Sunday, February 25, 2018

فكرُ البعث


أودُّ قبل الدخولِ في الفصلِ السادس من كتاب سوريّا اليوم للأستاذ أوليڤييه كارّيه، إزالةَ أيّ التباس بالتوكيد أنّني لست بعثيّاً ولم أنْتَمِ لأي حزبٍ في حياتي. ليس ذلك فحسب، رَسَبْتُ مرّتين عندما كنت طالباً في جامعة دمشق في مادّة الثقافة القوميّة الاشتراكيّة، لا لأنّها صعبة، بل لعدم اهتمامي بها (١). كنت ولا زلت مؤمناً بعدم وجود مبرّر لإقحام السياسة والدين في مناهج المدارس الحكوميّة والمهنيّة ولكن ما علينا. والدي عطّرَ اللهُ ذِكْرَهُ قومي سوري، أوقَفَ نشاطَهُ السياسي أو كاد بعد فترةٍ قصيرةٍ أمضاها في السجن، في العهد الديموقراطي المزعوم في منتصف الخمسينات، على خلفيّة اغتيال العقيد عدنان المالكي. من نافل القول أنّ أبي كان مسؤولاً شابّاً صغير المرتبة في الحزب القومي آنذاك، لم يعرف المالكي ولم تكن له علاقةٌ بمَقْتَلِهِ لا من قريب ولا من بعيد. 

____________

تَنَاوَلَ Olivier Carré  في هذا البحث حزبَ البعثِ كفكر ،دون التعرّض إلى الصراع السياسي على السلطة إلّا بما هو ضروري لفهم الخطّ العامّ. جميعُ مؤسّسي البعث من خرّيجي السوربون في فرنسا: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي. هناك جَدَلٌ عن دور الأرسوزي في البدايات، وعن الخلافات الفكريّة بينه وبين عفلق والبيطار، وإن جَمَعَ بينَهم الكثير، خاصّة إيمانهم بالعروبة وعلمانيّتهم بالقدر الذي سمحت فيه ظروف سوريّا بالعلمانيّة. فاوض الدكتور وهيب الغانم عمليّةَ اندماج جناح عفلق - البيطار مع جناح الأرسوزي عام ١٩٤٧. 

حُلَّت الأحزابُ السوريّة عام ١٩٥٨ مع تحقّق الوحدة المصريّة السوريّة، وتلى هذا تشكّل اللجنة العسكريّة سرّاً في مصر على يدِ مجموعةٍ من الضبّاط السورييّن منهم حافظ الأسد وصلاح جديد. هذه اللجنة أقرب فكريّاً إلى الأرسوزي منها إلى عفلق والبيطار، ضبّاطُها شبابٌ انتموا إلى جيل لاحقٍ للضّباط البعثييّن الاشتراكييّن في الخمسينات (٢). أيّد البيطار والحوراني الانفصال عام ١٩٦١، وترتّب على هذا التأييد لاحقاً طَرْد الحوراني من الحزب في حزيران عام ١٩٦٢. انتهى عفلق والبيطار في سوريّا مع سقوط أمين الحافظ في شباط عام ١٩٦٦، وطُرِدَا من الحزب والقطر لينتهي المطافُ بالأوّل في العراق والثاني في فرنسا حتّى اغتيالِهِ في تمّوز ١٩٨٠. اتّخَذَ "البعث الجديد" (٣)  الأرسوزي أباً روحيّاً، وسُميَّت مدرسةٌ للفتيات في دمشق على اسمه، وتبرّأت الحكومات السوريّة "البعثيّة" المتعاقبة منذ ذلك الحين من تركة عفلق والبيطار من الناحية العمليّة.

____________

بيتُ القصيدِ هنا فكر البعث كما عَرَّفَهُ دستور عام ١٩٤٧، وعدّلَتهُ المنطلقات النظريّة التي تمخّضت عن المؤتمر القومي السادس في تشرين أوّل ١٩٦٣. لا يوجد تناقض جوهري بين هذه المنطلقات كما كتبها ياسين الحافظ (٤) وبين الدستور الأصلي. الفرق الأساسي هو تعريف الديموقراطيّة: هل هي دستوريّة؟ أم هي "شعبيّة"؟ الديموقراطيّة الشعبيّة تعني حسب المنطلقات سيطرة الطبقات الكادحة التي يمثّلها الحزب، وتشمل "الاشتراكيّة العلميّة" مع خططها الخمسيّة والتأميم و"رأسماليّة الدولة".

عودةٌ على بدء، تبنّى البعث علم "الثورة العربيّة الكبرى"، واتّشح بعباءة العروبة والإسلام كما فَهِمَهُما. ادّعى الأرسوزي أنّ أوّل لغة للبشر هي العربيّة، بينما أفتى عفلق بأنّ العروبة هي الجَسَد والإسلام هو الروح، مع التمييز بين الإسلام كدين والإسلام كثقافة عربيّة وطنيّة وقوميّة. ارتأى عفلق أنّ "الاشتراكيّة العربيّة" كفيلةٌ بحلِّ مشاكل الأقليّات كالبربر والتركمان، أو بالأحرى إشكاليات اندماجِهِم في "الأمّة العربيّة". 

عَرَّفَ دستور الحزب الإنسانَ العربي مَن يتكلّم العربيّة، ويحيا على الأرض العربيّة أو يتطلّع إلى الحياةِ فيها، ويؤمِنُ بانتمائِهِ إلى الأمّةِ العربيّة. آمن البعثُ بالثورة، ونَظَرَ شزراً إلى التطوّر. الزواجُ "واجبٌ قومي" مع التشجيع على التناسل. البداوةُ "حالةُ تخلّف"، ويتعيّن على الدولة مكافحة القبليّة. التعليمُ مهمّةُ الدولة، ويتعيّن إلغاء المؤسّسات التعليميّة الأجنبيّة والخاصّة. التعليم إلزامي ومجّاني، وكذلك الحال بالنسبةِ للطبابة. العملُ واجبٌ وطني، على الدولة تأمينُهُ وضمانُهُ لكلِّ قادرٍ عليه وراغبٍ فيه. مكافحةُ البيروقراطيّةِ ضروريّةٌ وهلمّجرّا.   

كلامٌ معقول على الرغم من العديد من التحفّظات. بقي أن تثبت السنوات التالية مبلغَ نجاحِ الحزب في تطبيقِهِ على أرض الواقع. 

____________

١. بالكاد نَجَحْتُ في التربيةِ الدينيّة في الثانويّة العامّة، من مُنْطَلَق أنّها لا تؤثّر على المجموع ولا على حظوظ القبول إلى الكلّيات. 
٢. أي جماعة أكرم الحوراني.
٣. أي بعد عام ١٩٦٦.
٤. تأثّرَ ياسين الحافظ بالفكر الماركسي إلى درجةٍ لا بأس بها. 


No comments:

Post a Comment