Saturday, March 31, 2018

سُبُل المياه في دمشق



صورة غلاف الكتاب مأخوذة من كتاب سوريا اليوم للطبيب والمستشرق والرحّالة الفرنسي Louis Lortet الصادر عام ١٨٨٤، وهي لسبيل عبد الله باشا العظم المندثر. الدراسةُ قيد البحث تأليف عبد الرحمن بن حمزة النعسان، أستاذ في كليّة هندسة العمارة في جامعة دمشق. الكتابُ من منشورات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى عام ٢٠٠٨، عندما اختيرَت دمشق عاصمةً للثقافةِ العربيّة.

أنْجَزَ المؤلّفُ كتابَهُ عام ١٩٨٦، وشاءت الظروفُ أن تتأخّر طباعتُهُ ٢٢ عاماً. لم يتعرّض النعسان في المقدّمة لأسبابِ هذا التأخير وبالنتيجةِ عملٌ من هذا النوع يستحقُّ الانتظار ولا علم لي إذا طَرَقَ الباحثون هذا الموضوع بالذات سابقاً. اعتمَدَ الكاتبُ منهجاً يتلخّصُ بوضعِ مخطّطٍ لجميع السبلان داخل السور، وتصويرِها، ونقلِ النصوص والكتابات من لوحاتِها (١)، ووصفِها فنيّاً ومعماريّاً، ووصفِ موادِ بنائِها، ووضعِها الراهن.  

بدأ الكاتبُ بالتعريف بالفيجة، وبردى وفروعِهِ، وشبكةِ توزيع المياه في دمشق (٢)، مستنداً في ذلك على أبحاث Thoumin في ثلاثينات القرن العشرين. انتقلَ النعسان بعد هذا التمهيد إلى دراسةٍ لبعض أهمّ السُبُل فيها المختصر المفيد من الوصف والصور المُرْفَقَة بالإسقاطات الهندسيّة. السُبُلُ مبوّبةٌ من البدائيّة التي اقتصر الاهتمام فيها على النواحي النفعيّة والوظيفيّة، إلى آياتِ الفنّ في العهدين المملوكي والعثماني عندما تعاظم الاهتمامُ بالنواحي الزخرفيّة والجماليّة. تزيّنُ الكتابَ عشراتُ الصور بالأبيض والأسود من نوعيّةٍ متوسّطة، ويُلْحَقُ بِهِ ثلاثُ خرائطٍ مطويّة تعيّن مواقع السُبُلان مع بعض التفاصيل الإضافيّة. خصَّصَ المؤلّفُ ثمانية صفحات في نهايةِ الكتاب جَدْوَلَ فيها أسماءَ السبل، وأسماءَ منشئيها ومجدّديها، وتاريخَ الإنشاءِ والتجديد، وموقِعِها، ووضعِها الراهن، وطرازِها، ومقترحاتِهِ للمحافظةِ عليها .هذه المعلومات لا تُقَدَّر بثمن على الأقلّ من الناحيةِ التوثيقيّة، خصوصاً إذا ذهيت هذه التحف ضحيّةَ الإهمال ونَقْص التمويل والجهل وحتّى الطَمَع.  

تزايدَ تلوّثُ بردى مع حلول القرن العشرين، ولم تعد مياهُهُ صالحةً للشرب. ضَرَبَ المؤلّفُ مثالَ وباء الهيضة عام ١٩٠٧، ممّا دَفَعَ الوالي ناظم باشا إلى فرضِ ضرائب لتمويل جرّ مياه عين الفيجة بواسطة قسطل قطره ٢٥ عشير المتر. وُزِّعَت مياهُ الشرب على المدينة بواسطة كبّاسات ظلّت قيد الاستعمال حتّى الربع الثالث من القرن الماضي على الأقلّ. تشكّلت لجنة مياه عين الفيجة عام ١٩٢٤، ومع حلول ١٩٣٢ انتشرت المياهُ العذبة النظيفة والصحيّة في ربوعِ دمشق وتناقصت الحاجةُ إلى السبلِ العامّة.  

____________

١. مهمّةٌ ليس بالسهلة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الكثيرَ منها طُمِسَ مع مرور الزمن وإساءة الاستعمال. 
٢. أي نظام الطوالع.

