Saturday, June 3, 2017

عوامل تطور دمشق بين 1860 والحرب العالمية الأولى

تبحث هذه الدراسة في خلفية أو خلفيات تحول دمشق من عاصمة إقليمية في العهد العثماني تستمد هيبتها من تاريخها العريق وأهميتها الدينية  كمحطة رئيسة على طريق الحج الذي تتمحور حوله حياتها الإقتصادية، إلى مركز للقومية العربية وبالنتيجة عاصمة دولة مستقلة حديثة أو في طريقها إلى الحداثة. الكاتبة هي Leila Hudson أستاذة في قسم دراسات الشرق الأدنى للتاريخ والعلوم الإنسانية Anthropology في جامعة أريزونا والكتاب إصدار عام 2008. 


تطور أي كيان جغرافي سياسي عملية معقدة للغاية لها إيجابياتها وسلبياتها ولها إنجازاتها وكبواتها. يميل الأكاديميون الغربيون إلى عزو التطور إلى تأثير أورروبا البنّاء والعثرات إلى "تخلف الشرقيين" بينما يدعي القوميون أن الفضل يعود إلى "يقظة العرب" واللوم والتثريب إلى تدخل الإمبرياليين الغربيين في شؤونهم. من ناحية ثانية تعطي الدراسات التقليدية أهمية لربما كانت مبالغ فيها لدور النخبة Elite في تطور المجتمعات وكأنهم يقرّرون كل الأمور بفرمان من الأعلى وعلّ ذلك عائد إلى كون المؤرخين والكتّاب يروون سيرتهم دون سواهم ويتجاهلون دور الناس العاديين والذين يشكّلون الأغلبية الساحقة في كل مكان. 

تحاول المؤلفة في هذا العمل أن تصلح هذا الخلل وتعيد نوعاً من التوازن إلى منهج الدراسات التاريخية وتنجح مشكورة في ذلك إلى حدّ ما. بالطبع لا يمكن تجاهل دور النخبة والذي اختارت السيدة Hudson أن ترسمه اعتباراً من مجزرة عام 1860 عندما أرسل الباب العلي فؤاد باشا مزوّداً بصلاحيات استثنائية لمعاقبة المسؤولين وإعادة الأمن والأمان وحكم القانون وتميّزت هذه الفترة بمحاولة الدولة لتعزيز السلطة المركزيّة على حساب أعيان دمشق الذين جرى تهميش بعضهم وصعود البعض الآخر (أي وجوه جديدة) أكثر استعداداً للتعاون مع القسطنطينية في برامجها التنظيمي والتحديثي. رافق كل هذا تغيّرات إقتصادية (توسّع وزيادة التبادل مع الغرب) وتجارية ومالية (تضّخم) والعديد من المشاريع في عهد مدحت باشا وغيره مع تعاظم أهمية ضواحي المدينة (خاصة الغربية) خارج السور وتوسّع هذه الضواحي وزيادة عدد السكان.  

قامت الكاتبة باستقراء الوثائق والملفات وسجلّات المحاكم والتركات بغية إعطاء سائر الطبقات الإجتماعيّة بعض حقّها وجنت في هذا الصدد كميّة لا بأس بها من المعلومات عن الوضع الإقتصادي لعامّة الناس وكيفية إنتقال الثروة والعوامل التي تدخل في حسابات الزواج (العائلة والمهر) وما يمكن تسميته "علمنة الأسماء" (من الأسماء الدينية "محمد" وعبد" إلى "كمال" و"أديب" إلخ) ثم تناولت النواحي الثقافية فعن الكتب مثلاً كان من يملكونها قلّة وأغلب هؤلاء من علماء الدين وأما أكثرها تداولاً فهو بالطبع القرآن وتقول (ص 88) أن كتاب "مقامات الحريري" يضاهيه انتشاراً! العديد من المؤلّفات كانت لصوفيين من أمثال عبد الغني النابلسي وعبد القادر الجزائري وخالد النقشبندي. 


تعود التغيرات والتطورات التي طرأت على دمشق في النصف قرن السابق للحرب العظمى إذاً إلى الكثير من العوامل منها الإراديّة ومنها التراكمية ومنها الخارجيّة والداخلية ومنها الكبيرة والصغيرة وتبقى العوامل المحلّية والبيئية والعائلية (تغيّر مكان الإقامة والطبقات والمؤسسات والمواصلات والثقافة) بالغة الأهميّة والنتيجة النهائية ما هي إلّا ترجمة لجميع هذه العوامل.

ظهور وجوه جديدة و"نخب" جديدة أمر طبيعي ومتوقّع في أي مجتمع حركي dynamic  وتختم الأستاذة Hudson فتقول أن الأبحاث الحديثة توحي بأن اعتماد القيم المدنيّة والتعليميّة والوطنية كانت أفضل سلاح للإنسان لتعزيز مكانته في المجتمع social mobility في القرن العشرين. 

No comments:

Post a Comment