لا تزال دراسة المستشرق Richard Thoumin في كتابه Géographie Humaine de la Syrie Centrale أقضل الموجود باللغة الفرنسيّة -ولربما على الإطلاق- عن غوطة دمشق ونظام الريّ فيها رغم انقضاء أكثر من ثمانين عاماً على صدورها. يعتمد هذا البحث على معلومات جمعها الدكتور Thoumin بين الأعوام 1924 و 1931 وبالطبع تغيّر الكثير الكثير من ذلك الوقت إلى اليوم ومع ذلك تبقى هذه المعلومات المفصّلة مصدراً لا يقدّر بثمن يعكس وضع حال واحة مدينة دمشق لمدّة المئات إن لم نقل الآلاف من السنين.
تتناقص كثافة السكّان في دمشق بالتدريج من المركز والمدينة مروراً بالغوطة الشديدة الخصوبة ومن ثمّ إلى المرج الأفقر بالنبات في الشرق والذي يتلاشى تدريجيّاً في بادية الشام. من المتعارف عليه أنّ دمشق هبة بردى وأنّه لولا بردى لما كانت هذه الجنّة في وسط الصحراء ولكن هذا الكلام تنقصه الدقّة: دمشق أو بالأحرى غوطة دمشق هبة ثلاث أنهار (وإن لم تتساوى أهميّتها): منين من الشمال، وبردى من الشمال والغرب، والأعوج من الجنوب. الماء بالغ الأهميّة في سوريا الداخليّة وأهمّ كثيراً من الأرض في المناطق التي يشّح فيها المطر والتنازع على ملكيّة المياه وحقّ الإنتفاع بها قديم وقد شغل العلماء والفقهاء والمجتهدين لقرون وقرون.
بالنسبة لنهر منين فهو أهمّ مصادر المياه في القلمون ولكنّه بعد مروره بالتلّ ومن ثمّ السلسلة الأولى من جبال القلمون ينتهي بسهل دمشق ويروي برزة قبل أن يرفد مياه نهر أو قناة يزيد شرق الصالحيّة ليساهم في سقي أرض القابون وحرستا. هنا تجدر الإشارة أنّ أهميّة يزيد تتناقص بعد خانق الربوة إذ تستهلك معظم مياهه في دمّر والهامة ومن هنا أهميّة منين شمال وشرق دمشق.
يلعب نهر الأعوج (ينبع من السفوح الشرقيّة لجبل حرمون أو جبل الشيخ) في الجنوب دوراً يمكن مقارنته بمنين في الشمال إذ أنّه يساهم مع فرع بردى الديراني أو الداراني في سقاية أراضي داريّا وبالتنيجة يصبّ شرقاً في بحيرة الهيجانة (كما يصبّ بردى أو بالأحرى بقايا بردى بعد مروره بالمدينة وغوطتها في بحيرة أو سبخة العتيبة).
نأتي الآن إلى بردى وهو بالطبع أهمّ هذه الأنهار الثلاثة وهو بالدرجة الأولى ما جعل غوطة دمشق "أغنى منطقة زراعيّة في غرب آسيا" حسب تعبير المؤلّف. ينبع هذا النهر القديم قدم التاريخ من جبال لبنان الشرقيّة ويتابع بعد سهل الزبداني مساره في الوادي المعروف بإسمه ويضيف عين الفيجة على الطريق إلى مياهه حوالي 30-60% قبل أن يطلّ على صنيعته واحة دمشق من خانق الربوة ويتفرّع إلى عدّة أقنية تتفاوت من حيث نتاجها (وبالتالي أهميّتها) وتوزيعها وتاريخ شقّها. أولوية الإنتفاع بالمياه في المدينة للجوامع أوّلاً وعلى رأسها الأموي ثمّ الحمّامات ثمّ الناس حسب مكانتهم الإجتماعيّة (حصّة الأحياء المسلمة من المياه تفوق مخصّصات الأحياء المسيحيّة واليهوديّة وهنا تأتي أهميّة الآبار).
يمكن النظر إلى فروع بردى من الغرب إلى الشرق كسلسلة من "المراوح" تبدأ المروحة الأولى منها عند خانق الربوة لتعطينا شمال النهر قناتا يزيد وتورا (ويعتبر المؤلّف هذا الأخير أهمّ فروع بردى على الإطلاق) وجنوبه المزّاوي (وأهميّته تتناقص بعد خانق الربوة) والديراني والقنوات وبانياس. القنوات وبانياس أهمّ الأنهر بالنسبة للمدينة القديمة والتي تأخذ أيضاً بعض المياه من تورا ولكن اعتمادها الرئيس على القنوات. مسار هذه "الأنهار" معروف ويمكن متابعته على الخرائط الملحقة وأضيف أنّ نهر بانياس (يمرّ خلف المتحف الوطني ويتّجه شرقاً إلى القلعة عندما يتفرّع منه نهر قليط باتجاه الجنوب) أهمّ قنوات الصرف الصحّي -سياقات- في دمشق. لا أستطيع هنا الدخول في نظام الطوالع فهذا حديث طويل.
تؤدّي هذه الفروع مهمّتها في سقاية الغوطة من الغرب إلى الشرق ويعود القسم الأكبر من مياهها بالنتيجة ليصبّ في نهر بردى الذي يتوسطها ويتفرّع عنه لدى خروجه من شرق المدينة المروحة الثانية من الأقنية من الشمال إلى الجنوب: العقرباني ثمّ الداعياني ثمّ المليحي وتأتي بعدها إلى الشرق المروحة الثالثة لسقاية الزور (وهو القسم الأكثر إنخفاضاً والأكثر تروية في الغوطة) والتي لا مجال لتعداد فروعها هنا (التي تتفرّع بدورها إلى سواقي لا نهاية لها أو تكاد) وحسبنا أن نعرف أنّ الفرع يأخذ اسم المكان الذي ينتهي فيه والذي عادة لا يصله إلّا ما تبقّى من هذه المياه فمثلاً الزبديني ينتهي بزبدين والجسريني بجسرين والدوماني في دوما وهكذا دواليك.
إذا كان لي مأخذ على هذا السرد الجميل وهذا الفيض من المعلومات عن دمشقنا وغوطتنا فهو أنّ المؤلّف لم يجشّم نفسه عناء إيراد تسمية الأمكنة بالأبجديّة العربيّة ممّا قد يخلق التباساً لدى من لا يعرف هذه الأمكنة أو لدى القرّاء الذين لا يملكون خلفيّة أكّاديميّة خاصّة وأنّ قلب هذه الأسماء إلى الأحرف اللاتينيّة transliteration يختلف كثيراً حسب المصدر أو المصادر.
No comments:
Post a Comment