Sunday, December 31, 2017

قرويّو سوريّا والشرق الأدنى (تتمّة)



رأينا أنّ العلاقة التاريخيّة بين الريف والمدينة غير متوازنة، ولربّما لم يكن من المبالغة القول أنّ المدينة في أغلب الحالات طفيليّة، تأخذ من الريف أكثر بكثير ممّا تعطيه؛ مع ذلك ليست كلّ الأرياف سواسية: جبل لبنان مثلاً أكثر استقلاليّة وأغنى من سائر الريف ولعدّة عوامل أهمّها انفتاحه على المتوسّط والبعثات الغربيّة ووعورته التي جعلت إخضاعه للضرائب بشكل منتظم عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، فلّاح غوطة دمشق موسرٌ نسبيّاً يزور العاصمة بانتظام (العكس غير صحيح: سكّان مدينة دمشق يحتاجون إلى دليل في متاهات الغوطة)، قد يتمتّع الفلّاح في جبال العلوييّن باستقلالٍ نسبي تحت ظروفٍ معيشيّةٍ متواضعة، أمّا عن فلّاح السهول الداخليّة فحالته يُرْثَى لها كونه موضع استغلال ملّاك الأراضي وتجّار المدن يبيع محاصيله بأبخس الأثمان كي يحصل على الحدّ الأدنى الضروري لإبقائه على قيد الحياة. فلّاح الداخل غالباً لا يملك الأرض التي يزرعها، وحتّى إذا ملكها فسيضطّر إلى التنازل عنها عاجلاً أم آجلاً للمالك أو التاجر الذي أقرضه بذارَه أو قوتَ يومِهِ. المالك لا يزرع والزارع لا يملك. 

لم يعرف الريف السوري عموماً الإنارةَ ولا الكهرباء ولا الطرقات المعبّدة ولا وسائل المواصلات الحديثة حتّى منتصف القرن العشرين. النقل على ظهور الدوابّ والعجلات غير معروفة ولا يوجد دروبٌ تصلح لها. لغياب المواصلات أثرٌ بالغ الاهميّة في التسويق: إكراه الفلّاح على بيعِ محاصيلِهِ في أقرب سوق، وبالتالي جعله تحت رحمة الوسطاء. الإنتاج قليل والتبادل أقلّ.  الغالبيّة العظمى من الفلّاحين أميّون والقرى عموماً محرومة من المدارس والمعابد وفي كلّ الأحوال الفلّاح أفلّ تديّناً (بالمعنى التقليدي وخصوصاً من ناحية ممارسة الطقوس) من أهل المدن وإن تعلّق بزيارة الأولياء والعادات الموروثة القديمة قِدَم التاريخ. الأمراض تفتك بالريف السوري: البرداء، السلّ، الرَمَد (من أسباب العمى الشائعة في الماضي)، حبّة حلب.... ويساعد على تفشّيها البيوت الأبعد ما تكون عن التهوية والشروط الصحيّة. وفيّات الأطفال مرتفعة للغاية. 

____________

حاولت سلطات الانتداب الفرنسي جَهدَها في تحسين وضع الريف السوري، ونجحت في فرض الأمن (أحد أهمّ منجزاتها)، بيد أنّ جهودَها اصطدمت بعدّة عوائق أهمّها:

أوّلاً: نقص رؤوس الأموال. افتقرت سورّيا آنذاك إلى التمويل الضخم الضروري لتنفيذ مشاريع ذوي النوايا الحسنة، وأحد الأسباب كان طبيعة الانتداب المؤقّتة حسب متطلّبات عصبة الأمم. اقتصر دورُ فرنسا، من الناحية النظريّة على الأقلّ، على تحضير سوريا للاستقلال وهذا لا يشجّع المستثمرين الأوروپييّن على توظيفِ أموالِهِم دون معرفة ما قد يحدث غداً، على عكس الوضع السائد في المستعمرات، خاصّة الاستيطانيّة كالجزائر (ما كان للمؤلِّف أن يتنبّأ باستقلال الجزائر بعد أقلّ من عشرين عاماً). 

ثانياً. العوائق الاجتماعيّة والسياسيّة وهي أيضاً محكومة بطبيعة الانتداب المؤقّتة التي شجّعت القيادات السوريّة (وأغلبها قيادات مدن) على المطالبة بالاستقلال كواجب وطني، وحدّت من قدرة الانتداب على إجراء إصلاحات جذريّة على غرار أتاتورك في تركيّا (إلى درجة منع الحجاب واعتماد الأحرف اللاتينيّة) ورضا خان في إيران.