Tuesday, March 27, 2018

قلعةُ دمشق



تراجعت أهميّةُ القلعةِ العسكريّة مع تطوّر وسائل التدمير، أو ما يسمّى مع شديد الأسف "فنون الحرب" في العصور الحديثة، وأدّى هذا بالنتيجة إلى إهمالِ أحد أهمّ أوابد دمشق، ورَدْمِ خندقِها، وبناءِ سوق الحميديّة بحذاءِ سورِها الجنوبي وسوق الخجا أمامَ سورِها الغربي. استُعْمِلَت حجارةُ القلعةِ في بناءِ عددٍ من المنشئات، وأُضيفَت ضِمْنَ نطاقِها أبنيةٌ بيتونيّةٌ شوَّهَت وغَطَّت معالِمَها. أضِف إلى ذلك تحويلَها إلى سجنٍ لفترةٍ طويلةٍ ممّا جعل دِراستَها صعبةً إن لم تكن متعذّرة إلى أمدٍ قريب.

لم تمنع هذه العقبات الكأداء عدداً من الباحثين من فَحْصِ البناء، ويمكن اعتبار عمل الألمانييّن Watzinger و Wulzinger الذي نُشِرَ عام ١٩٢٤ المحاولةَ الجديّةَ الأولى لاستقراءِ الحصن بطريقةٍ علميّةٍ منهجيّة. أتت دراسةُ Jean Sauvaget (هنا و هنا) عام ١٩٣٠ خطوةً هامّةً على الطريق الذي شَقَّهُ الألمانيّان، ومن بعدِها دراسةُ King عام ١٩٥١، وأخيراً كتاب عبد القادر الريحاوي عام ١٩٧٩. 

انتقل الإشرافُ على القلعةِ إلى المديريّة العامّة للآثار والمتاحف في ثمانينات القرن العشرين، وعنى ذلك الشروع بأعمال التنقيب على نطاقٍ أوسع وأشمل بتعاون سوري - فرنسي مع إسهام مصري. لا تقتصرُ أهميّةُ هذهِ الأعمال على القلعةِ على ضخامَتِها، وأنّما تمتدّ إلى دمشق ككلّ، في محاولةٍ لإسقاطِ معطيات الاكتشافات ضمن القلعة على بقيّةِ المدينة ضمنَ حدود الإمكان. يعودُ السببُ إلى استحالةِ التنقيب في المدينة بشكلٍ عامّ دون تدمير الكثير من المباني العريقة مع النسيج العمراني الذي يحتَضِنْها. 

خصّصت مجلّة الدراسات الشرقيّة في عددِها المزدوج (٥٣ - ٥٤) الصادر عام ٢٠٠٠ - ٢٠٠١ ملحقاً بطولِ ١٧٠ صفحة لخَّصَ بعضَ المكتشفات، مع تعريفٍ بأسلوبِ البحث وغاياتِهِ. المقالاتُ موجَّهَةٌ بالدرجةِ الأولى إلى الأخصّائييّن، وجميعها بالفرنسيّة باستثناء واحد بالعربيّة وآخر بالإنجليزيّة. توزّعت إدارةُ العمل بين فريقٍ فرنسي ترأّسَتْهُ Sophie Berthier، وفريقٍ سوري برئاسة مدير القلعة إدمون العجي.

لا تكفي هذه المقالات لتغطية القلعة ولا تهدف لذلك أصلاً، بل تفترض أنّ القرّاءَ ملمّون بالموضوع ومطّلعون على الأعمالِ السابقة. رَكَّزَ الكتّابُ جهودَهُم على بعضِ المواقع: الأبنية الجنوبيّة الغربيّة التي اعتقد Sauvaget أنّها تمثّل قصراً أيّوبياً، المدخل الشمالي (باب الحديد وملحقاتِهِ)، صالة الأعمدة في الشرق، والمعطيات الخزفيّة والفخّاريّة.

ليس بإمكانِنا، استناداً على المعطيات المتوافرة، توكيد أو نفي وجود القلعة بشكلٍ أو بآخر قبل العصر السلجوقي، ناهيك عن الحصن الروماني castrum المزعوم؛ هناك مع ذلك أدلّةٌ نصيّة وعينيّة لا يرقى إليها الشكّ على وجودِ قلعةٍ سلجوقيّة بأبعاد ١٣٠ x ٢١٠ متر (١). من المثير للاهتمام وجود قرائن مفادُها أنّ البابَ الشمالي (٢) سابقٌ للقلعة، يعودُ إلى نهايةِ القرن العاشر الميلادي. من المُحْتَمَل أنّه شكَّلَ في حينِهِ جزءًا من تحصينات سور المدينة. "قصر" Sauvaget الأيّوبي المذكور أعلاه شكَّلَ بالأحرى الزاويةَ الجنوبيّةَ الغربيّةَ من السور الأصلي السلجوقي حسب Jean-Blaise Gardiol؛ يترتّبُ على ذلك أنّ وظيفَتَهُ كانت دفاعيّةً بالدرجةِ الأولى. 

