Friday, February 23, 2018

المسألة الكرديّة



أمضيتُ مرحلةَ الدراسةِ منذ التحضيري وحتّى الكفاءة في مدرسة الإخوة المريمييّن الخاصّة في دمشق، والمرحلة الثانويّة في ما عُرِفَ آنذاك باسم معهد الحريّة الذي أسّسته بعثةٌ علمانيّةٌ فرنسيّة في عهد الانتداب. كانت معظم الطوائف السوريّة ممثّلةً بين الطالبات والطلّاب والمعلّمات والمعلّمين؛ جميعهم شاركوا في تحيّة العلم، وردّدوا شعار البعث الشهير "أمّةٌ عربيّةٌ واحدة....ذاتُ رسالةٍ خالدة"! بما فيهم الأرمن. لماذا التركيز على الأرمن؟ الجواب بكل بساطة أنّه، مع اعتقادي الراسخ أنّ الأرمن سوريّون بامتياز، من المستبعد أنّهم يعتَبِرون أنفسَهُم عرباً. لكل إنسان مُطْلَق الحقّ في تحديد هويّته، ولست هنا في صددِ الكلام نيابةً عن الأرمن وليسوا بالتأكيد بحاجة لي أو لغيري لتمثيلِهِم. ما أقولُهُ بكل بساطة أنّ أرمن سوريّا شعبٌ نشيط ومثقّف وفخورٌ بتراثِهِ، حاولَ جَهْدَهُ الحفاظَ على لغتِهِ وسمّى بناتَهَ وأبنائَهُ أسماءً ليس فيها من العروبة الشيء الكثير، وإن سايرَ الجوَّ السياسي العامّ مكرهٌ أخاك لا بطل. 

____________

ليس هذا المقال عن أرمن سوريّا الذين لم يطالبوا يوماً باستقلالٍ ولا بحكم ذاتي؛ الفقرةُ السابقة ما هي إلّا تمهيد للدخول في صلب الموضوع: ما ينطبق على الأرمن ينطبق إلى حدٍّ ما على الأكراد مع فرق أنّ أكراد سوريا، أو على الأقلّ بعضهم في الشمال والشرق،  يسيرون على خطى أكراد العراق في محاولةٍ لخلقِ كيانٍ ما، "وطن قومي" إذا شئنا. 

لا داعي للتذكير بأنّ وجودَ الأكرادِ في سوريّا قديمٌ للغاية، وأنّ كثيرين منهم انصهر في المجتمع السوري واتّخذَ العربيّة لغةً منذ مئات السنوات. الكلام هنا عن الأكراد الذين لا يتكلّمون العربيّة، أو يتكلّمونها كلغةٍ ثانية، وهم مع ذلك سوريّون شأنهم في ذلك شأن الأرمن. من المحزن أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه بتضافر عدّة عوامل منها "جرعة العروبة" الزائدة عن الحدّ (من العدل أن يقال أنّها سبقت البعث بعقود) ومنها التدخّل الأجنبي الانتهازي. 

لفت نظري من خلال قراءة الكتاب الأخير للدكتور Nikolaos Van Dam (صفحة ١٥) ما ذَكَرَهُ عن تجريد العديد من الأكراد السورييّن من جنسيّتهم عام ١٩٦٢ دون ذكر مصدر. حاولت إجراء بحث google للتحقّق من الموضوع ووجدْتُهُ بالفعل على الويكيبيديا وغيرها، بيدَ أنّ المراجع المذكورة كرديّة إن لم نقل انفصاليّة، أو ردّدت أقوال الانفصالييّن، وليست بالتالي منزّهةً عن الأهواءِ والأغراض. لا ذكر لهذا الموضوع في دراسة حنّا بطاطو عن قرويّي سوريا ولا في كتاب Patrick Seale عن الراحل حافظ الأسد وإن نجحتُ بالعثورِ عَلَيهِ مؤخّراً في كتاب الأمريكيّة Tabitha Petran "سوريّا" (١٩٧٢)، التي نوّهَت (صفحة ٢٣٦) أنّ البعثَ شنَّ حَمْلَةً عام ١٩٦٣ "لإنقاذ الجزيرة من مخطّط كردي لخلق إسرائيل ثانية"، وأنّ إحصاءً أُجْرِيَ في تشرين الثاني ١٩٦٢ (أي زمن الانفصال)، اعْتَبَر كثيراً من الأكراد أجانب رغم حيازَتِهِم على الهويّةِ السوريّة؛ تلى ذلك تجريدُهُم من الجنسيّة وطردُهم من المناطق المتاخمة للحدود التركيّة. 