ثالثاً. المطلوب لتنمية فعّالة ليس فقط تحسين البنية التحتيّة وسنّ القوانين، وإنّما ثورة اجتماعيّة شبه مستحيلة وغير موجودة في أي مكان في الشرق الأدنى باستثناء فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتحديداً المشروع الصهيوني الذي استورد المستوطنين الأوروپييّن بالجملة، وإن سلّم الكاتب أنّ الثمن كان فادحاً للغاية وهذا قبل النكبة بعامين! (مات المؤلّف عام ١٩٤٦ بعد نشر الكتاب بفترة لا تتجاوز الأشهر). مع ذلك كتَبَ Weulersse أنّ نجاح فرنسا في الريف السوري تجاوز ما حقّقته بريطانيا في العراق وشرق الأردنّ. 

خرجت فرنسا وبريطانيا من الحرب العالميّة الثانية مرهقتان، واستفاد الشرق الأدنى من ضعفِهِما النسبي سياسيّاً لتحقيق استقلاله المنشود، كما استفاد اقتصاديّاً من تواجد الجيوش الأوروپيّة على أراضيه، ممّا أدى إلى زيادة التبادل التجاري لمصلحة الأهالي. أتى التحرّر من الاستعمار أو الانتداب على أيدي نخبة أهل المدن بالذات وهذا التحرّر السياسي لم يترافق بالضرورة مع تحسّنٍ في الحريّات الفرديّة أو تطوّرٍ اجتماعي واقتصادي إيجابي. أضاف الكاتبُ أنّ ثمنَ الاستقلال باهظٌ، إذ تحتّمَ على الدولة الفتيّة تحمّل الكلفة الفوريّة لجيشٍ وطني وبعثاتٍ ديپلوماسيّة  على حساب مشاريع التنمية الطويلة الأمد. هكذا على الأقلّ بدت الأمور عام ١٩٤٦.

خَتَمَ Weulersse بالقول أنّ مستقبل الشرق الأدنى، إن خيراً وإن شرّاً، رَهْنٌ بمصير الفلّاح.  


قرويّو سوريّا والشرق الأدنى


شكلّ أبناء وبنات الأرياف لآلاف السنين وعلى الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين الأغلبيّة الساحقة من سكّان سوريّا. ليس ذلك فحسب، بل كان الريف (ولربّما لا يزال) مصدر الثروة الرئيس في البلاد، وإليه يرجع الفضلُ في تزويد المدن بحاجاتِها الغذائيّة. حتّى مدينة دمشق وغوطتها الغنّاء اعتمَدَت على حوران في تأمين حنطتِها وخبزها منذ قرون. مع كلّ هذا وأكثر يعجز المرء عن العثور على ذكر القروييّن في المصادر التاريخيّة أو يكاد. التاريخُ بالدرجة الأولى تاريخ المدن التي كانت عماد الغزاة منذ العهد الهلنستي على الأقلّ، والتي استمدّت قسماً لا بأس به من مكوّناتِها الديموغرافيّة من دماء الفاتحين، بينما كان الريف محصوراً بين مطرقة أعيان المدن وسندان التغلغل البدوي. 

حاول المستشرق الفرنسي  Jacques Weulersse أن يفي الفلاّحَ السوري بعضَ حقِّهِ في هذه الدراسة الصادرة عام ١٩٤٦، وإن استندت إلى معطيات عام ١٩٤٠ وما سبَقَهُ. تغيّرت سوريّا كثيراً منذ ذلك الوقت، وتضاعف عددُ سكّانِها خمسَ مرّاتٍ على الأقلّ، وزادت نسبة سكّان المدن وضواحيها إلى الريف في ظاهرةٍ لا سابقة لها في تاريخ البلاد. اتّسعت قرىً كثيرةً لتصبح مدناً بكلّ ما في الكلمة من معنى، كما في غوطة دمشق المُنْدَثِرَة على سبيل المثال. أضِف إلى التغيّرات الكميّة تغيّراتٍ نوعيّةً في المواصلات والمكننة والحكم والإدارة والتسويق والتوزيع وهلمّجرّا. يبقى هذا الكتاب، بسلبيّاتِهِ وإيجابيّاتِهِ، على الرغم من هذه التطوّرات، مرجعاّ ثميناً يساعدُ إلى حدّ كبير في فهمِ خلفيّة الأحداث التي مرّت بها سوريّا خلال الثمانين سنة المنصَرِمَة منذُ نَشْرِهِ. تقتصرُ الدراسةُ على سوريّا الانتداب، بما فيها لواء اسكندرون ولبنان، وإن أمكن تعميم الكثير ممّا ورد فيها على سائر الشرق الأدنى (مصطلحٌ أكثر دقّة من "الشرق الأوسط" الدارج). 