الجامعُ الأموي أهمُّ معالمِ دمشق على الإطلاق وبإجماع الخبراء، ويمكن القول أنّ القلعةَ منافسٌ جدّي على الميداليّة الفضيّة. نأملُ أن تسلِّطَ الأبحاثُ المستقبليّةُ المزيدَ من الأضواءِ على هذا الصرح العريق. 

____________

١. أبعادُ القلعة الحاليّة ١٥٠ x ٢٣٠ متر وهي أيّوبيّة تعود إلى مطلع القرن الثالث عشر وعهد الملك العادل مع ترميماتٍ لاحقة في العهد المملوكي. 
٢. باب الحديد. 


Tuesday, March 20, 2018

عروبةُ العرب



لكل إنسان ملء الحقّ بتحديدِ هويّتِهِ، وما ينطبقُ على الأفراد ينطبقُ على الدول. لدينا على سبيل المثال الجمهوريّة "العربيّة" السوريّة، والمملكة "العربيّة" السعوديّة، والإمارات "العربيّة" المتّحدة، وجمهوريّة مصر "العربيّة"، وجامعة الدول "العربيّة". قد لا يوافق جميع المصرييّن أو السورييّن على كونِهِم عرباً وجميعنا نعلم أنّ معظم سكّانَ الإمارات أجانبٌ. مع ذلك تبقى اللغةُ العربيّة، أهمُّ مكوّناتِ الشخصيّةِ العربيّة، لغةً رسميّةً في جميع هذه الدول، بل هي اللغةُ الرسميّةُ بامتياز. 

يصْعُبُ تمييزُ العروبةِ عن اللغةِ العربيّة. مِنَ العرب مَنْ هم آسيويّون أو إفريقيّون، شرقيّون أو مغاربة، بيض البشرة أو سُمْر اللون، مسلمون أو مسيحيّون أو يهود أو لا دينيّون ... جميع هؤلاء، على الأقلّ نظريّاً، يتكلّمون العربيّةَ كلغةٍ أمّ. الشرط اللازم، وإن لم يكن بالضرورة الشرط الكافي، للعروبة إذاً هو "لسان الضاد" الذي "يجمعنا بغسّانٍ وعدنانِ". 

____________

نأتي الآن إلى هذا المجلّد الفاخر المطبوع على ورقٍ صقيل والمزيّن بالعديد من الصور بنوعيّةٍ ممتازة بعنوان "عواصم الثقافة الإسلاميّة الأولى". صدر الكتاب عام ٢٠١٤ بمناسبة اختيار إمارة الشارقة "عاصمةً للثقافةِ الإسلاميّة" تحت رعاية صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمّد القاسمي، وبتعاون الخبرات الألمانيّة - الإماراتيّة (متحف برلين مع متحف الشارقة)، وتمويل سخي من إدارة متاحف الشارقة. أسْهَمَ العديدُ من المؤلّفين في هذا العمل، بعضُهم من العرب، ومعظمهم أوروپيّون بينهم الألماني Stefan Weber. الكتابُ موزّعُ بالتساوي على قسمين، أحدهما بالعربيّة والثاني بالإنجليزيّة ٧٠ + ٧٠ = ١٤٠ صفحة يحتويان على نفس الصور ونفس المعلومات بلغتين مختلفتين.

يمكن تسمية لغة القسم الأوّل بالعربيّة تجاوزاً، كونها بلغت من الركاكةِ حدّاً فيه أكثر من الكفاية ليتحرّك المعلّم الراحل يوسف الصيداوي في قَبْرِهِ، حتّى أنّني ظَنَنْتُها في البداية ترجمة google إلى أن استدركتُ أنّه من غير المحتمل أن تكون هذه الأخيرة على هذه الدرجة من السوء، دَعْ جانباً التخبيص بالأسماء والحقائق التاريخيّة. لدينا لحسن الحظّ  النصّ الإنجليزي الأفضل بما لا يقاس لغويّاً وعلميّاً، ونستطيع عن طريقِهِ تدقيق وتصحيح النصّ العربي. أورِدُ بعضَ الأمثلة وما هي إلّا غيض من فيض:

- صفحة ١٥: جامع قرطبة وقاعة الصلاة بنيت نحو ٧٨٤ و ٩٨٧ للميلاد. "نحو" هنا تعريب between.

