الملحمة التالية من الأقاصيص الشفويّة التي كانت تروى للأطفال في حيّ الميدان ولا شكّ أنّ جدّتي سمعتها عن أمّها أو إحدى كبيرات العائلة لتنقلها لأحفادها اليافعين ومنهم أنا. سمعت من حكايا ستّي "زيزون وزيزونة" و"كوسا" و"ست لقّاطة" و"عصفور حكّاش نكّاش" و"ابن عمّي وين بدّي نام" و"التلت بنات يلّي بيغزلو وياكلو" و"عيش يا ملك وتنقّى وما بقا بالعمر غير ضرطة بقّة"ولربّما غيرها ومع الأسف نسيت معظمها ولكنّي لم أنس قصّة "بنت أبو جميلة" (بسكون الجيم حسب لهجة أهل الميدان) وقرّرت بالتالي توثيقها للبيان والذكرى:
في قديم الزمان وسالف العصر والأوان مرّ موكب ابن السلطان تحت أسطوح بيت بنت أبو جميلة. ركضت بنت أبو جميلة (١) وخلطت شويّة كولونيا بالماء وسكبتهم على رأس ابن السلطان المارّ في الطريق تحت الأسطوح وعلى الفور صاحت بأعلى صوتها تنادي أمّها: وليعلى آمتي يا أمّي اندلق الطشت ما بعرف كيف وسكبت ميّة غسيل رجليّي على راس ابن السلطان! سمع ابن السلطان (٢) صياحها وقال لنفسه "إذا كانت هي ريحة رجليها شو ريحتها هيّة"؟ وذهب على الفور يطلب من أمّه أن تخطبها له. قالت له أمّه "يا إبني غيّر.. بدّل.." قلّها "أبداً".
ذهبت مرت السلطان إلى بيت أبو جميلة لتخطب الفتاة ودقّت على الباب وأجابوها من الداخل "مييين"؟ أجابت "مرت السلطان" وكان الردّ "وقّفي على الحجّار شدّي الوتّار بينفتح باب الدار". لم تفهم مرت السلطان (٣) وأعادت النداء ليأتيها نفس الردّ "وقّفي عا الحجّار شدّي الوتّار بينفتح باب الدار". بالنهاية شرح أحد عابريّ السبيل من أبناء الحلال لمرت السلطان معنى هذه العبارة قائلاً "يا أختي (٤) وقّفي على الحجرة وشدّي الحبلة بينفتح الباب" وهكذا كان.
دخلت مرت السلطان بيت أبو جميلة فوجدت الخرة يغطّي الأرض وما من بقعة نظيفة تستطيع أن تخطو فوقها ولكن أمّ بنت أبو جميلة (٥) طمأنتها وطيّبت خاطرها وقالت لها: "تئبريني بيت صفيّة دعسي عا اليابسة واتركي الطريّة". بعد أخذ وردّ ومساومة تمّ الاتّفاق على نقد بنت أبو جميلة: سبع صواني دهب وعلى كل صينيّة عقد جوهر.
مع الأسف حسن ضيافة أم بنت أبو جميلة له حدود فهي تعمّدت أن تجعل مرت السلطان تجلس على مواعين مغطّاة بالشحّار ممّا أدّى لاتّساخ إزارها وبالتالي اضطرّت أن تقبل عرض أم بنت أبو جميلة بأن تقصّ المكان المتّسخ من إزارها وترقّعه بقفّة. تركت مرت السلطان البيت العامر لتمشي في الأزقّة ويعيّرها الأولاد الذين سارو ورائها وحولها (بعد أن دفعت لهم أم بنت أبو جميلة بضعة دريهمات وعلّمتهم ماذا يقولون ويردّدون) صائحين "مرت السلطان يا حفّة إزارك مرئوع بئفّة" (٦).
رجعت مرت السلطان على بيتها مقهورة ولكن كان لا بدّ من إتمام الزواج بعد أن حصل المقدور وأصبح ابن السلطان لا ينام الليل من حرقة الهوى ولوعة الجوى.
دخلت العروس الجديدة بنت أبو جميلة دار السلطان وكان أوّل ما فعلته أن وضعت عمّها (أي السلطان) باليوك ثمّ استدارت إلى حماتها (مرت السلطان) وقالت لها: يا حيف ما تعيتي وربّيتي كان البيت بيتك صار البيت بيتي".
كان هذا أكثر ممّا يمكن لابن السلطان أن يتحمّله رغم الحبّ والغرام فذهب ليشكو البنت لأبيها فوجده على الأسطوح يكشّ الحمام: "الطير الأبيض... الطير الأبلق..." وبعد أن كاشفه بنجواه قال له الأب: "يا إبني أنا ما بمون عليها، روح لعند عمّها".
ذهب ابن السلطان للعمّ فوجده في الحمّام عمّا يلعب ببيضاتو قائلاً: "بيضة اليمين مجاري الحماميم.. بيضة الشمال مجاري الحمّام". شكا ابن السلطان همّه فأجابه العمّ: "يا إبني أنا ما بمون عليها، روح لعند عمّتها".
ذهب ابن السلطان للعمّة فوجدها في قصر منيف على بابه الحرس والعبيد وفي داخله الخدم والحشم فاستبشر خيراً وبالفعل استقبل بمنتهى الحفاوة وعندما فاتح العمّة في الموضوع طيّبت خاطره "ولا يهمّك يا إبني أنا بدبّر الموضوع" ولكنّها كانت جالسة طول الوقت ويدها تحت مؤخّرتها وعندما استدار ابن السلطان خارجاً صفعته على قفاه بالخرة الذي تجمّع في راحتها.
أدرك إبن السلطان أخيراً أنّ ها الطينة ليست من ها العجينة فعاد إلى بيته وطلّق بنت أبو جميلة فعادت هذه الأخيرة إلى بيت أهلها وبمجرّد دخولها تجمّعت حولها إخواتها ليسألنها ماذا جلبت لهنّ من بيت ابن السلطان؟ فأجابت "جبت المجلاية بكره بيئومو ليجلو ما بيلاؤها" ففرحت البنات وقلن لها "عفاكي عفاكي ضرّطي على بيت حماكي.. شو جبتي كمان؟" فردّت "سرقتلهمّ المقشّة بكرة بيئومو ليئشّو ما بيلاؤها". ففرحت البنات أكثر وأكثر "عفاكي عفاكي ضرّطي على بيت حماكي" (٧).
(١) الإسم الوحيد المعروف بنت أبو جميلة وليس من الواضح إذا كان الإسم جميلة.
(٢) لإبن السلطان الكثير من الصفات الحميدة ولكن الحدّ الأدنى من النباهة وحسن المحاكمة ليسا منها مع الأسف.
(٣) واضح أنّ مرت السلطان ليست أذكى بكثير من إبنها.
(٤) لا أستطيع أن أفسّر كيف يخاطب رجل من عامّة الشعب مرت السلطان "يا أختي".
(٥) جميع العائلة تنسب لبنت أبو جميلة وليس لأبو جميلة. لا يوجد أسماء غيرها.
(٦) الظاهر الشعب لا يحترم السلطنة ورموزها وأشخاصها الشيء الكثير.
(٧) سرقت بنت أبو جميلة المكنسة أيضاً ولكن فضّلت تجنّب الإطالة.
No comments:
Post a Comment