____________

لحق ريفَ سوريّا الكثيرُ من الظلمِ عبر التاريخ. هناك اختلاف جذري بين القروي في أوروپّا ونظيرِهِ في سوريّا. النبالةُ في أوروبا نبالةُ أرض "دوق Anjou" أو "ملكة قشتالة" أو "أمير Wales" إلى آخِرِهِ، بينما النبالةُ لدى العرب قبليّة أي الانتماء لعشيرةٍ أو أسرة كما نعرف من الأعداد الهائلة ممّن يُنْسَبون بحقٍّ أو بغير حقّ إلى الحسين، لا بل تسمّى الدولُ "هاشميّة" أو "سعوديّة" حتّى اليوم. العرب على الأقلّ تاريخيّاً يمجّدون البدوي المحارب ويحتقرون الفلّاح والزراعة. الدولة في الغرب هي وحدة أرض + شعب + جهاز سياسي وإداري؛ تقدّمُ خدماتٍ لمواطنيها لقاء واجباتٍ تطالبهم بها. الدولةُ في الشرق بالنسبّةِ لأبناء الريف شرٌّ لا بدّ منه، أقصى ما يمكن أن تقدّمهُ إليهِم حمايتَهم من البدو، ويتعيّن عليهم لقاء هذه الحماية (التي لا تتوافر دوماً) دفعُ ضرائبٍ باهظة تتجاوز أحياناً مطالب البدو. فرقٌ آخر جديرٌ بالذكر: تعتمد الجيوش الغربيّة على القروييّن، بينما في الشرق الأدنى (إذا استثنينا مصر محمّد علي) الاعتماد على البدو والغرباء. إذاً الدولةُ العربيّة دولةٌ دون أرض، والقروي فيها فلّاحٌ دون وطن

أضِف إلى ما سبق "طلاق" المدينة والريف إذا جاز التعبير، وعلى أكثر من صعيد. اللاذقيّةُ على سبيلِ المثال سنيّة مسيحيّة ريفُها علوي، أنطاكيا تركيّة ريفُها علوي عربي، حماة عربيّة ريفُها علوي بدوي وهلمّجرّا. حماة بالذات لها وضع متميّز كأكثر المدن السوريّة محافظةً، سيطرت عليها وعلى ريفِها أربعٌ عائلات (البرازي والكيلاني وطيفور والعظم لمن يهمّه الأمر). أخيراً العلاقةُ بين أهل المدن عبر المدن أقوى منها بين المدينة وريفها، بعبارةٍ ثانية العلاقة بين الحلبي والشامي أقوى منها بين الحلبي مع ريف حلب والشامي مع ريف دمشق. الوحدة طائفيّة أكثر منها جغرافيّة

للحديث بقيّة. 

Friday, December 22, 2017

مُصَوَّر سوريّا العصور القديمة والوسطى



ارتأى المندوب السامي Henri Ponsot تعريف المهتمّين والهواة بالتراث الأثري السوري عَبْرَ أطلسٍ مصوّر لعددٍ من أهمّ معالم البلاد صدر عام ١٩٣١. يحتوي المُجَلّد على مائة وستّين صورة جيّدة النوعيّة بالأبيض والأسود. بإمكان القرّاء الاطّلاع على سيرة وأعمال الكتّاب الثلاثة (René Dussaud و Paul Deschamps و Henri Seyrig) بالضغط على أسمائهم في الروابط الفائقة.

المعنيّةُ سوريّا الانتداب بما فيها لبنان قبل اقتطاع لواء اسكندرون، والمقسّمة إداريّاً إلى "دول" سوريّا والعلوييّن والدروز والتي لا تشمل فلسطين ولا شرق الأردن الواقعتين تحت الانتداب البريطاني. الصور متعدّدة المصادر، التُقِطَت على عشراتٍ من السنوات، وضمّت بعض اللقطات الجويّة البديعة من مطلع عهد الطيران. كافّة الصور مرفقة يصفحةٍ من الشرح تعطي نبذةً تاريخيّة وفنيّة ومعماريّة عن الأثر المدروس، وكلّ هذا بالفرنسيّة. 

تغطية إقليم شديد الغنى بالآثار كسوريّا بمائة وستّين صورة - أو حتّى بألفٍ وستّمائة -  غير وارد بطبيعة الحال، ولا يمكن إعطاء حتّى مدينة سوريّة متوسّطة حقَّها بهذا العدد الضئيل من اللقطات. يبقى هذا الكتاب الجميل مع ذلك مرجعاً قيّماً خصوصاً في ضوء التغيّرات التي طرأت على العديد من المعالم المصوَّرة في العقود العشرة التي انصرمت على نشرِهِ.