- صفحة ٢٩: على الخريطة مدينة واسط (بين البصرة والكوفة) اسمها "الوسيط".

- صفحة ٣٨: ذَكَرَ النصُّ العربي الخليفةَ الأموي "اليزيد" والإنجليزي الوليد بن يزيد. الثاني هو الصحيح طبعاً. 

- صفحة ٤٤: "بغداد ومينائها في الشمال البصرة". 

- صفحة ٤٧: "بناء مدينة سكنيّة أخرى غير الرقّة" بينما المدينة المذكورة تحديداً هي الرقّة! 

- صفحة ٦٥: تعريب next to "على عكس". 

يتعذّرُ في عدّةِ مواضع فهمُ النصّ على الإطلاق دون الرجوع لمقابِلِهِ الإنجليزي: تعريبُ المفرداتِ خاطئٌ، وصياغة الجمل ميؤوسٌ منها، أمّا عن الأغلاط النحويّة فحدّث ولا حرج. هل نسي إخوانُنا وأخواتُنا في الشارقة لغتَهُم العربيّة؟ وإذا كان الأمر كذلك أليس بإمكانِهِم استشارة أساتذة مصرييّن أو سورييّن أو فلسطينييّن أو لبنانييّن يستطيعون رصف بعض الأسطر بلغةٍ عربيّة شبه مقبولة؟ وبفرض غياب هذا الخيار، علام يجشّمون أنفسَهم عناءَ الترجمة إلى ما يعتقدون أنّه العربيّة على الإطلاق؟ هل يجوز في عرفٍ أو منطق الخلط بين الوليد ويزيد لمن يكتب عن التاريخ الإسلامي، وهل هناك طالب ثانوي متوسّط المستوى أو حتّى إعدادي في الشرق الأدنى يجهل أنّ البصرة تقع جنوب بغداد وليس العكس؟

لا يسعني في النهاية إلّا أن أشكر الجهات المسؤولة في دولةِ الإمارات الشقيقة، عضو جامعة الدول العربيّة، على اهتمامِها بالتراث الإسلامي عموماً ودمشق وبغداد خصوصاً، وأملي أن أرى في مستقبلٍ قريب طبعةً ثانيةً معدّلة ومنقّحة، بلغةٍ عربيّةٍ سليمة إذا وقَعَت على أسماعِنا كانت لنا بَرَداً على الأكبادِ.  




Saturday, March 10, 2018

كيفيّةُ تحوّلِ دمشق إلى حاضرةٍ إسلاميّة



مقالٌ بطول ٢٥ صفحة بالفرنسيّة للأخ الدومينيكاني Cyrille Jalabert، من منشورات معهد دمشق الفرنسي ومجلّة الدراسات الشرقيّة عام ٢٠٠١. حاولَ الكاتبُ استقراءَ المعطيات التاريخيّة بهدف تسليط الأضواء على فترةٍ زمنيّةٍ بَلَغَت أربعةَ قرونٍ خَلَت أو كادت من النصوص المعاصرة عن تاريخِ عاصمة الأموييّن. 

____________

ظَلَّ المسلمون أقليّةً في دمشق طوالَ العهد الأموي، ولم يقم الفاتحون بمحاولاتٍ جدّية لحَمْلِ الأهالي على اعتناق الدين الجديد، وإن أعطى بعضُهُم (١) حوافزاً لتبنّي الإسلام تمثّلَت في إجراءاتٍ معيّنة للتمييز ضدّ الذميّين. شَهِدَت الفترةُ بين القرنين التاسع والقرن الحادي عشر للميلاد تزايداً مضطّرداً في عددِ المسلمين ذوي الأصول المسيحيّة أو اليهوديّة، وأصبحت أكثريّةُ دمشقِ مسلمةً مع نهاية القرن الحادي عشر للميلاد. تعزّزَ عددُ المسلمين اعتباراً من مطلع القرن الثاني عشر بنزوحِ العديدِ من أهلِ فلسطين فراراً من الصليبييّن. 

