عاشت سوريّا عاماً ونصف العام، من ٢٨ أيلول ١٩٦١ إلى ٨ آذار ١٩٦٣، تحت ما سُمّي لاحقاً بعهد الانفصال. نستطيع بعد انصرام أكثر من نصف قرن على هذه الفترة، أن ننظر إليها كمرحلةٍ انتقاليّة، شَهِدَت آخر ظهور الرعيل القديم على المسرح السياسي، أي زعامات سوريّا التقليديّة التي لعبت على مدى القرون دور الوسيط بين السلطة المركزيّة في القسطنطينيّة ومن بعدها سلطات الانتداب الفرنسي من جهة، والشعب السوري من جهةٍ ثانية. قام هذا الرعيل القديم أو ما أطلق عليه ألبرت حوراني وفيليپ خوري تسمية "أعيان الحضر"، بقيادة سوريّا في مطلع عهد الاستقلال ظاهريّاً (أي كواجهة للحكم العسكري في بداية عهد الانقلابات)، أو فعليّاً - مع استمرار نفوذ الجيش من وراء الكواليس - حتّى الوحدة مع مصر في شباط ١٩٥٨، وعاد إلى سدّة الحكم بشكلٍ أو بآخر، أو على الأقل هكذا بدت الأمور بعد انقلاب عبد الكريم النحلاوي عام ١٩٦١، الذي أنهى تجربة الوحدة.
هناك إلى يومنا من ينشد المدائح في عهد الانفصال الذي خلّص سوريّا من "الطاغية" المصري - ذهب بعضهم إلى حدّ إعلان الوحدة "يوم حداد وطني" -، وآخرون يلعنون هذه الفترة التي كرّست تجزئة "الأمّة العربيّة". لربّما وقعت الحقيقة في مكانٍ ما بين هذين النقيضين. في كلّ الأحوال تقتضي الموضوعيّةُ التذكيرَ أنّ من حكم سوريا في هذه الفترة كان الجيش وليس المدنييّن، وأنّ الصراع على السلطة بين الضباط هو الذي رسم الأحداث وأدّى بالنتيجة إلى سقوط النظام. لربما اعتقد البعض أنّ مقاليد الأمور كانت بيد ناظم القدسي وخالد العظم ومأمون الكزبري وغيرهم من الزعامات المدنيّة التقليديّة، بيد أنّ الحلّ والربط كان في نهاية المطاف حكراً على الجيش. بالطبع لا يختلف عهد الخمسينات "الديمقراطي" في هذا الصدد عن عهد الانفصال في الجوهر وإن تباينت التفاصيل.
لا يوجد الكثير من الكتب المخصّصة لهذا العهد، ومعظم المتوافر لا يتجاوز تبادلاً رخيصاً لاتّهامات في غياب الأدلّة، أو محاولاتٍ مبتذلة لتمجيد وتبرئة الذات. أمثلة عن النوع الأول عملٌ تافه لنهاد الغادري بعنوان "الكتاب الأسود في حقيقة عبد الناصر"، الذي أثبت فيه الكاتب - أو هكذا اعتقد - بما لا يحتمل الشكّ أنّ عبد الناصر "عميل" وأنّه "باعنا جميعاً". هناك أيضاً كتاب أو بالأحرى كتيّب لا يقل تفاهةّ عن بنات أفكار الغادري بعنوان "مؤتمر شتورة نهاية طاغية". أضف إلى هذين الكتابين خضمّاً من المقالات الرخيصة تستمدّ وحيَها من نفس المشكاة.
النوع الثاني من الكتب - التي يدافع مؤلّفوها عن أنفسِهم ومواقِفِهم - هو مذكرات بعض أبطال هذه الحقبة، أخصّ بالذكر بالتنويه منها "مذكّراتي عن فترة الانفصال في سورية" للفريق عبد الكريم زهر الدين، الذي كرّس كتابَهَ للبرهنة على وطنيّة وإخلاص وعفويّة ونزاهة الكاتب، والتي كوفئت بالجحود والتآمر والأنانيّة وقصر النظر من الجميع وعمليّاً دون استثناء. أُلْحِقُ بالمقال اقتباساً من الصفحة ٣٧٩، عندما ذهب زهر الدين إلى رئيس الجمهوريّة ناظم القدسي وطلب منه أن يعترف بالانقلاب العراقي على نظام عبد الكريم قاسم في شباط ١٩٦٣، وكيف استشاط القدسي غضباً وصرخ في وجه زهر الدين بما معناه أنّ هذا الاختصاص سياسي وليس عسكريّاً. كان القدسي محقّاً دون أدنى شكّ وإن كان هذا أكثر ممّا يستطيع أن يستوعبه ذهن زهر الدين البليد. كتاب آخر يستحقّ الإشارة إليه مذكّرات خالد العظم، التي شملت طبعاً حياتَه السياسيّة ككلّ وليس فقط عهد الانفصال. لم يحد العظم عن نهج زهر الدين في مدح الذات وهجاء الآخرين باسثناء أنّه كان أحدّ لهجةً في الشتيمة والتخوين.
ليس تحمّل المسؤولية والاعتراف بالخطأ من شِيَم السياسييّن عموماً، لا في سوريّا ولا غيرها، وطالما أقنع هؤلاء أنفسهم خلافاً لكل منطق بتجرّدِهِم ومثاليّتِهم. أستشهد هنا بمقطع من المقابلة المتلفزة والمطوّلة بين عبد الكريم النحلاوي، عرّاب انقلابات عهد الانفصال بامتياز، وإعلامي الجزيرة أحمد منصور بعد خمسة عقود من الأحداث أعلاه، عندما برّر النحلاوي أفعالَهُ بمحاولاتِهِ في "منع تدخل الجيش بالسياسة". ما كان لمحاورٍ مخضرم كمنصور أن يمرّر فرصةً كهذه للسخرية من النحلاوي وأجابه على التوّ: "كل ده و ما تدخلتوش بالسياسة؟! أمّال لو كنتو تدخلتو بالسياسة كنتو عملتو إيه؟!" لربما صدّقَ النحلاوي فعلاً ما قاله، أو علّ الموضوع لا يتجاوز زلّة لسان، ولكنّه بالتأكيد ليس أوّل من فكّر بهذه الطريقة ولن يكون آخرهم.



No comments:
Post a Comment