Tuesday, February 27, 2018

ريف سوريّا قبل وبعد الإصلاح الزراعي


بإمكانِ المهتمّين الرجوع إلى دراستين مفصّلتين عن سوريّا من النواحي التاريخيّة والجغرافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، إحداهما بالإنجليزيّة بعنوان Syria, a Country Study والثانية بالفرنسيّة La Syrie d'Aujourd'hui، وكلاهما متوافرتان بالمجّان على الشبكة. الحديث اليوم عن الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب الثاني: الأوّل يتناول الريف السوري حتّى عام ١٩٥٨، والثاني من بداية الوحدة حتّى عام ١٩٧٨. 

____________

استَنَدَ الفصل الثامن بقلم Jean Hannoyer إلى درجةٍ لا بأسَ بها على دراسةِ الراحل Jacques Weulersse التي توقّفت حوالي عام ١٩٤٠ (١)، واستقى بعضَ معطياتِهِ من كتاب Richard Thoumin عن الجغرافيا البشريّة لسوريّا المركزيّة الصادر عام ١٩٣٦. أختصرُ، للحدِّ من التكرار، فأقول أنّ حالةَ الريف السوري، مع التسليم بوجودِ فوارقٍ هامّة حسب المنطقة، كانت عموماً بائسةً للغاية. تميّزت علاقةُ الريفِ بالمدينة بتَبَعيَّتِهِ لها، وتوجّهِ اقتصادِهِ لمصلحَتِها. اقتصر اهتمامُ المدينةِ بالريفِ على الاستفادةِ من موارِدِهِ، وتحسين وضعه بما يخدم مصالح ذوي النفوذ وأصحاب الأموال من أهل المدن ليس إلّا. صحّةُ الفلّاح سيّئة، ووفيّاتُ الأطفال مرتفعة؛ المياهُ ملوّثةٌ والبنيةُ التحتيّة شبه غائبة؛ الأميّةُ متفشّيةٌ... 

توسّعت الأراضي المزروعة في مَطْلعِ عهد الاستقلال، خصوصاً في منطقة الجزيرة وكان هذا إلى حدٍّ كبير بفضلِ المكننة واستثمار بعض العائلات الغنيّة رؤوس أموالِها في الحبوب، وإلى درجةٍ أكبر في القطن الذي تَجَاوَزَ مردودُهُ عائداتِ القمح. ازدهرت سوريا الشماليّة عموماً والجزيرة خصوصاً خلالَ سنواتٍ قليلة، وأصبحت حلب عاصمةَ الاقتصادِ السوري وليس فقط القطن. بلغ هذا الازدهارُ أوجَهُ في بدايةِ الخمسينات، وانعكسَ إيجاباً على ثروةِ البلاد عموماً، وأصحابِ رؤوسِ الأموال وملّاك الأراضي، دون تحسّنٍ يذكر في وضع الفلّاح.

____________

نأتي الآن إلى الفصل التاسع عن Françoise Métral:

تغيّر الوضعُ مع منتصف وأواخر الخمسينات عندما بدأت مساوئُ استغلال التربة غير المدروس (٢) بالظهور، ولزيادة الطين بلّةً، عانت سوريّا وقتها من الجفافِ لسنواتٍ متتالية ممّا كبّد المستثمرينَ في المناطق التي اعتَمَدَت على الأمطار الموسميّة خسائراً فادحةً، أدّت إلى عجز بعضِهِم عن تسديدِ ديونِهِ، فما بالكَ بالفلّاح الذي عاشَ على هامشِ المجتمع واقتصرت طموحاتُهُ غالباً على تأمينِ قوتهِ اليومي وغذاءِ أطفالِهِ وسقفٍ يقيهِ وعيالِهِ غوائلَ الطقس؟ كان لا بدّ من عملِ شيءٍ ما. 