تحديدُ عددِ سكّانِ دمشق أو غيرها في القرون الوسطى أمرٌ مستحيل، بَلْهَ توزيعهم الطائفي، وما نملكه في هذا الصدد تقديراتٍ ليس إلّا. سَادَ هذا الوضعُ في الشرق الأدنى حتّى القرن التاسع عشر، ومع ذلك بإمكانِنا أخذ فكرة عن تطوّر المجتمع العددي والطائفي عَبْرَ كتابات ابن عساكر (القرن ١٢) وابن شدّاد (القرن ١٣)، إذ ذكر الأوّل ٢٤٢ مسجداً داخل سور المدينة و ١٧٨ خارجها، بينما أعطى الثاني رقم ٢٨٨ في الداخل و ٣٧٢ في الخارج. بالمقابل، سواءً رجعنا إلى ابن عساكر أو ابن شدّاد، لم يتجاوز عدد الكنائس المسيحيّة والكنس اليهوديّة العشرين، بما فيها المتهدّمة والتي حُوِّلَت إلى مساجد (٢). بحسنُ هنا التذكير أنَّ كلَّ جامعٍ مسجدٌ، بيد أنّ العكسَ ليس صحيحاً على اعتبار أنّ بعض المساجد ولربّما معظمها صغيرٌ للغاية. مع ذلك الاتّجاهُ واضحٌ لا لبس فيه: أصبحت دمشق على الأقلّ بدايةً من القرن الحادي عشر فصاعداً مدينةً إسلاميّةً ديموغرافيّاً وثقافيّاً وسياسيّاً.  

____________

لا بدّ لأيِّ دين من مقدّساتِهِ وذخائرِهِ، ولا مناص - في البدايات على الأقلّ - من الاستعارةِ من الثقافةِ والتراث المحلّيين بهدفِ انسجامِ العقيدة الجديدة مع بيئتِها المُتَبَنّاة. عمائرٌ مثل الجامع الأموي وقبّة الصخرة إنجازاتٌ عظيمةٌ ما في ذلك من شكّ، ولكنّها لا تكفي، وبالتالي لجأ المؤمنون إلى استعارةِ بعض السير المسيحيّة واليهوديّة من الكتاب المقدّس، وإعطائِها حلّةً إسلاميّةً؛ هناك على سبيل المثال رأس يوحنّا المعمدان (٣)، وبرزة التي أصبحت موطناً لإبراهيم، والربوة لعيسى أو يسوع ابن مريم وأمِّهِ، ومغارة الدم في قاسيون حيث يفترض أنّ قابيل قتل هابيل وهلمّجرّا.

انتقلَ المسلمون بعد أن استتبَّ لهم الأمر إلى المرحلة الثانية التي تمثّلت بخلق تراث مادّي إسلامي صرف وجَعْلِهِ موضعاً للتبجيل وقِبْلَةً للزوّار، مع التركيز على محمّد والصحابة وأهل البيت والخلفاء (٤). انتشرت هذه الظاهرة اعتباراً من القرن الثاني عشر وعلى سبيل المثال:

المصحف العثماني الذي أُتيَ بِهِ من طبريّا إلى دمشق عام ١٠٩٩.

- أثر قدم محمّد على حجرٍ أسود انتقل إلى المدرسة المجاهديّة من حوران في منتصف القرن الثاني عشر (٥).

- نعل محمّد وقصّتُهُ طريفةٌ: نَقَلَ العلموي عن النعيمي أنّ السلطان الأيّوبي الأشرف موسى امتَلَكَ فردةَ حذاءٍ للنبي، وأنّ الفردة الثانية كانت في حوزة ابن أبي الحديد الذي رَفَضَ بَيعَها رغم المال الجزيل الذي عرضه عليه الأشرف لقائَها. استطاعَ السلطان اقتنائها بعد وفاة المالك، وعظَّمَها وجَعَلَها في دار الحديث الأشرفيّة. مع الأسف فُقِدَ النعل بفردتيهِ عندما استباح تيمورلنك دمشق عام ١٤٠٠ - ١٤٠١. 

أضِف إلى ما سبق انتشار المدارس كمؤسّساتٍ لنشر الإسلام السنّي اعتباراً من نهاية العهد السلجوقي.

رَكَّزَ المسلمون في المرحلة الثالثة على قبور الأولياء والمتصوّفين والفقهاء، خصوصاً بعد تقهقر نقوذ الحنابلة ومع بداية العهد العثماني. أحد أشهر الأمثلة ضريح الشيخ محيي الدين ابن عربي في الصالحيّة.  

