استقيتُ معظمَ المعلوماتِ أدناه من كتاب "سوريا اليوم" La Syrie d'Aujoud'hui الصادر عام ١٩٨٠، ومن فصلين بالتحديد: الأوّل بقلم Jean-Paul Pascual يتناول العهد العثماني والثاني كتبه André Raymond يتابع من عام ١٩١٤ (بداية الحرب العظمى) حتّى جلاء الفرنسييّن عن سوريا عام ١٩٤٦. لا داعي لتلخيص أحداث هذه الفترة المعروفة من العديد من المصادر، وأكتفي بالأحرى بتسليط الأضواء على بعض النقاط الهامّة التي أغْفَلَها أو تَجَاَوَزها السرد التقليدي الذي تعلّمناه في المدارس منذ صِغَرِنا وتعوّدنا أن نقبله أو على الأقلّ نتقبّله دون جدل، ودون أي محاولة جديّة لاستطلاعِ آراءٍ مغايرة.
المعطياتُ الديموغرافيّة عن سوريّا في ثلاثينات القرن التاسع عشر تقريبيّةٌ، تستندُ على مصادرٍ غير مباشرة، قُدِّرَ عددُ السكّانِ آنذاك بناءً عليها بمليون ونصف من الحضر ونصف مليون بدوي. احتلّت دمشق المرتبةَ الأولى بين المدن (١٠٠٬٠٠٠ - ١١٠٬٠٠٠ نسمة)، وتلتها حلب (٨٠٬٠٠٠ بعد أن دَمَّرَ زلزالُ ١٨٢٢ قسماً كبيراً منها). بينما بَلَغَ عددُ سكّان طرابلس ١٠٬٠٠٠ إلى ١٥٬٠٠٠. كافّة المدن الباقية ١٠٬٠٠٠ إنسان أو أقلّ، بما فيها بيروت التي تَسَاَرع نموُّها أسيّاً في العقود اللاحقة. تغيّرَ التكوين الإثني للسكّان في بعض المناطق، إمّا نتيجةً لفِتَنٍ طائفيّة أشهرها مجزرة ١٨٦٠ التي هاجرت في أعقابها ٦ - ٧ آلاف عائلة درزيّة من لبنان إلى جبل حوران (١)، وإمّا نتيجةً لسياسةٍ واعية انتهجتها الدولةُ العثمانيّة لحماية الأراضي الزراعيّة من غزوات البدو، على سبيل المثال خلق مستوطنات شركسيّة في سبعينات القرن التاسع عشر.
تقاسم الإنجليز والفرنسيّون الشرق الأدنى في أعقاب الحرب العالميّة الأولى كما هو معروف. كَتَبَ Arthur James Balfour إلى رئيس وزراء بريطانيا David LLoyd George في ١٩ شباط عام ١٩١٩ في هذا الصدد "أنّنا نرفض عمداً وبحقّ مبدأ تقرير المصير في حالة فلسطين". حاوَلَت بعثة King & Crane الأمريكيّة استطلاع رأي المعنييّن، ونشرت نتائج هذا الاستطلاع مع توصياتِها التي تعرّضت في جملةِ ما تعرّضت إليه لموضوع الانتداب، وطَرَحَت إمكانيّةَ قبولِ انتدابٍ فرنسي على جبل لبنان فقط (٢)، حيث تمتّعت فرنسا بشعبيّةٍ حقيقيّة. تجاهلت القوى الأوروپيّة توصيات البعثة جملةً وتفصيلاً.
أثبتت الأحداث التالية لفيصل "ملك سوريا" أنّ فرنسا أهمّ لمصالح لندن من إرضاءِ طموحاتِهِ الشخصيّة وطلباتِ أبيه المزعجة، وتحتّم عليهِ بالتالي الوصولُ لاتفاق ما مع پاريس إذا أرادَ الاحتفاظَ بعرشِهِ، وهكذا قبل إنذار غورو الشهير وعلَّقَ المؤتمرَ السوري، وبدأ بتسريحِ الجيش وقمع المظاهرات المعارِضة عندما سقط ٢٠٠ قتيل في دمشق ليس على يد الفرنسييّن، بل قوّات فيصل. قابل ساطع الحصري غورو في عاليه في محاولةٍ لكسب الوقت والوصول إلى تسوية، والنتيجة التي نعرفها جميعاً أنّ فيصل "رضي بالهمّ والهمّ ما رضي فيه"، وُطِرَد من سوريّا ليعوِّضَهُ الإنجليز عرشاً في العراق فيما بعد على مبدأ "عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ".
نأتي الآن إلى مأساة اسكندرون. أشارت كافّة الأدلّة حتّى مطلع الثلاثينات أنّ الأتراك كانوا أقليّةً في هذا اللواء، إلى أن دَخَلَتْهُ قوّاتُهُم في ٥ تمّوز ١٩٣٨ وأجرت إحصاءً "على كيفها" أثبتت فيه أنّ نسبة الأتراك بَلَغَت ٦٣٪. هُجِّرَ بالنتيجة ١٤٬٠٠٠ أرمني وكثيرٌ من عربِ اسكندرون بعد أن ضمّته تركيا الكماليّة بموافقة سلطات الانتداب.
هذا لا يعني عدم وجود مؤيّدين للوجود الفرنسي ونزعات انفصاليّة في عدّةِ مناطقٍ سوريّة، منها جبل الدروز واللاذقيّة ومنطقة الجزيرة، ولأكثر من سبب. بالَغَ الوطنيّون في إيمانِهِم بوجود "لُحْمَةٍ سوريّة" كانت آنذاك في طور المخاض، وأثارَت مساعيهُم ريبةَ وحذر الأقليّات. بالطبع كان هناك سياسةٌ فرنسيّةٌ واعية لخطبِ ودّ هذه الأقليّات وتجزئة البلد ما أمكن بهدف إضعاف المعارضة، ومع ذلك تقتضي الموضوعيّةُ الإقرارَ أنّ الأمورَ لم تكن سمناً وعسلاً قبل الفرنسييّن. زَرَعَت سلطاتُ الانتداب أقليّاتٍ كرديّةٍ ومسيحيّةٍ في الجزيرة، وساهم هذا الإجراء بزيادةِ التوتّر في الثلاثينات.
للحديث بقيّة.

No comments:
Post a Comment