لا يتعرّض المؤلّفون لجميع المدن السورية، وهو أمر مستحيل في حيّزٍ محدودٍ من هذا النوع، بيد أنّهم ركّزوا على ما اعتبروه أهمّ من غيره تاريخيّاً أو جماليّاً أو عاطفيّاً، أي المتعلّق بحنينِ الفرنسييّن إلى عهدِ الحملات الصليبيّة وفَخْرِهِم بها. هناك تركيز خاصّ على العمارة العسكريّة الصليبيّة، وعلى سبيل المثال يحتلّ الحيّز المخصصّ لقلعة الحصن عدداً من الصفحات يعادل تقريباً تلك المخصّصة لمدينة دمشق. بالنسبة للمواقع التاريخيّة الدارسة ومعابدها هناك اهتمامٌ خاصّ - وبحقّ - بمدينتيّ بعلبك وتدمر. المساحة المخصّصة للآثار الإسلاميّة محدودةٌ مقارنةً مع غيرِها. 

مسكُ الختام توافرُ كافّة هذه الراوئع مع النصوص المُرْفَقَة ومصدر اللقطات واسم المصوّر بالمجّان على الرابط التالي. تاريخ الصور مع الأسف غير مذكور، وإن أمَكَن الحصولُ عليهِ أو على الأقلّ تخمينُهُ بمراجعة المجلّات التي نَشَرَتها أصلاً في مطلع القرن العشرين، أو من أسماء بعض المصوّرين مثل Bonfils و Sauvaget وغيرهم. 

Sunday, December 17, 2017

العرب في سوريّا قبل الإسلام



يقصد René Dussaud بالعرب هنا بدو الجزيرة العربيّة وبادية الشام تحديداً، وبيستثني جميع الحضر في اليمن وسوريّا. Dussaud (١٨٦٨-١٩٥٨) آثاري ومستشرق فرنسي وخبير باللغات القديمة كاليونانيّة والعبريّة وغيرها، وأخصّائي بالخطوط والنقوش الكتابيّة التاريخيّة والأديان الساميّة، وله العديد من الكتب والمقالات في الدوريّات العلميّة، ويعتبر أحد الروّاد في مجالِهِ أو بالأحرى مجالاِتِهِ. 

رأى العرب في سوريّا قبل الإسلام النورَ عام ١٩٠٧. لا يتجاوز هذا الكتاب ١٧٠ صفحة، بيد أنّهُ عسير القراءة، موجّهٌ بالدرجة الأولى إلى المحترفين، ومع ذلك يمكن للهواة أن يستخلصوا منه كمّاً لا بأس به من المعلومات قلّ من تطرّق إليها من المؤرّخين وعلماء اللغة المحليّين، وأشكّ في وجودِهِم أصلاً في بيئة لا تعطي العهود السابقة للإسلام حقَّها لسببٍ أو لآخر، وتعاني من نقصٍ مزمن في التمويل المخصّص للبحث العلمي.

بَحَثَ المؤلّفُ أمرَ تغلغل موجات الهجرة إلى سوريا حرباً أو سلماً، والأمثلة عليها كثيرةٌ، وارتأى أنَّهُ سواءً في حالة الأنباط أو العبرانييّن أو العرب المسلمين، بدأ الدخول من شرق الأردن قبل الاتّجاه شمالاً وغرباً، مع التحفّظ أنّ المعلومات المتوافرة عن كافّة هذه القبائل جُمِعَت من كتاباتٍ وسجلّاتٍ دُوِّنَت بعد انتقال هذه الشعوب من البداوة إلى التحضّر، مع استثناءٍ وحيد. تمحورَ الكتابُ حول هذا الاستثناء. 

تتركّز الدراسة على القبائل الصفائيّة أو الصفويّة (لا علاقة مع إيران طبعاً) نسبة إلى تلول الصفا الواقعة شرق اللجاة في حوران، حيث عُثِرَ على كتاباتٍ ونقوشٍ حجريّة باللغة الصفائيّة، تركها هذا الشعب عندما كان لا يزال في مرحلة البداوةٍ، قبلَ أن "يُهْضَم" مع لغتِهِ وديانتِهِ وآلهتِهِ من قِبَل القرى والمدن المضيفة. 

هناك شبه إجماع أنّ الأبجديّة الأولى في التاريخ فينيقيّة (بالأحرى كنعانيّة على اعتبار أنّ الفينيقييّن هي التسمية التي أطلقها اليونانيّون على الكنعانييّن)، ومنها اشتُقَّت العبريّة واليونانيّة. حتّى المشكّكين في الأصل الكنعاني للأبجديّة سلّموا أنّهم على الأقلّ من نَشَرَها وعمَّمَها، وأنّها أقدم الأبجديّات الساميّة إطلاقاً. باختصار نتدرّج من الأبجديّة الكنعانيّة إلى اليونانيّة القديمة إلى اليمنيّة السبئيّة (مملكة سبأ) وهلمّجرّا، أمّا عن الكتابة الصفائيّة فهي الأكثر "شماليّةً" من كافّة النماذج العربيّة الجنوبيّة، وتمتلك كالعربيّة ٢٨ حرفاً.  