____________

الخلاصة غَلَبَ الطابعُ المسيحي على دمشق الأمويّة، رغم النخبة الإسلاميّة الحاكمة ورغم الحامع الأموي، وتغيّر هذا بالتدريج في العهد العبّاسي (٦)، وحُسِمَ مع نهاية العهد الفاطمي وبداية السلجوقي عندما طغى الطابعُ الإسلامي على المدينة.   

____________

١. خصوصاً الخليفة الورع عمر بن عبدالعزيز. 
٢. أضافَ ابن شدّاد أربعة أديرة أشهرها دير مرّان استناداً إلى أبي الفرج الأصفهاني
٣. مقام النبي يحيى في حَرَم صلاة الجامع الأموي. 
٤. خاصّة القبور. 
٥. "القَدَم" جنوب المدينة كانت في الأصل لموسى. 
٦. عهد انحطاط في دمشق وسوريّا عموماً.

Thursday, March 8, 2018

Az-Zaytūn's Church


This Greek-Catholic church is located inside the wall of the Old City, south of the street called Straight of Biblical fame, and near the East Gate (al-Bāb aš-Šarqī).

Originally a Karaite synagogue, the building was sold by the last surviving member of this Jewish sect in Damascus in 1832 to be converted into a church under the protection of Patriarch Maximus Mazloum and with financial support of Ḥannā Bey BaḥrīIbrāhīm Pāšā's lieutenant in Syria during the Egyptian domination in the 1830s.

The church was devastated during the 1860 Massacre. It was reconstructed in 1863 thanks to private donations, foreign funding, and generous contributions from Mitrī Šalhūb and ʾAnṭūn aš-Šāmī.  

A private house was assigned to the patriarchate in 1873 along with a priests' seminary and school. A boy's school was also added in a courtyard house. 

The edifice is extant and in good condition.


Photo credit: Weber 2005 (on the left is a view from the west and on the right the north aisle). 


Stefan Weber
. Damascus, Ottoman Modernity and Urban Transformation. Proceedings of the Danish Institute in Damascus V 2009.


Tuesday, March 6, 2018

Saint Mary's Cathedral


This ancient Greek Orthodox cathedral goes all the way back to the Byzantine age, possibly prior. It is located inside the walls of the Old City, north of Via Recta and east of the ʾUmayyād Mosque and Maktab ʿAnbar.

When, at the beginning of the 8th century CE, Caliph al-Walīd decided to confiscate and demolish St. John's Cathedral along with the Roman temenos to construct the ʾUmayyād Mosque, he agreed to leave St. Mary's Church to the Christians, who, in return, had to renounce all claims to the new Islamic sanctuary.

Time, natural disasters, wars, and human follies have taken their toll on this venerable edifice. Two episodes are worth highlighting: 

1. Damascus surrendered to Kitbugha, a Nestorian Christian lieutenant of Hulagu, in February 1260. The occupation was short-lived, as the Mongols had to evacuate the city after their defeat at the Battle of ʿAyn Ǧālūt in September of the same year. The invaders, however, had shown too much indulgence to the city's Christian population, allowing them to practice their faith openly and—if we are to credit certain accounts—provoking their Muslim neighbors with acts of impiety from the latter's perspective. With the restoration of Muslim authority under the Mamlūks, the mob took their revenge, destroying St. Mary's Church.

2. The last, and relatively recent, calamity to befall the cathedral was during the infamous 1860 massacre. Only a few years prior (1855), Reverend Porter described the building as "modern." The mob destroyed this "modern building" and leveled the Christian Quarter in its entirety. Thanks to financial support from Russia, the edifice was rebuilt in red brick shortly after. 

This very important monument of Damascus is currently in good condition. 



Stefan Weber. Damascus, Ottoman Modernity and Urban Transformation. Proceedings of the Danish Institute in Damascus V 2009.
Top photo: circa 1900 courtesy of Wold-Dieter Lemke.
Bottom photo: Weber 2006.

