الأب اليسوعي Henri Lammens (١٨٦٢-١٩٣٧) أحد ألمع المستشرقين الأوروپييّن، ولا مبالغة في القول أنّ معرفتَهُ بالنصوص العربيّة والإسلاميّة القديمة تجاوزت الغالبيّة العظمى من علماء العرب والمسلمين، ناهيك عن خِبْرَتِهِ بالكتابات اليونانيّة واللاتينيّة. ولد لامنس في بلجيكا و التحق بالكليّة اليسوعيّة في بيروت عن عمر ١٥ سنة وفي النهاية وافته المنيّة ودُفِنَ في المدينة التي أصبحت عاصمةً للبنان. ألّف لامنس الكثير من الكتب عن محمّد والإسلام من منظور استشراقي أثار تحيُّزُهُ استهجان البعض وإن استمدّ مادّتَهُ من استقراءٍ متعمّق ومبتكر للنصوص والمخطوطات الإسلاميّة.
أستعرض في السطور الآتية كِتَابَهُ الشهير عن تاريخ سورّيا (الرابطان أدناه) الذي صَدَرَ عام ١٩٢١ باللغة الفرنسيّة عن المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت. الكتاب موزع على جزأين، بلغ إجمالي عدد صفحاتِهما حوالي ٥٥٠. الكتاب متوافرٌ بالمجّان على الشبكة وعلى علمي لم يُعرَّب إلى اليوم. لهذا العمل أهميّة خاصة كأحد أوائل المؤلَّفات عن تاريخ سوريّا إن لم يكن أوّلها. السبب بسيط: سورياّ ككيان جغرافي سياسي ولدت مع انتداب فرنسا،عكس سوريّا الجغرافيّة التي يبلغ عمرها آلاف السنوات. يجدر التنويه أن لامنس ألّفَ الكتاب تلبيّةً لطلب الجنرال غورو.
استعرض الكتاب تاريخ سوريّا من منطَلَقٍ معاكس لمعظم ما يُدَرَّس في المناهج الحكوميّة السوريّة التي تعتبر سوريّا "قطراً" في وطنٍ عربيٍّ مزعوم خطَّ تاريخَهُ "العرب الساميّون" منذ البداية. غطّى مصلح السامييّن وفقاً لهذا التعريف "العرب الفراعنة" واستثنى اليهود (اللغة العبريّة ساميّة دون أدنى شكّ ولكن ما علينا) . الفرس واليونان والرومان والبيزنطيّون "غزاة" بينما العرب في القرن السابع الميلادي "فاتحون"، أتى بعدَهم المستعمرون من المماليك والعثمانييّن وهلمّجرّا، حتّى جلاء الفرنسييّن عام ١٩٤٦. لا يقلّ المنظور الإسلامي التقليدي عن تاريخ العرب وسوريّا طرافةً عن المنظور العروبي، عندما يعتبر كلّ ما سبق الإسلام عهوداً جاهليّةً لا داعي لإضاعة الوقت في دراسَتِها ولا حتّى حماية آثارها (على الأقل بالنسبة للوهابييّن المتزمّتين). اعتَبَر لامنس العكس هو الصحيح: تاريخ سوريّا الإسلامي برمّتِهِ انحطاطٌ من الأموييّن إلى العثمانييّن دون استثناء والتدخّل الأوروپّي بما فيه الصليبي أنعش البلاد الرازحة تحت النير الإسلامي.
استهلّ الكاتبُ سَرْدَهُ بفصلٍ تمهيدي لا يتجاوز ٢٩ صفحة لخّص فيه تاريخ سوريّا حتّى الفتح العربي بعنوان "القوميّة السوريّة"، تحدّث فيهِ عن وحدة البلاد الجغرافيّة والعرقيّة وحيويّة السورييّن وكيف استطاعت سوريّا هضم العديد من الغزاة نهايةً بالعهد البيزنطي الذي مزّقته الخلافاتُ الدينية حول الثالوث وطبيعة المسيح، أضِف إليها حروبٌ لا نهايةَ لها ضدّ الفرس. ختمَ لامنس هذا الفصل بظهور ما أسماه الخطر العربي في القرن السابع للميلاد. سلّم المؤلِّف أنّ تلخيص آلاف السنين ببضعة صفحات مبتسرٌ أكثر ممّا ينبغي ولكنّه تذرّع بضيق الوقت الذي منحه إيّاه الجنرال غورو لإتمام الكتاب.
الفصلان الثاني والثالث تعريف بالجزيرة العربيّة وكيف كانت بدايات الإسلام فيها بقيادة محمّد. الفصل الرابع يسرد قصة الفتح العربي لسوريّا نهايةً بتولّي مروان ابن الحكم كرسي الخلافة ويتحدّث عن استغلال الفاتحين لأهل الذمّة الذين أثقلوهم بالضرائب رغم اعتمادهم شبه الكامل عليهِم في الإدارة إذ اقتصرت مساهمة العرب على الشؤؤن الماليّة والعسكريّة. لا داعي للدخول في تفاصيل الحروب الخارجيّة والأهليّة فهي غنيّةٌ عن التعريف. الفصل الخامس عن سوريا في عهد المروانييّن و كيف جرى تعريب الإدارة، وهنا يتعرّض المؤلِّف إلى الإنجازات الفنيّة والمعماريّة كالجامع الأموي وقبّة الصخرة وينتهي بحمّام الدم العبّاسي عام ٧٥٠ للميلاد. الفصل السادس يغطّي الحياة الثقافيّة تحت الأمويين وانتشار الإسلام في سوريّا ووضع الأقليّات الدينيّة والموالي والعبيد كما يتطرّق لزيادة عدد العرب والترف الذي تنعّموا فيه على حساب بقية السورييّن. الفصل السابع يروي قصّة إذلال سوريا تحت العبّاسييّن ثم تفكّك الدولة العباسيّة وصعود نجم الفاطمييّن (اسماعيلييّن) والدروز وصولاً إلى العهد السلجوقي. يتعرّض الكاتب أيضاً إلى الصوفيّة والمتصوّفين.