ذابَ الصفائيّون في المجتمع السوري في القرن الرابع الميلادي، وتحوّلت نقوشُهُم وكتاباتُهُم إلى اليونانيّة، ولكنّهم تركوا لنا من القرون السابقة لانصهارهم معلوماتٍ لغويّةٍ ودينيّةٍ لا تقدّر بثمن. خصّص الكاتب ٤٠ صفحة لآلهتِهِم، منها ما ذُكِرَ في القرآن مثل اللّات، التي جَسّدَت في العهد الهلنستي الزهرة و Athena. اعتبرَ Dussaud العزّى ومناة أقانيماً للّات، ولكنّ النقطة الأكثر أهميّةً أنّ الله كإله، سَبَقَ الإسلامَ بخمسةٍ أو ستّةٍ من القرون. لا دليل أنّ الصفائيّون أو غيرَهُم مثّلوه بصنمٍ كسائر الأرباب، وإن أثار المؤلّف احتمال كون الحجر الأسود في الكعبة رمزاً لَهُ bétyle بالنسبةِ للبعض، وعلّ هذا يفسّر الاهتمام الخاصّ الذي أحاط بِهِ محمّد والمسلمون بعدَهُ هذا الحجر. 

ليس كلّ ما كتبه Dussaud قرآناً منزلاً بطبيعة الحال، فمثلاً خصّص ١٥ صفحة من الكتاب (٤٠ - ٥٥) أكّد فيها أنّ قصر المشتّى (الأردن حالياً) يعود إلى القرن الخامس الميلادي على أحدث تقدير، مع أنّ كافّة الأخصّائييّن اليوم يجمعون أنّه أموي من منتصف القرن الثامن. 

قُدِّر للمؤلّف بعد خمسين سنة أن يعيد كتابة هذا العمل استناداً إلى خضمٍّ من المعطيات والمكتشفات الجديدة ولكن لهذا حديثٌ آخر. 

Thursday, December 14, 2017

البلاذري وفتوح البلدان




سبق ورأينا أنّ الفضل يرجع للبلاذري في أحد أهمّ وأقدم الكتب التي أرَّخَت الفتوحات الإسلاميّة، وأنّه مات عام ٨٩٢ للميلاد، أي إمّا في نهاية خلافة المعتمد على الله أو بداية عهد المعتضد بالله العبّاسيِّيَن. ماذا عن الفترة الزمنيّة التي يغطّيها كتاب فتوح البلدان؟

يبدأ البلاذري سَرْدَهُ مع دخول محمّد إلى المدينة (أي بداية التقويم الهجري)، ويعطينا تفاصيلاً محدودةً ثمينةً عن بناء مسجد النبي في يثرب - المدينة، وتوسّعاتِهِ في العهود اللّاحقة، ولكنه لا يتعرّض لغزوتيّ بدر وأحد، بل ينتقل بغتةً دون مقدّمات إلى طرد يهود قينقاع الذين "نقضوا عهدهم"، دون الدخول في كيف ولماذا وإن وجب التذكير (كما وَرَدَ في مقال الأمس) أنّ ما لدينا نسخة مختصرة لمخطوط البلاذري. هناك تفاصيلٌ أكثر عن طرد يهود النضير، ومن ثمّ قتل وسبي يهود قريظة. مع ذلك بقي وجودٌ لليهود في خيبر وللمسيحييّن في نجران، إلى أن طردهم عمر بن الخطّاب. 

دارت آخر أحداث فتوح البلدان في عهد الخليفة العبّاسي الثالث عشر أي المعتزّ بالله (٨٦٦ - ٨٦٩). غطّى الكتابُ إذاً حوالي ٢٥٠ سنة، وعمليّاتٍ عسكريّةٍ امتدّت من الجزيرة العربيّة جنوباً إلى تخوم آسيا الصغرى شمالاً ومن السند وتركستان شرقاً إلى شمال إفريقيا وإسپانيا غرباً، ولكنّه لم يتعرّض للغارات على فرنسا و"بلاط الشهداء" ولا إلى محاولات الأموييّن المتكرّرة والفاشلة لأخذ القسطنطينيّة. لا معلومات تستحقّ الذكر عن حروب الفتنة، باستثناء الردّة ومسيلمة الملقّب بالكذّاب، وإذا ذُكِرَت أحداثٌ كوقعة الجمل (بين علي من جهة وعائشة مع طلحة والزبير من جهة ثانية) أو معركة صفّين (علي ضدّ معاوية) أو كربلاء (مقتل الحسين) أو إبادة الأموييّن على يد أبي العبّاس وصَحْبِهِ أو القتال بين الأمين والمأمون، فبشَكلٍ عابرٍ وغير مُبَاشَر، هذا إذا ذُكرَت على الإطلاق. هناك بالمقابل طوفانٌ من المعلومات عن الأمور الفقهيّة المتعلّقة بتوزيع الأراضي والمياه وغنائم الحرب وأموال الجزية والخراج بين المسلمين حسب قربهم من النبي وإسهامهم في المجهود الحربي. 


