احترق بناء مديريّة الأوقاف في دمشق في آخر الحرب العالميّة الثانية وفقدت في هذا الحريق الكثير من الوثائق التي لا تقدّر بثمن. معلوماتنا عن المدينة في ذلك الوقت محدودة إذ نزع المؤرّخون وقتها (ابن طولون مثلاً) إلى رؤيتها ووصفها من خلال أوابدها الدينيّة بالدرجة الأولى. في كلّ الأحوال نستطيع من استقراء المعطيات المتوافرة أن نرسم صورة معقولة لدمشق التي كانت وقتها خامس مدن الإمبراطوريّة العثمانيّة من ناحية عدد السكّان (حوالي ٥٥٠٠٠ نسمة) بعد القسطنطينيّة ثمّ القاهرة ثمّ بروصة (أو بورصة: عاصمة الإمبراطوريّة الأولى) وأخيراً حلب. قدّرت مساحة المدينة الكليّة بحوالي ٢٥٠ هكتار منها ١٣٠ هكتار داخل السور مع الأخذ بعين الاعتبار وجود مساحات كبيرة غبر سكنيّة داخل السور أهمّها الجامع الاموي والقلعة وبستان القطّ (جنوب المدينة الشرقي في الخريطة أدناه) وكثير من المباني التجاريّة كالخانات وغيرها. الأحياء خارج السور شعبيّة صغيرة المباني ومكتظّة بالسكّان ومعظمها مسلمة مع تواجد يهودي هامّ في جوير وبيت لهيا (مع عنّابة القصّاع حاليّاً) وقليل من المسيحييّن جنوباً (باب مصلّى). من الناحية العمرانيّة كان القرن السادس عشر زاخراً بالإنجازات بداية بجامع محي الدين ابن عربي في الصالحيّة ومن ثمّ التكيّة السليمانيّة ومنشئات لالا مصطفى باشا (تولّى دمشق ١٥٦٣-١٥٦٩) ومراد باشا (١٥٦٨ وهو باني جامع النقشبندي في السويقة ويجب التمييز بينه وبين مراد باشا الآتي ذكره أدناه) ودرويش باشا (١٥٧١) . توقّفت الحركة العمرانيّة في القرن السابع عشر لتستأنف في القرن الثامن عشر على يد فتحي الدفتري وآل العظم وهي قصّة لا مجال لها في هذه الأسطر.
نشر المعهد الفرنسي في دمشق دراسة بطول ١٦٠ صفحة للباحث Jean-Paul Pascual قام فيها بتوثيق وقفيّات اثنين من ولاة دمشق في القرن السادس عشر الأوّل سنان باشا (١٥٨٦-١٥٨٧) والثاني مراد باشا (فلنقل مراد باشا الثاني الذي تولّى ١٥٩٢-١٥٩٤ و ١٥٩٥-١٥٩٦. كانت الوقفيّات وقتها موجودة في المكتبة الظاهريّة. وقفيّة سنان باشا عبارة عن نسخة أنجزت عام ١٨٩٥ للأصل العائد لعام ١٥٩٥-١٥٩٦ أمّا عن وقفيّتي مراد باشا فإحداهما تعود لعام ١٥٩٥ والثانية ١٦٠٨-١٦١١. الرجلان توليّا دمشق والصدارة العظمى للإمبراطوريّة خلال مسيرتهما المهنيّة الغنيّة ولكن وقفيهما في دمشق مختلفان إلى حدّ كبير كما سنرى.
كان وقف سنان باشا وقتها الثاني في الأهميّة في دمشق بعد وقف الجامع الأموي ورصد له الكثير من البساتين والقرى والمزارع التي فصّلتها الوقفيّة كما فصّلت وظائف االعاملين بالوقف والمشرفين عليه ومرتّباتهم. أنفقت أموال طائلة في بناء جامع سنان باشا في محلّة باب الجابية (على أنقاض جامع البصل وجامع سوق الحبّالين) والسوق المسقوف المجاور له (المرتكز على تسعة عشر عقداً) مع حمّام ومكتب (أو كتّاب) وأمّا عن وصف هذه المنشئات فلم يجشّم كتبة الوقفيّة أنفسهم هذا العناء ويعود الفضل إلى الفرنسي Thévenot في إعطائنا فكرة عن المظهر الخارجي للجامع والصحن في منتصف القرن السابع عشر أمّا أوّل وصف معماري مهني (مع خريطة دقيقة) فكان عليه أن ينتظر مجيء مطلع القرن العشرين والألمانييّن Wulzinger و Watzinger. الخلاصة وقف سنان باشر بالدرحة الأولى ديني (الجامع) ويقع خارج سور المدينة شأنه في ذلك شأن عمائر درويش باشا ومراد باشا الأوّل.
المربّعات عمائر سنان باشا والمثلّثات عمائر مراد باشا |
بالمقابل وقف مراد باشا الأكثر تواضعاً (الوالي الثاني بهذا الاسم كما رأينا) بالدرجة الأولى ذو طبيعة اقتصاديّة وإن كان ريعه مخصّصاً لفقراء الحرمين (مكّة والمدينة) وهو واقع داخل السور بالقرب من الجامع الأموي نحو الغرب ويتكوّن من مجموعة من الأبنية أهمّها خان وبدستان أو بزستان (مبنى مخصّص لبيع الأقمشة الفاخرة). يوافق موقع هذا البدستان خان الجمرك حاليّاً ولكن يمكن الاستنتاج من وصفه المفصّل (نسبيّاً) في الوقفيّة أنّه يختلف في توزيعه عن المبنى الحالي.
No comments:
Post a Comment