____________

قدّم Michel Seurat في كتاب La Syrie d'Aujoud'hui (١٩٨٠) مزيداً من المعلومات. ذَكَرَ (صفحة ١٠٣ - ١٠٥) أنّ الأكراد مثّلوا ٧٪ من سكّان سوريّا، توزّعوا شمالاً من الغرب إلى الشرق كما يلي: ١٥٠٬٠٠٠ في منطقة جبل الأكراد، ٣٠٬٠٠٠ في منطقة عين العرب، ٣٠٠٬٠٠٠ في الجزيرة العليا حيث شكّلوا ثلثي السكّان. أضاف Seurat أنّ إحصاءً استثنائيّاً تحتَ الانفصال أسقَطَ حقوقَ ١٢٠٬٠٠٠ كردي كأجانب جُرِّدوا من الجنسيّة السوريّة. أرجَعَ المؤلّفُ أصلَ هذه السياسة إلى الملازم أوّل محمّد طلب هلال، رئيس الشعبة السياسيّة في محافظة الجزيرة، الذي نَشَرَ دراسةً في تشرين الثاني ١٩٦٣ (مطلع عهد البعث)،  أفتى فيها أنّ الأكرادَ شعبٌ لا تاريخ لَهُ ولا حضارة ولا لغة، ولا صفة لَهُ إلّا القوّة والبطش. اقترح هلال في سبيل "حلّ المشكلة الكرديّة" إقامة "حزام عربي" بطول ٣٥٠ كيلومتر وعرض ١٥ كيلومتر، يُطْرَدُ مِنْهٌ الأكراد ليحلّ محلَّهُم عربٌ قوميّون أقحاح. تمخّضت المرحلة التالية عن ترحيلِ ٣٠٬٠٠٠ كردي إلى الداخل، ومن ثمّ نقل ٢٥٬٠٠٠ فلّاح عربي ممّن غمرت مياهُ الفراتِ أراضيهم بعد بناء السدّ إلى الجزيرة العليا، وتزويدِهِم بالكهرباء والمشافي والمدارس وسائر الخدمات التي استُثْنِيَت منها قرى الأكراد. حتّى الأسماء الطبوغرافيّة الكرديّة استُبْدِلَت بأسماءٍ عربيّة.   

زَوَّدّنا Seurat للمزيد من القراءة بثلاثة عشر مرجعاً في نهاية الفصل، ذكرتُ بعضَهَا أعلاهُ. كافّة هذه المصادر فرنسيّة أو إنجليزيّة (أحدها إسرائيلي)، بما فيها دراسة فرنسيّة لبرهان غليون. من المُلْفِت للنظر غياب أي مصدر رسمي أو شبه رسمي سوري لإعطاء منظور مختلف. لربّما كانت هذه المصادر موجودةً، بيد أنّ محاولة العثور عليها كمحاولة العثور على إبرة في كومةٍ من القشّ. الإعلام السوري، كان ولا يزال، مُفْتَقِراً إلى التمويل والكفاءات المهنيّة كلّ الافتقار. 

هل جُرِّدَ بالفعل ١٢٠٬٠٠٠ كردي من الهويّة والجنسيّة السوريّة في مطلع الستينات، في عهدٍ لم يتجاوز عدد سكّان القطر فيهِ الخمسة ملايين؟ هل طُرِدَ عشرات الآلاف منهم من أراضيهِم ليحلَّ محلّهم "مستوطنون عرب"؟  لا يوجد لديّ أدنى شكّ أنّ الخطاب العروبي أخطأ في حقّ الأقلّيات السوريّة التي لا يمكن وصفُها بالعربيّة، ولكن هذا لا يعني بالضرورة دقّة الأرقام أعلاه في غياب ما يسمّى في القضاء الغربي cross examination من السجلّات السوريّة الحكوميّة. الأكرادُ في النهاية رفاقُ دربٍ وإخوةٌ وأهلٌ بربطنا مَعَهُم تاريخٌ يعود على الأقلّ إلى العهد الأيّوبي والناصر صلاح الدين، الذي شاءت الأقدار أن يكونَ مثواهُ الأخير في عاصمتِهِ الثانية دمشق.  

No comments:

Post a Comment