مقالٌ بطول ٢٥ صفحة بالفرنسيّة للأخ الدومينيكاني Cyrille Jalabert، من منشورات معهد دمشق الفرنسي ومجلّة الدراسات الشرقيّة عام ٢٠٠١. حاولَ الكاتبُ استقراءَ المعطيات التاريخيّة بهدف تسليط الأضواء على فترةٍ زمنيّةٍ بَلَغَت أربعةَ قرونٍ خَلَت أو كادت من النصوص المعاصرة عن تاريخِ عاصمة الأموييّن.
____________
ظَلَّ المسلمون أقليّةً في دمشق طوالَ العهد الأموي، ولم يقم الفاتحون بمحاولاتٍ جدّية لحَمْلِ الأهالي على اعتناق الدين الجديد، وإن أعطى بعضُهُم (١) حوافزاً لتبنّي الإسلام تمثّلَت في إجراءاتٍ معيّنة للتمييز ضدّ الذميّين. شَهِدَت الفترةُ بين القرنين التاسع والقرن الحادي عشر للميلاد تزايداً مضطّرداً في عددِ المسلمين ذوي الأصول المسيحيّة أو اليهوديّة، وأصبحت أكثريّةُ دمشقِ مسلمةً مع نهاية القرن الحادي عشر للميلاد. تعزّزَ عددُ المسلمين اعتباراً من مطلع القرن الثاني عشر بنزوحِ العديدِ من أهلِ فلسطين فراراً من الصليبييّن.
تحديدُ عددِ سكّانِ دمشق أو غيرها في القرون الوسطى أمرٌ مستحيل، بَلْهَ توزيعهم الطائفي، وما نملكه في هذا الصدد تقديراتٍ ليس إلّا. سَادَ هذا الوضعُ في الشرق الأدنى حتّى القرن التاسع عشر، ومع ذلك بإمكانِنا أخذ فكرة عن تطوّر المجتمع العددي والطائفي عَبْرَ كتابات ابن عساكر (القرن ١٢) وابن شدّاد (القرن ١٣)، إذ ذكر الأوّل ٢٤٢ مسجداً داخل سور المدينة و ١٧٨ خارجها، بينما أعطى الثاني رقم ٢٨٨ في الداخل و ٣٧٢ في الخارج. بالمقابل، سواءً رجعنا إلى ابن عساكر أو ابن شدّاد، لم يتجاوز عدد الكنائس المسيحيّة والكنس اليهوديّة العشرين، بما فيها المتهدّمة والتي حُوِّلَت إلى مساجد (٢). بحسنُ هنا التذكير أنَّ كلَّ جامعٍ مسجدٌ، بيد أنّ العكسَ ليس صحيحاً على اعتبار أنّ بعض المساجد ولربّما معظمها صغيرٌ للغاية. مع ذلك الاتّجاهُ واضحٌ لا لبس فيه: أصبحت دمشق على الأقلّ بدايةً من القرن الحادي عشر فصاعداً مدينةً إسلاميّةً ديموغرافيّاً وثقافيّاً وسياسيّاً.
____________
لا بدّ لأيِّ دين من مقدّساتِهِ وذخائرِهِ، ولا مناص - في البدايات على الأقلّ - من الاستعارةِ من الثقافةِ والتراث المحلّيين بهدفِ انسجامِ العقيدة الجديدة مع بيئتِها المُتَبَنّاة. عمائرٌ مثل الجامع الأموي وقبّة الصخرة إنجازاتٌ عظيمةٌ ما في ذلك من شكّ، ولكنّها لا تكفي، وبالتالي لجأ المؤمنون إلى استعارةِ بعض السير المسيحيّة واليهوديّة من الكتاب المقدّس، وإعطائِها حلّةً إسلاميّةً؛ هناك على سبيل المثال رأس يوحنّا المعمدان (٣)، وبرزة التي أصبحت موطناً لإبراهيم، والربوة لعيسى أو يسوع ابن مريم وأمِّهِ، ومغارة الدم في قاسيون حيث يفترض أنّ قابيل قتل هابيل وهلمّجرّا.
انتقلَ المسلمون بعد أن استتبَّ لهم الأمر إلى المرحلة الثانية التي تمثّلت بخلق تراث مادّي إسلامي صرف وجَعْلِهِ موضعاً للتبجيل وقِبْلَةً للزوّار، مع التركيز على محمّد والصحابة وأهل البيت والخلفاء (٤). انتشرت هذه الظاهرة اعتباراً من القرن الثاني عشر وعلى سبيل المثال:
- المصحف العثماني الذي أُتيَ بِهِ من طبريّا إلى دمشق عام ١٠٩٩.
- أثر قدم محمّد على حجرٍ أسود انتقل إلى المدرسة المجاهديّة من حوران في منتصف القرن الثاني عشر (٥).
- نعل محمّد وقصّتُهُ طريفةٌ: نَقَلَ العلموي عن النعيمي أنّ السلطان الأيّوبي الأشرف موسى امتَلَكَ فردةَ حذاءٍ للنبي، وأنّ الفردة الثانية كانت في حوزة ابن أبي الحديد الذي رَفَضَ بَيعَها رغم المال الجزيل الذي عرضه عليه الأشرف لقائَها. استطاعَ السلطان اقتنائها بعد وفاة المالك، وعظَّمَها وجَعَلَها في دار الحديث الأشرفيّة. مع الأسف فُقِدَ النعل بفردتيهِ عندما استباح تيمورلنك دمشق عام ١٤٠٠ - ١٤٠١.
أضِف إلى ما سبق انتشار المدارس كمؤسّساتٍ لنشر الإسلام السنّي اعتباراً من نهاية العهد السلجوقي.
رَكَّزَ المسلمون في المرحلة الثالثة على قبور الأولياء والمتصوّفين والفقهاء، خصوصاً بعد تقهقر نقوذ الحنابلة ومع بداية العهد العثماني. أحد أشهر الأمثلة ضريح الشيخ محيي الدين ابن عربي في الصالحيّة.
____________
الخلاصة غَلَبَ الطابعُ المسيحي على دمشق الأمويّة، رغم النخبة الإسلاميّة الحاكمة ورغم الحامع الأموي، وتغيّر هذا بالتدريج في العهد العبّاسي (٦)، وحُسِمَ مع نهاية العهد الفاطمي وبداية السلجوقي عندما طغى الطابعُ الإسلامي على المدينة.
____________
١. خصوصاً الخليفة الورع عمر بن عبدالعزيز.
٣. مقام النبي يحيى في حَرَم صلاة الجامع الأموي.
٤. خاصّة القبور.
٥. "القَدَم" جنوب المدينة كانت في الأصل لموسى.
٦. عهد انحطاط في دمشق وسوريّا عموماً.

No comments:
Post a Comment