يفتتح لامنس الفصل الثامن دون مقدمات بالجزم أن مؤلِّف القرآن هو محمّد، ويفصّل مصادر التشريع الإسلامي والمدارس الفقهيّة الأربع قبل أن يتابع التعريف بالصوفيّة ومنها إلى نبذاتٍ عن مختلف الطوائف الإسلاميّة الشيعيّة من اثني عشريّة وزيدييّن واسماعيلييّن ودروز ونصيرييّن نهايةً بالوهّابييّن والبابييّن والبهائييّن.
الفصل التاسع يتحدّث عن توسّع النفوذ الفرنسي و علاقات الإفرنج مع المشرق مروراً بشرلمان. الفصل العاشر مخصّص للحملات الصليبّية والحادي عشر عن تنظيم الدويلات الصليبيّة. يسلّم الكاتب أنّ الإفرنج ارتكبوا بعض المجازر ولكنّه يتدارك فيقول أنّ الروايات عنها مُبَاَلٌغ فيها للغاية وأنّهم - أي الصليبيّن - لم يكونوا أكثر دمويةً من غيِرِهم وأنّ الحروب لم تقطع الروابط التجاريّة بين الغرب والشرق ولا بين المسيحييّن والمسلمين، ويشيد بالازدهار العمراني لسوريّا في ذلك العهد، الذي لم تعرفه البلاد منذالرومان، وبعدالة الصليبييّن مع المسلمين والمسيحييّن مستشهداً بالرحّالة الأندلسي المسلم ابن جبير الذي زار سوريا في أواخر القرن الثاني عشر.
الفصل الثاني عشر يتحدّث عن الفوضى تحت المماليك واستباحة دمشق على يد تيمورلنك كما يستعرض بدايات تشكّل هويّة لبنانيّة. الفصل الثالث عشر عن الفتح العثماني وظهور المعنييّن في لبنان. الفصل الرابع عشر عن بدايات الشهابييّن. الفصل الخامس عشر عن مآثر ضاهر العمر وأحمد باشا الجزّار وبوناپارت. الفصل السادس عشر عن الوهابييّن ومحمّد علي واحتلال ابراهيم باشا المصري لسوريّا وصولاً إلى مجزرة ١٨٦٠ وتأسيس متصرفيّة جبل لبنان.
الفصل السابع عشر عن عهد السلطان عبد الحميد الثاني وبدايات الحركة الصهيونيّة والتغلغل الثقافي الفرنسي في سوريّا. الفصل الثامن عشر عن ظهور جمعيّة الاتّحاد والترقّي أو تركيّا الفتاة، تطوّر الهويّة السوريّة والمطالبة باللامركزيّة، مذابح الأرمن. الفصلان التاسع عشر والعشرون مخصّصان للحرب العالميّة الأولى أو ما عُرِفَ وقتها بالحرب العظمى وهنا لا يفوت الكاتب أن يسخر من تفاهة إسهام "الثورة العربيّة الكبرى" في المجهود الحربي.
الفصل الحادي والعشرون (الأخير) يطنب ويسهب في حبّ السورييّن لفرنسا وعرفانِهم لجميلِها في تحريرِهِم من نير الأتراك ويشير أنّ استطلاعات الرأي أكّدّت - في جميع الأقاليم التي تمكّن أهلُها من الإدلاء برأيهم بحريّة - بما لا يحتمل الشكّ تفضيل الأهالي لانتداب فرنسا على حكم الحجازييّن. فيصل كان ألعوبةً في يد بريطانيا ووافق على مخطّطاتِها في فلسطين، وبالمقارنة أحجم عن التعاون مع غورو النبيل واستفزّ الفرنسييّن وأعمل أنصارُهُ المذابح في رقاب المدنييّن المسالمين تحت حماية فرنسا. كانت النتيجة إنذار غورو الشهير ومعركة ميسلون ثمّ "استقلال سوريّا" تحت وصاية فرنسا. يبرّر الكاتب تقسيم البلاد وخصوصاً فصل "لبنان الكبير" عنها، بضرورةٍ لا مفرّ منها كون لبنان، "عقل سوريا"، أكثر تطوّراً من سائر الشرق الأدنى اقتصاديّاً وفكريّاً وبالتالي كان لا بدّ من مراعاة وضع خاصّ له لا يمنع قيام نوع من التشارك الفيدرالي بين الدويلات السوريّة على المدى البعيد.
بغضّ النظر عن اعتبارات الموضوعيّة والتعرّض لتاريخ سوريّا قبل الإسلام بجرّة قلم، يبقى الكتاب سلس القراءة وغني بالمعلومات رغم افتقاره إلى الصور والمصوّرات. أزيد فأقول أنّ تحيّزَهُ يجعلهُ أكثر جدارةً بالقراءة بهدف الاطّلاع على وجهةِ نظرٍ مغايرة للكليشيهات التي يدرسها العرب عموماً والسوريّون خصوصاً. تعيّن انتظار ٣٠ سنة قبل ظهور كتابٍ آخر عن تاريخ سوريّا بلغةٍ مختلفة (إنجليزيّة) ومن منظورٍ مختلفٍ تمام الاختلاف للدكتور فيليپ خوري حتّي. لهذا حديث مستقلّ.
Henri Lammens. La Syrie : précis historique II.


No comments:
Post a Comment