Saturday, March 3, 2018

القدس، دمشق، وشارل لالّمان



بدأ المشوار عام ١٨٦٥ عندما دُعِيَ المؤلّف Charles Lallemand إلى حضورِ حفلِ زفافٍ باذخٍ في بيت لزبونة في الحيّ اليهودي في دمشق. شَهِدَ هذا اليوم الميمون عَقْدَ قرانِ شابٍّ بَلَغَ عمرُهُ سبعة عشر ربيعاً على صبيّةٍ تصغره بأربع سنوات. بارَكَ هذا الحدث السعيد ثمانية أو عشرة حاخامات تجلّت في محيّاهم أماراتُ الوقارِ والمهابة. قُدِّرَ للكاتب أن يزورَ دمشق مجدّداً في صيف ١٨٩٣، ويعرّج على البيت الفخم الذي استضافَهُ قبل زهاء ثلاثين عاماً. لم يطرأ على الدار تغيّراتٌ تُذكَر بين الزمنين، باستثناء العريس الذي أصبح كهلاً شابت مِنْهُ الذوائب. ابتهج السيّد لزبونة كبيرة غاية الابتهاج عندما ذَكَّرَهُ الزائرُ الفرنسي بأيّام الشباب. 

____________

هناك ترجمةٌ قصيرةٌ لسيرة Lallemand (١٨٢٦ - ١٩٠٤) على الويكيبديا الألمانيّة (١).  دَرَسَ لالّمان المحاماة ومارس الصحافة والترحال والرسم والفنّ التشكيلي. تاريخ صدور الكتاب غير مذكور وإن أمكن الاستدلال عليه بطريقةٍ غير مباشرة من:

١. تنويهٍ في مجلّةٍ لهواةِ الفنّ من منتصف تسعينات القرن التاسع عشر:
٢. قراءة الكتاب: أفادَ المؤلّفُ أنّهُ زارَ دمشق للمرّة الثانية في تمّوز ١٨٩٣ قبل حريق الأموي (٢) الذي ذَكَرَهُ ولم يشهَدهُ. إذاً التاريخ ليس قبل ١٨٩٣. أشارَ الكاتبُ أيضاً إلى العمل الجاري على خطّ حديد دمشق بيروت الذي لم يُنْجَز بعد؛ دُشِّنَ هذا الخطّ عام ١٨٩٥، والكتابُ يالتالي ليس أحدثَ من هذا التاريخ.  

يتوزّع "القدس ودمشق" على ١٣٠ صفحة من القطع الكبير، مع العديدِ من الصور التاريخيّة واللوحات خارج النصّ. الجمل بما حمل متوافرٌ بالمجّان على هذا الرابط

____________

سهّلَ انفتاحُ الإمبراطوريّة العثمانيّة على أوروپا في أعقاب حرب القرم وتحسّن وضع الأقليّات عموماً مهمّةَ الكاتب، إذ أصبح بإمكانِ غير المسلمين زيارة الجوامع والمعالم الإسلاميّة. 

لا يقتصرُ وصفُ الديارِ المقدّسة على القدس وإن نالت حصّة الأسد (٣)، وبناءً عليه فلنتعرّض بسرعة لزهرة المدائن من وجهة نظر أديب ورحّالة أوروپي لا تخلوا من العنصريّة كما هو الحال في معظم سرديّات ذلك الزمن. مدينةُ القدسِ بائسةٌ ومظلمة، وهناك تناقضٌ كبير بين بهاء الحرم الشريف بما فيه قبّة الصخرة من جهة، وسائر المدينة من جهةٍ ثانية. يشوب الازدراءُ نَظْرَةَ Lallemand لمسيحيّي فلسطين، الذين أدان تناحرَ طوائِفِهِم بعضها مع البعض الآخر، بينما امتَدَحَ الجنود الأتراك ذوي الثياب الرثّة، وسَهَرَهُم على الأمن خاصّة في المناسبات الدينيّة وحول كنيسة القيامة . عددُ سكّان القدس في زَعْمِهِ "على الأقلّ" خمسون ألفاً، منهم ٣٥٬٠٠٠ إلى ٤٠٬٠٠٠ يهودي. قارنتُ، للتحقّقِ من هذا الرقم، مع طبعة عام ١٨٩٤ من دليل Baedeker الذي قدَّرَ نقلاً عن مصدرٍ من عام ١٨٨٧ إجمالي عدد سكّان القدس بحوالي ٤٠٬٠٠٠ منهم ٢٨٬٠٠٠ يهودي، مضيفاً أنّ الهجرة اليهوديّة كانت تتسارع بسبب الاضطّهاد في روسيا ورومانيا (٤). تعاطَفَ المؤلّفُ مع اليهود وحبَّذَ أن تصبحَ القدسُ عاصمتَهُم شريطة أن يتركوا للمسيحييّن والمسلمين أماكنَهم المقدّسة (٥). أضافَ Lallemand أنّ اليهود، المكابييّن خصوصاً، علّموا العالم الوطنيّة وأنّ الإنسانيّةَ مدينةٌ لهم. 