مع الوحدة أتى الإصلاح الزراعي عام ١٩٥٨ ليحدّ ملكيّةَ الأرض: ٣٠٠ هكتار للأراضي غير المسقيّة و ٨٠ هكتار للمسقيّة؛ إصلاحٌ خجولٌ لم يغيّر الكثير على أرض الواقع وفي كلّ الأحوال لم تطل الوحدةُ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة. حاول عهد "الانفصال"، على الأقلّ في البداية، إعادَةَ عقاربِ الساعة إلى الوراء، بيدَ أنَّ الأحداثَ التالية أثبتت أنّ "الجنّي خَرَجَ من القمقم"، وأتت قوانين الإصلاح الزراعي الجديدة في حزيران ١٩٦٣ لُتْنِزل سقفَ ملكيّة الأراضي تحت ما سَمَحَ بِهِ العهدُ الناصري. 

النوايا شيءٌ، والواقعُ شيءٌ آخر. افتَعَلَت الدولة المصارفَ الزراعيّة، والمزارعَ التعاونيّة؛ خرّجت كليّةُ التجارةِ أخصّائييّن لمدّ العون للقروييّن، وإيجاد أفضل الطرق لاستثمار التربة دون استنزافِها، والسعي إلى زيادةِ الإنتاج عن طريق زيادة المردود، عوضاً عن زيادة مساحة الأراضي المزروعة. الهدف من الناحية الاقتصاديّة ثلاثي الأبعاد:

أوّلاً: تأمين الاكتفاء الغذائي.
ثانياً: تزويد الصناعة بالمواد الأوّليّة  (القطن للنسيج والشوندر للسكّر مثلاً).
ثالثاً: خلق فائض بهدف التصدير.

هذا على الصعيد الإقتصادي، أمّا على الصعيد الاجتماعي فتركّز الاهتمامُ على رَفْعِ مستوى الريف (٣)، وتزويدِهِ بالطبابةِ والمدارسِ والكهرباء، وسائر الخدمات. علّقت السلطاتُ السوريّةُ آمالها على مشروعين بالذات: تجفيف مستنقع الغاب الذي يمكن اعتبارُهُ نجاحاً على معظمِ الأصعدة، وسدّ الفرات (٤)؛ نجح هذا الأخير إلى حدٍّ ما وإن كان هذا النجاح أقلّ ممّا قَدَّرَتهُ الطموحاتُ المبدئيّة المغرقة بالتفاؤل. 

حقّقَ السوريّون تقدّماً لا بأس به على الصعيد الزراعي مع نهاية السبعينات، ونالَ الريفُ مكاسباً لا يمكن إنكارُها. كان هناك مع ذلك ما يدعوا إلى الحَذَر إن لم نقل إلى القَلَق: الاحتياجاتُ تتزايدُ بسرعةٍ تتجاوز وتيرةَ النموّ. بالإمكان إرْجاع هذهِ المعضلة إلى عواملٍ ديموغرافيّة (تزايد السكّان)، وإنسانيّة (تزايد الاستهلاك). لا داعي للتوكيد أنّ هذه العوامل لا تقتصِرُ على سوريّا والشرق الأدنى: عددُ سكّان الأرض أكثر من أيّ وقتٍ مضى ولا زال في ازدياد، واستهلاك الناس في كافّة أنحاء العالم عمليّاً (٥) أكثر من أيّ وقت مضى. 

يداعب خيالَ كلِّ جيلٍ أملُ أن يترك لأولادِهِ وأحفادِهِ عالماً أفضل من العالم الذي ورثهُ عن أسلافِهِ.  

____________

١. دراسة Weulersse متوافرة مجّاناً على هذا الرابط وقد أشرتُ إليها سابقاً هنا وهنا
٢. يتطلّب استثمارُ التربةِ السليم حدّاً أدنى من الإلمامِ بضرورةِ تغيير المحاصيل دوريّاً، واستعمال السماد، ومعالجة التمليح إلخ.
٣. الطريقة الوحيدة العمليّة للحدّ من الهجرة إلى المدينة بغضّ النظر عن الدوافع الأخلاقيّة. 
٤. بهدف زيادة رقعة الأراضي المزروعة وتأمين الكهرباء. 
٥. مع الإقرار بالتفاوت الهائل في استهلاك الفرد بين الولايات المتّحدة والهند مثلاً. 

No comments:

Post a Comment