Thursday, December 14, 2017

البلاذري وفتوح البلدان


رأينا كما سبق أنّ الفضل يرجع للبلاذري في أحد أهمّ وأقدم الكتب التي تؤرّخ الفتوحات الإسلاميّة كما رأينا أنّه مات عام ٨٩٢ للميلاد أي إمّا في نهاية خلافة المعتمد على الله أو بداية عهد المعتضد بالله العبّاسيّين. ماذا عن الفترة الزمنيّة التي يغطّيها كتاب فتوح البلدان؟ 



يبدأ البلاذري من دخول محمّد إلى المدينة (أي بداية التقويم الهجري) ويعطي تفاصيل محدودة ولكنّها ثمينة عن بناء مسجد النبي في يثرب-المدينة وتوسّعاته في العهود اللّاحقة ولكنه لا يتعرّض لغزوتي بدر وأحد بل ينتقل بغتة دون مقدّمات إلى طرد يهود قينقاع الذين "نقضوا عهدهم" دون أيّة تفاصيل عن كيف ولماذا وإن وجب أن نذكر (المقال السابق) أنّ ما لدينا نسخة مختصرة لمخطوط البلاذري. هناك تفاصيل أكثر عن طرد يهود النضير ومن ثمّ قتل وسبي يهود قريظة ومع ذلك بقي هناك وجود يهودي في خيبر ومسيحي في نجران إلى أن طردهم عمر إبن الخطّاب. 

آخر أحداث فتوح البلدان تدور في عهد الخليفة العبّاسي الثالث عشر أي المعتزّ بالله (٨٦٦-٨٦٩) وبالتالي يغطّي الكتاب حوالي ٢٥٠ سنة وعمليّات عسكريّة امتدّت من الجزيرة العربيّة جنوباً إلى تخوم آسيا الصغرى شمالاً ومن السند وتركستان شرقاً إلى شمال إفريقيا وإسبانيا غرباً ولكنّه لا يتعرّض للغارات على فرنسا و"بلاط الشهداء" ولا إلى محاولات الأموييّن المتكرّرة والفاشلة لأخذ القسطنطينيّة. بالنسبة لحروب الفتنة فلا معلومات عنها تستحقّ الذكر باستثناء الردّة ومسيلمة الملقّب بالكذّاب وإذا ذكرت أحداث كوقعة الجمل (بين علي من جهة وعائشة مع طلحة والزبير من جهة ثانية) أو معركة صفّين (علي ضدّ معاوية) أو كربلاء (مقتل الحسين) أو إبادة الأموييّن على يد أبي العبّاس وصحبه أو القتال بين الأمين والمأمون فهي تذكر بشكل عابر وفي سياق لا علاقة مباشرة له بها (أحياناً لا تذكر على الإطلاق).  هناك بالمقابل تيهور من المعلومات عن الأمور الفقهيّة المتعلّقة بتوزيع الأراضي والمياه وغنائم الحرب وأموال الجزية والخراج بين المسلمين حسب قربهم من النبي وإسهامهم في المجهود الحربي. 

يستحيل أن يلخّص المرء بصفحتين أو ثلاثاً أحداثاً كان مسرحها رقعة جغرافيّة بهذا الاتّساع وامتدادها الزمني بهذا الطول وبالتالي أقتصر على بعض الاستنتاجات على الهامش رأيتها جديرة بالذكر والذكرى:

أوّلاً: يخلط الكثيرون بين الفتوحات العربيّة وأسلمة جنوب وغرب آسيا وشمال إفريقبا. الفتوحات العربيّة كانت -على الأقلّ خارج الشرق الأدنى- ذات طبيعة مؤقّتة وكانت أشبه بالغارات منها إلى الفتوحات إذ كثيراً ما اضطر العرب المسلمون إلى "فتح" نفس المكان مثنى وثلاث عندما شقّ عصا الطاعة ورفض دفع الأتاوة-الجزية. النتيجة المنطقيّة أنّ الإمبراطوريّة العربيّة العظمى كانت مهابتها على الورق أكثر من قوّتها الحقيقيّة والعهد الأموي الذي بلغت فيه رقعة هذه الإمبراطوريّة أقصى اتّساعها كان في واقع الأمر زاخراً بالفتن الأهليّة كالتي أشعلها عبد الله إبن الزبير وأخوه مصعب قبل أن يخمدها الحجّاج إبن يوسف الثقفي وقد اضطرّ عبد الملك إبن مروان إلى دفع الجزية لإمبراطور بيزنطة (كما فعل قبله معاوية) كي يتفرّغ لحرب إبن الزبير. ما أنهى الدولة االأمويّة هو فرط التمطّط الإمبراطوري (Paul Kennedy) عندما عجزت مواردها على ضخامتها عن حماية المساحات الشاسعة التي أصبحت عبئاً على الدولة بعد أن كانت مصدر رزق للعسكر الغزاة وذويهم. امتداد الإسلام للهند وإندونيسيا وإفريقيا وغيرها كان لاحقاً وعلى يد التجّار والمتصوّفين (مغامرة الإسلام للمستشرق Marshall Hudgson) الذين نجحوا في تكييف العقيدة لتتلائم مع الأعراف والتراث المحلّي وليس على يد الفاتحين. 

ثانياً: موضوع شهامة وتجرّد الفاتحين المسلمين و"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب" مبالغ فيه للغاية. كان نصيب سوريا أفضل بما لا يقاس من غيرها -على الأقلّ حتّى مجيء العبّاسييّن- لأنّها كانت مركزاً للإمبراطوريّة ونقطة الانطلاق لكثير من الفتوحات ولكنّ الأقاليم النائية عانت الأمرّين من الفاتحين الذين لم يتورّعوا عن ضرب أعناق القادة وذبح الرجال في سنّ حمل السلاح وسبي النساء والأطفال في العديد من الأمكنة حتّى عندما استسلم "المشركين" وفتحوا أبوابهم. هذا ليس رواية أعداء المسلمين بل روايتهم هم  والبلاذري يذكرها كأمر مسلّم به ونظرته لها أبعد ما تكون عن السلبيّة. عندما قبل العرب الجزية نقداً أو عيناً لجأت بعض الشعوب التي تفتقر إلى المال إلى القبول باستعباد شبابها وفتياتها من قبل العرب الفاتحين كطريقة للدفع. بالطبع عندما خسر المسلمون معركة عاملهم "العجم" و"المشركون" بالمثل. 

ثالثاً: رواية البلاذري أشبه ما تكون بالسجلّات المسماريّة الآشوريّة أو الفرعونيّة القديمة من عدّة نواح منها المبالغة إلى درجة الكاريكاتوريّة في عدد وعدّة الأعداء ويتبع هذا وصف جبن الخصم وبطولات العرب وإن خسروا بعض الشهداء ثمّ وصف مفصّل للأسلاب وكيف تمّ تحصيصها بين الغزاة. يقول الكاتب بكل صراحة أنّ بعض محاربي الفاتحين كانوا يطمعون بالشهادة بينما البعض الآخر انضمّ إلى القتال طمعاً بالغنيمة.

رابعاً: ما يقرّر هدم المعابد "الوثنيّة" أو الإبقاء عليها وقتل "المشركين" أو حقن دمائهم عوامل نفعيّة وعمليّة بالدرجة الأولى إذ قبل الفاتحون في عدّة أماكن الجزية من المجوس وسمحوا لهم بالإبقاء على معابد النار وطبّقوا نفس المنهج مع بعض البوذييّن. أي أنّهم عاملوهم كما عاملوا "أهل الذمّة" المسيحييّن واليهود. 

أخيراً الكتاب منجم ذهب لهواة اللغة العربيّة فمثلاً تعلّمت منه معنى كلمة "العلوج" أو "الأعلاج" حمع علج (من يذكر الصحّاف) والتي ترجمها الدكتور حتّي بالرجل الأغلف (أي غير المختون). وهناك أيضاً بعض التفاصيل الساخنة بلغة شبه إباحيّة عندما اتّهم بعضهم المغيرة إبن شعبة بالزنا ولكن عمر أمر بجلد ثلاث شهود لأنّ الرابع لم ير الجماع بأمّ عينه وهناك أيضاً نادرة عمر عندما صادر أموال "عدوّ الله والمسلمين أبو هريرة" متّهماً إيّاه بالاختلاس.





No comments:

Post a Comment