في الانتقال من مرحلة البداوة إلى مرحلة الاستقرار لا بل وازدهرت لفترة طويلة في قلب بادية الشام بقضل تجارتها ومواقعها الاستراتيجيّة على طريق القوافل.
للحديث بقيّة.
١. أي التي لا تزال في مرحلة البداوة.
٢. مصطلح "الهلال الخصيب" يعود إلى المؤرّخ والآثاري الأمريكي James Breasted.
٣. كما في عهد الانحطاط العبّاسي وما تلاهُ.
٤. مدائن صالح (بين المدينة وتبوك).
٦. أي حماية الحضر من البدو.
٧. فَتَحَ أو ضمّ Pompey سوريّا إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة عام ٦٤ قبل الميلاد.
٨. المقاطعة العربيّة أو الپتراء العربيّة عام ١٠٦ للميلاد.

No comments:
Post a Comment