المؤلِِّف ألبرت حبيب حوراني (١٩١٥-١٩٩٣) مؤرّخ و أكاديمي بريطاني من أصول سوريّة (أو عثمانيّة أو لبنانيّة كون عائلته من مواليد ما يعرف حالياً بجنوب لبنان)، والكتاب "سوريّا ولبنان" من منشورات جامعة أكسفورد ١٩٤٦ متوافر بالمجّان للقراءة والتحميل على الموقع في الرابط أدناه.
يتابع حوراني من خلال حوالي ٤٠٠ صفحة تطوّر الكيانات السوريّة واللبنانيّة حتّى نهاية الحرب العالميّة الثانية، مستهلّاً بحثَهُ بتعريف جغرافي لسوريّا وكيف تغيّر هذا المفهوم في مطلع القرن العشرين ليقتصر بالنتيجة على مكوّناتِها الشماليّة، أي دون شرق الأردنّ وفلسطين. يعطي الكاتب لمحةً تاريخيّةً سريعة بدايةً من الآرامييّن والكنعانييّن (الفينيقييّن) والعبراييّن، ونهايةً بانحطاط وسقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، والتسوية التي جرت بعد ذلك بين الحلفاء الظافرين، وتقسيم سورّيا والعراق إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وإنجلترا.
خصّصَ المؤلِّف حيّزاً لا بأس به لدراسة الوضع في الشرق الأدنى عشيّة الحرب، والتوازن الطائفي أو ما عُرِف بنظام "الملّة" تحت العثمانييّن، وكيف احتفظت الطوائف بموجب هذا النظام باستقلال نسبي في إدارة أمورها الدينيّة والعشائريّة. نأتي بعدها إلى قصّة تغلغل النفوذ الغربي والأوروپي الاقتصادي والفكري وظهور مفهوم القوميّة العربية وتنامي الهجرة اليهوديّة عبر المشروع الصهيوني.
فصّلَ حوراني في موضوع الأقليّات، ليس فقط الدينيّة، وإنّما أيضاً الإثنيّة واللغويّة (أكراد، أرمن، شركس، تركمان) مع تركيز خاص على لبنان وكيف سعى الغرب إلى تعزيز نفوذِهِ بالتعاون مع بعض الطوائف منذ مئات السنين، من شرلمان مروراً بالصليبييّن وحتّى نظام الامتيازات في العهد العثماني.
ندخل بعد ذلك في صلب الموضوع، أي الانتداب الفرنسي الذي صادقت عليهِ عصبة الأمم في السابع من تمّوز يوليو عام ١٩٢٢، وتقلّبات هذا الانتداب، والمحاولة الفاشلة للوصول إلى معاهدة بين فرنسا وسوريا عام ١٩٣٦ التي يفترض أن تستقلَّ بموجِبِها هذه الأخيرة تحت الوصاية الفرنسيّة، ثمّ التنازل عن لواء اسكندرون لصالح تركيّا وتوقيع اتّفاقيّتِهِ من قِبَل الفرنسييّن والأتراك في الثالث والعشرين من حزيران يونيو عام ١٩٣٩.
تمخّضت الحرب العالميّة الثانيّة وهزيمة فرنسا على يد الألمان عن تدهورٍ كبير في نفوذ وهيبة پاريس في الشرق الأدنى، ومنه محاولتها استرضاء السورييّن بإعلان الجنرال كاترو استقلال بلادِهم في الثامن والعشرين من أيلول سپتمبر ١٩٤١. حاول الفرنسيون جهدَهم إقناع السورييّن بقبول اتفاقيّة تحكم العلاقات بين البلدين، على غرار معاهدة ١٩٣٦ التي رفض الپرلمان الفرنسي تصديقها في حينه؛ بيد أنّ الموقف التفاوضي الفرنسي في الأربعينات كان أضعف كثيراً منه في الثلاثينات، ولم يكن الإنجليز في صدد التعاون مع الفرنسييّن. استغلّ السوريّون الوضع العالمي الجديد ونجحو في نيل استقلالهم والجلاء الذي سبقه اعتراف الاتّحاد السوڤيتي والولايات المتّحدة عام ١٩٤٤. بالطبع كان للضغط البريطاني على فرنسا الباع الأطول في إجبارها على الانسحاب. ردّت سوريا ولبنان جميل إنجلترا بإعلان الحرب على ألمانيا في شباط ١٩٤٥؛ ينطبق على مساهمتهم في المجهود الحربي المثل الشامي "الله يطعمك الحج والناس راجعة"، أو حتّى "كل ما حدا بيت السلطان خيلهم بتمدّ الخنفسة رجلها".
لم يكن تدهور بريطانيا واضحاً وقتها لمعظم الناس، بما فيهم الكثير من الساسة والمفكّرين الإنجليز - ألبرت حوراني نفسه على سبيل المثال. غطّت الاحتفالات بالنصر وخطب الساسة العصماء على خسائر إنجلترا في الحرب وخروجها منها مثقلةً بالديون، وتعاملت بريطانيا ظاهريّاً مع الروس والأمريكييّن من موقع نديّة. اقتضى الأمر عقداً إضافياً من الزمن وأزمة السويس عام ١٩٥٦ (*) حتّى يعرف البريطانيّون محلّهم من الإعراب الذي التزموا بهِ وبالخطّ الأمريكي بأمانة أسوةً بالفرنسييّن مع احتمال استثناء عهد ديغول في الحالة الأخيرة.
(*) أكرهت الولايات المتحدة فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على التراجع عام ١٩٥٦، في أسلوبٍ يمكن مقارنتهُ بالضغط الذي مارسَهُ الإنجليز على الفرنسييّن للانسحاب من سوريّا في منتصف الأربعينات. أخلت إسرائيل سيناء عملياً صفر اليدين.
| إحصاء سكان سوريا (١٩٣٨) ولبنان (١٩٤٢) حسب المقاطعات؛ لا يشمل نصف مليون بدوي في سوريّا ولا لواء اسكندرون. من الواضح أنّ لبنان أكثف سكّانيّاً من سوريّا |

No comments:
Post a Comment