لكل إنسان ملء الحقّ بتحديدِ هويّتِهِ، وما ينطبقُ على الأفراد ينطبقُ على الدول. لدينا على سبيل المثال الجمهوريّة "العربيّة" السوريّة، والمملكة "العربيّة" السعوديّة، والإمارات "العربيّة" المتّحدة، وجمهوريّة مصر "العربيّة"، وجامعة الدول "العربيّة". قد لا يوافق جميع المصرييّن أو السورييّن على كونِهِم عرباً وجميعنا نعلم أنّ معظم سكّانَ الإمارات أجانبٌ. مع ذلك تبقى اللغةُ العربيّة، أهمُّ مكوّناتِ الشخصيّةِ العربيّة، لغةً رسميّةً في جميع هذه الدول، بل هي اللغةُ الرسميّةُ بامتياز.
يصْعُبُ تمييزُ العروبةِ عن اللغةِ العربيّة. مِنَ العرب مَنْ هم آسيويّون أو إفريقيّون، شرقيّون أو مغاربة، بيض البشرة أو سُمْر اللون، مسلمون أو مسيحيّون أو يهود أو لا دينيّون ... جميع هؤلاء، على الأقلّ نظريّاً، يتكلّمون العربيّةَ كلغةٍ أمّ. الشرط اللازم، وإن لم يكن بالضرورة الشرط الكافي، للعروبة إذاً هو "لسان الضاد" الذي "يجمعنا بغسّانٍ وعدنانِ".
____________
نأتي الآن إلى هذا المجلّد الفاخر المطبوع على ورقٍ صقيل والمزيّن بالعديد من الصور بنوعيّةٍ ممتازة بعنوان "عواصم الثقافة الإسلاميّة الأولى". صدر الكتاب عام ٢٠١٤ بمناسبة اختيار إمارة الشارقة "عاصمةً للثقافةِ الإسلاميّة" تحت رعاية صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمّد القاسمي، وبتعاون الخبرات الألمانيّة - الإماراتيّة (متحف برلين مع متحف الشارقة)، وتمويل سخي من إدارة متاحف الشارقة. أسْهَمَ العديدُ من المؤلّفين في هذا العمل، بعضُهم من العرب، ومعظمهم أوروپيّون بينهم الألماني Stefan Weber. الكتابُ موزّعُ بالتساوي على قسمين، أحدهما بالعربيّة والثاني بالإنجليزيّة ٧٠ + ٧٠ = ١٤٠ صفحة يحتويان على نفس الصور ونفس المعلومات بلغتين مختلفتين.
يمكن تسمية لغة القسم الأوّل بالعربيّة تجاوزاً، كونها بلغت من الركاكةِ حدّاً فيه أكثر من الكفاية ليتحرّك المعلّم الراحل يوسف الصيداوي في قَبْرِهِ، حتّى أنّني ظَنَنْتُها في البداية ترجمة google إلى أن استدركتُ أنّه من غير المحتمل أن تكون هذه الأخيرة على هذه الدرجة من السوء، دَعْ جانباً التخبيص بالأسماء والحقائق التاريخيّة. لدينا لحسن الحظّ النصّ الإنجليزي الأفضل بما لا يقاس لغويّاً وعلميّاً، ونستطيع عن طريقِهِ تدقيق وتصحيح النصّ العربي. أورِدُ بعضَ الأمثلة وما هي إلّا غيض من فيض:
- صفحة ١٥: جامع قرطبة وقاعة الصلاة بنيت نحو ٧٨٤ و ٩٨٧ للميلاد. "نحو" هنا تعريب between.
- صفحة ٢٩: على الخريطة مدينة واسط (بين البصرة والكوفة) اسمها "الوسيط".
- صفحة ٣٨: ذَكَرَ النصُّ العربي الخليفةَ الأموي "اليزيد" والإنجليزي الوليد بن يزيد. الثاني هو الصحيح طبعاً.
- صفحة ٤٤: "بغداد ومينائها في الشمال البصرة".
- صفحة ٤٧: "بناء مدينة سكنيّة أخرى غير الرقّة" بينما المدينة المذكورة تحديداً هي الرقّة!
- صفحة ٦٥: تعريب next to "على عكس".
يتعذّرُ في عدّةِ مواضع فهمُ النصّ على الإطلاق دون الرجوع لمقابِلِهِ الإنجليزي: تعريبُ المفرداتِ خاطئٌ، وصياغة الجمل ميؤوسٌ منها، أمّا عن الأغلاط النحويّة فحدّث ولا حرج. هل نسي إخوانُنا وأخواتُنا في الشارقة لغتَهُم العربيّة؟ وإذا كان الأمر كذلك أليس بإمكانِهِم استشارة أساتذة مصرييّن أو سورييّن أو فلسطينييّن أو لبنانييّن يستطيعون رصف بعض الأسطر بلغةٍ عربيّة شبه مقبولة؟ وبفرض غياب هذا الخيار، علام يجشّمون أنفسَهم عناءَ الترجمة إلى ما يعتقدون أنّه العربيّة على الإطلاق؟ هل يجوز في عرفٍ أو منطق الخلط بين الوليد ويزيد لمن يكتب عن التاريخ الإسلامي، وهل هناك طالب ثانوي متوسّط المستوى أو حتّى إعدادي في الشرق الأدنى يجهل أنّ البصرة تقع جنوب بغداد وليس العكس؟
لا يسعني في النهاية إلّا أن أشكر الجهات المسؤولة في دولةِ الإمارات الشقيقة، عضو جامعة الدول العربيّة، على اهتمامِها بالتراث الإسلامي عموماً ودمشق وبغداد خصوصاً، وأملي أن أرى في مستقبلٍ قريب طبعةً ثانيةً معدّلة ومنقّحة، بلغةٍ عربيّةٍ سليمة إذا وقَعَت على أسماعِنا كانت لنا بَرَداً على الأكبادِ.

No comments:
Post a Comment