تلخيصُ أحداثٍ مسرحُها الجغرافي بهذا الاتّساع وامتدادها الزمني بهذا الطول في صفحةٍ أو صفحتين أمرٌ مستحيل، حسبُنا الإشارة إلى الخطوط  العريضة المُرْتَسِمة عبر قراءة هذا الكتاب، أو على الأقلّ بعض الاستنتاجات التي توصّلتُ إليها والتي ألخِّصُها في الحواشي الآتية: 

أوّلاً: يخلط الكثيرون بين الفتوحات العربيّة من جهة، وأسْلَمَة جنوب وغرب آسيا وشمال إفريقبا من جهةٍ ثانية. الفتوحات العربيّة  - على الأقلّ خارج الشرق الأدنى - مؤقّتة، أقربُ إلى الغارات منها إلى الفتوحات، وكثيراً ما اضطرّ العرب المسلمون إلى "فتح" نفس المكان مثنى وثلاث عندما شقَّ عصا الطاعة ورفض دفع الأتاوة أو الخوّة (الجزية). النتيجة المنطقيّة أنّ مهابةَ الإمبراطوريّة العربيّة العظمى على الورق أكثر من قوّتِها الحقيقيّة، والعهد الأموي الذي بلغت فيه رقعتُها أقصى اتّساعِها كان في واقع الأمر زاخراً بالفتن الأهليّة، كالتي أشعلها عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب قبل أن يخمدها الحجّاج بن يوسف الثقفي. اضطرّ عبد الملك بن مروان إلى دفع الجزية لإمبراطور بيزنطة (كما فعل قَبْلَهُ معاوية بالإذن من الروايات الفيسبوكيّة الكاريكاتوريّة) كي يتفرّغ لحرب ابن الزبير. ما أنهى الدولة االأمويّة هو فرط التمطّط الإمبراطوري (Paul Kennedy عندما عَجِزَت مَوارِدُها على ضخامتِها عن حماية المساحات الشاسعة التي أصبحت عبئاً على الدولة بعد أن كانت مصدرُ رزقٍ للعسكر الغزاة وذويهِم. أتى امتداد الإسلام إلى الهند وإندونيسيا وإفريقيا وغيرها لاحقاً، على يد التجّار والمتصوّفين (مغامرة أو مخاطرة الإسلام للمستشرق Marshall Hudgson) الذين نجحوا في تكييف العقيدة لتتلائم مع الأعراف والتراث المحلّي، وليس على يد الفاتحين. 

ثانياً: موضوع شهامة وتجرّد الفاتحين المسلمين و"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب" مبالغٌ فيه للغاية. كان نصيبُ سوريا أفضل بما لا يقاس من غيرِها - على الأقلّ إلى أن أتى العبّاسيّون  - لأنّها كانت مركزاً للإمبراطوريّة ونقطةَ انطلاقٍ لكثيرٍ من الفتوحات، بينما عانت الأقاليمُ النائية الأمرَّين من الفاتحين الذين لم يتورّعوا عن ضربِ أعناق القادة وذبح الرجال في سنّ حمل السلاح وسبي النساء والأطفال في أكثر من مناسبة، حتّى عندما استسلم "المشركون" وفتحوا أبوابَهم. ليس مصدر هذه المآسي أعداء المسلمين، بل رواتِهِم، ومنهم البلاذري الذي يذكرها كأمرٍ مسلّمٍ بِهِ وبنظرةٍ أبعد ما تكون عن السلبيّة. عندما قَبِلَ العربُ الجزيةَ نقداً أو عيناً، لجأت بعض الشعوب التي افتقرت إلى المال إلى تسليمِ فتياتِها وفتيانِها إماءً وعبيداً للعرب الفاتحين كطريقةٍ لا مفرَّ منها لدفع "المعلوم". بالطبع عندما خسر المسلمون معركةً عامَلَهُم "العجم" و"المشركون" بالمِثْل. 