____________

أخذت بيروت حصّةً صغيرة من اهتمام الكاتب كمدينةٍ ساحليّةٍ توسّعت كثيراً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتضاعف عددُ سكّاِنها ليصبحَ ١١٥٬٠٠٠ نسمة منهم ٣٣٬٠٠٠ مسلم. أفتى Lallemand أنّ دماءَ المسيحييّن في لبنان "فينيقيّة"، وأنّ جميعَهُم عمليّاً يتكلّمون الفرنسيّة. 

____________

فَتَنَت دمشق الزائرَ الأوروپّي كما لم تفعل القدس ولا غير القدس في الشرق الأدنى، ولم يكن الوحيد في هذا المضمار. يَكْمُنُ سحرُ العاصمةِ السوريّة في التفاوت الفجائي الصارخ بين الجبال والسهوب الجرداء حولَها من جهة، وغوطَتِها الغنّاء من جهة ثانية. تعذّر تمييزُ المدينةِ بين أشجارِها اللهمّ إلّا بالإطلالِ من قاسيون أو شرفات المآذن. عدد سكّان دمشق ١٢٥٬٠٠٠ إلى ١٣٠٬٠٠٠ منهم ١٠٬٠٠٠ مسيحي و ٧٬٠٠٠ يهودي. أسواق دمشق شديدة الازدحام بالبشر والدوابّ، من الحمير والبغال والخيول والجمال، ودخول العرباتِ إليها من العسر بمكان (٦). الكلابُ في كلِّ مكان، وتتعاون مع الطيورِ الجارحة في تنظيفِ فضلاتِ المدينة في غياب خدماتٍ بلديّة تستحقّ الذكر. الكاتب "يحبّ بطنه" بدلالة الأسطر العديدة التي تغنّى خلالَها بمأكولات دمشق من الشاورما إلى قمر الدين والكنافة، ومشروباتها المبرّدة من الليموناضة إلى العرقسوس ... للتبغ والقهوة مكان الصدارة في طقوس الضيافة الشاميّة والمضيف الذي لا يقدّمهما لزوّارِهِ يخالفُ العرفَ الاجتماعي وفي ذلك إهانة للضيوف لا تغتفر. أقام Lallemand في فندق دميتري، وزار مِنْهُ أسواقَ المدينة، ووصف حِرَفَ النسيج والنحاس والفسيفساء الخشبيّة، وادّعى أنّ معظم الحرفييّن المهرة مسيحيّون أو يهود، وأنّ المسلمين يزدرون الأعمالَ اليدويّة ويفضّلون التجارة. 

ختم المؤلّف بالتحذيرِ من مخاطر انفتاح دمشق على التقنيّةِ الغربيّة والعالم الخارجي وخاطَبَها بالقول:

"دافعي عمّا تبقّى من ثرواتِكِ ولا تستبدلي كنوزَكِ ببضائعِ الغرب الرخيصة... حافظي على كمالِ ضواحيكِ وزينةِ جوامِعِكِ المقدّسة... سيضيف الخطّ الحديدي بالتأكيد ضربةً جديدة لأصالتِكِ... يسعدني أن أتذكّر صورَتَكِ في أيّامِ مجدِكِ وأنّني حاولت ما في وسعي أن أخلّدها في صفحاتِ هذا الكتاب".

خَتَمَ Lallemand: "يتلاشى الشرقُ في الماضي كحلمٍ جميل يلوذ بالفرار".

____________

١. وليس الفرنسيّة. علَّ السبب يعودُ لكونِهِ من مواليد الألزاس
٢. احترق الجامع في تشرين أوّل ١٨٩٣.  
٣. خصّص الكاتبُ حيّزاً لا بأس به لبيت لحم ويافا.
٤. قدّرت طبعة Baedeker الأولى عام ١٨٧٦ عدد يهود القدس بين ٤٬٠٠٠ إلى ٨٬٠٠٠. 
٥. لا تختلفُ صياغةُ تصريح بلفور في جوهرها عن هذا الطرح المبكّر.  
٦. الإشارة بالطبع إلى العربات التي تجرُّها الخيول.