ثالثاً: رواية البلاذري أشبه ما تكون بالسجلّات المسماريّة الآشوريّة أو الفرعونيّة القديمة من عدّةِ نواحٍ، منها المبالغة الهزليّة في عددِ وعدّة الأعداء، يليها وصفُ جُبْنِ الخصم وبطولات العرب وإن خسروا بعض الشهداء، ثمّ التفصيل في محاصصة الأسلاب بين الغزاة. كَتَبَ البلاذري بمنتهى الصراحة أنّ بعض محاربيّ الفاتحين كانوا يطمعون بالشهادة، بينما انضمّ البعضُ الآخر إلى المعمعة طَمَعاً بالغنائم.

رابعاً: ما قرّرَ هدمَ المعابد "الوثنيّة" أو الإبقاء عليها، وقتلَ "المشركين" أو حقن دمائهم، عواملٌ نفعيّة وعمليّة بحتة بالدرجة الأولى. قَبِلَ الفاتحون في عدّة مناسبات الجزية من المجوس، وسمحوا لهم بالإبقاء على معابد النار، وطبّقوا نفس المنهج مع بعض البوذييّن، أي أنّهم عاملوهم كما عاملوا "أهل الذمّة" المسيحييّن واليهود. 

أخيراً الكتاب منجم ذهب لهواة اللغة العربيّة، تعلّمتُ منهُ على سبيل المثال معنى كلمة "العلوج" أو "الأعلاج"، جمع علج (من يذكر الصحّاف؟) التي ترجمها الدكتور حتّي بالرجل الأغْلَف (أي غير المختون). هناك أيضاً بعض التفاصيل الساخنة بلغةٍ شبه إباحيّة عندما اتّهم بعضُهُم المغيرة بن شعبة بالزنا، وأمَرَ عمر بِجَلْد ثلاثة شهود لأنّ الرابع لم ير الِجماعَ بأمِّ عينه. لدينا أيضاً نادرة عمر عندما صادر أموال "عدوّ الله والمسلمين أبو هريرة" متّهماً إيّاه بالاختلاس.






أصول الدولة الإسلاميّة


كتاب فتوح البلدان لأحمد ابن يحيى البلاذري (وفيّات ٨٩٢ للميلاد) أحد أهمّ وأقدم المؤلّفات التي نملكها عن العهد الإسلامي الأوّل، إذا سلّمنا أنّه بدأ مع محمّد في النصف الأوّل من القرن السابع وانتهى مع نهاية العصر العبّاسي الذهبي في منتصف القرن التاسع للميلاد. المقصود بالذهبي عصر القوّة السياسيّة وليس الازدهار الفكري والأدبي والفنّي. تُرْجِمَ هذا الكتاب إلى الإنجليزيّة في مطلع القرن العشرين على دفعتين، ونوّه المستشرق Richard Gottheil (١٨٦٢-١٩٣٦: أكاديمي أمريكي صهيوني من مواليد إنجلترا) في مقدّمة الكتاب أنّ ما نملكه حاليّاً ليس كتاب فتوح البلدان الأصلي الذي اختفى بعد القرن السابع عشر، وإنّما مختصر له. 

يعود الفضل في ترجمة هذا السفر النفيس إلى الإنجليزيّة إلى شخصين: الأوّل العلّامة الدكتور فيليپ خوري حتّي (١٨٨٦-١٩٧٨) الذي نقل ثلثي الكتاب من العربيّة إلى الإنجليزيّة (منشورات جامعة Columbia عام ١٩١٦)، والثاني الدكتور Francis Clark Murgotten (١٨٨٠ - ١٩٦٠)، أستاذ اللغات في جامعة Nevada. نَشَرَت Columbia الجزء الثاني والأخير من الترجمة عام ١٩٢٤. 

لا ترقى ترجمة الجزء الثاني، على مهنيّتِها والجهد الكبير المبذول فيها، إلى ترجمة الجزء الأوّل ولسببٍ وجيه: ندر من الكتّاب الشرقييّن أو المستشرقين من تملّك اللغتين العربيّة والإنجليزيّة كالدكتور حتّي الذي أتقن الرواية والكتابة، وتجنّب اللغة الأكاديميّة الجافّة قدر الإمكان، بدلالةٍ كُتُبِهِ العديدة السهلة المتناول للهواة والأخصّائييّن على حدٍّ سواء. مع ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ القسم الذي ترجَمَهُ الدكتور Murgotten، على أخطائه التي يمكن تحرّيها دون عناء بالمقارنة مع الأصل، أسهل متناولاً  - ويا للأسف - من النصّ العربي. السبب هو افتقار هذا الأخير إلى الحدّ الأدنى من الهوامش الضروريّة لفهمِ نصٍّ كُتِبَ بلغة تجاوز عُمرُها ألفاً ومائةً من السنوات. المخطوطات التاريخيّة الغير محقّقة عصيّةٌ على الإنسان المعاصر، لا تقلُّ حاجتُها إلى "إخراجٍ" حديث عن حاجة القرآن أو الكتاب المقدّس إلى التفسير والتعليق والشرح اللغوي والتاريخي لوضع النصوص في سياقِها وإطارِها التاريخي. 

____________

اشترك البلاذري مع أقرانِهِ من مؤرّخي المسلمين الدينييّن والدنيوييّن في إعطاء مكان الصدارة للإسناد "عن فلان بن فلان عن فلان أبي فلان أنّ فلاناً قال"، وذَكَرَ ككثيرٍ منهم عدّةَ أوجهٍ للرواية الواحدة عندما اختلفت سلاسل الإسناد. توقّفت علميّة وموضوعيّة المؤرِّخ عند هذا الحدّ، دون أدنى محاولة للتحليل والنقد بَلْهَ التبرير والتسويغ. 

المؤلّف إيراني من بغداد. دورُ العربِ عموماً في التدوين والتأريخ وحتّى في العلوم الدينيّة واللغويّة محدود، اللهمّ إذا استثنينا قرض الشعر والخطب البليغة وما شابه. البلاذري كان عبّاسي الهوى، بدلالة استعماله مصطلح "الدولة المباركة" عندما تكلّمَ عن السلالة العبّاسية. ليس هذا التبجيل بالضرورة عن قناعة وقد تكون أسبابُهُ نفعيّةً بكلِّ بساطة. 

مصادر التاريخ العربي كما نعرفه هي التالية:
 
أوّلاً: أقاصيص وأساطير العهد السابق للإسلام أو ما يُسَمّى الجاهليّة.
ثانياً: سير النبي محمّد والصحابة.
ثالثاً: كتب التاريخ ومنها التراجم والمغازي والأنساب والطبقات

أقدم كُتُب السيرة لابن إسحاق  (وفيّات ٧٦٧ للميلاد) بعنوان "سيرة رسول الله" أو "السيرة النبويّة"، بيد أنّنا لا نملِكُهُ مباشرةً، وإنّما من خلال ابن هشام (وفيّات ٨٣٤)؛ أشهر مؤلّفات المغازي للواقدي (وفيّات٨٢٢ م)؛ فيما يتعلّق بالطبقات لدينا ما تَرَكَهُ ابن سعد (وفيّات حوالي عام ٨٤٤)، كاتب الواقدي. 

"فتوح البلدان" للبلاذري إذاً أحد أقدم المصادر الموجودة، ويستشهد بابن إسحق مباشرة (أي دون ذكر ابن هشام ). فيما يلي أسماء بعض أبرز مؤرّخي الفتوحات العربيّة:

- الطبري (وفيّات ٩٢٣ للميلاد): أوّل مؤرّخ حوليّات وأهمّ من كتب التاريخ بعد البلاذري، ولكنّه لا يستشهد بهذا الأخير ولا يذكره. 
- ابن الأثير (وفيّات ١٢٣٣). 
- أبو الفداء (وفيّات ١٣٣١). 

لئن لم يستشهد الطبري بالبلاذري فكثير من المؤلّفين اللاحقين، المؤرّخين منهم والجغرافييّن، استشهدوا به كالمسعودي (مروج الذهب)، وياقوت (معجم البلدان)، والمقدسي (أحسن التقاسيم)، وابن الفقيه الهمذاني (كتاب البلدان). البلاذري باختصار مصدرٌ أساسي لا غنى عنه للمهتمّين بالغزوات والفتوحات العربيّة الإسلاميّة، مع التنويه أنّه كغيرِهِ ركّزَ على التاريخ السياسي دون سواه. 

للحديث بقيّة. 


Friday, December 1, 2017

Qaṣr al-Ḥayr al-Ġarbī: Internal Façade




Located northeast of Damascus between al-Qaryatayn and Palmyra, this 8th-century C.E. ʾUmayyād desert palace was constructed during the reign of Caliph Hišām ibn ʿAbd al-Malik. It is square-shaped, 70 x 70 meters, and made of two stories with semi-circular towers at the angles and the sides.

The excavation works started in 1936 by the General Directorate of Antiquities and Museums were completed in 1950 and crowned with restoring and reassembling a wing—the most luxurious—that had constituted the central part of the eastern side of the edifice. It includes the façade, the entrance, two apartments, a portico, and a part of the internal courtyard. This complex has found a permanent residence at the National Museum of Damascus since.

Though less elaborate than the external façade, the internal one (attached photo) still represents a milestone in the history of early Arab-Islamic art. Seen is a 16.70 x 2.75 meter wall dominated by six windows of sculpted stucco with figures in relief in-between.