Wednesday, January 31, 2018

تطوّر الهويّة اللبنانيّة



لا داعي للمبالغة في التركيز على فينيقبا ككيان جغرافي سياسي واضح العالم. واقع الأمر أنّها كانت مقسّمةً (١) إلى "مدن - دول" مستقلّة توسّعت غرباً إلى سواحل البحر المتوسّط (٢) مع اتّصال محدود للغاية مع الداخل: وضعٌ فرضتهُ الجغرافيا وسلستان جبليّتان كما رأينا. لا مبالغةَ في القول أنّ التبادل التجاري والثقافي بين الساحل الكنعاني ووادي النيل، فاق نظيرَهُ مع الداخل السوري. من الناحية اللغويّة سادت الآراميّة في سوريا والكنعانيّة في فينيقيا. تغيّر الحالُ في العهد الهلنستي، على الأقلّ في المدن، عندما طغت اليونانيّة لدى المثقّفين، وإن ظلّت لغةُ معظمِ الناس وخصوصاً في الأرياف محليّةً. بالنتيجة أزاحت الآراميّةُ أُخْتَها الكنعانيّة في الساحل.

ازدهرت سوريّا عموماً في العهد الروماني، وليست هذه السطور كافيةً لإعطاء معبد بعلبك ولا مدرسة حقوق بيروت حقَّها لا كثيراً ولا قليلاً، وبناء عليه فلنتجاوز بضعةَ مئاتٍ من السنين إلى القرن السابع الميلادي عندما هاجر شعبُ مسيحيٌ يدعى الجراجمة أو المردة يكتنف أصولَه الكثيرً من الغموض من الأمانوس إلى سوريّا، ومنها إلى جبل لبنان. اعتقدَ بعض المؤرّخين أنّ موارنة اليوم يتحدّرون من هؤلاء الجراجمة، وأنكر هذا الزعم البعضُ الآخر.  

مع الجراجمة ظَهَرَ جبل لبنان في رأي الدكتور فيليپ حتّي على  مسرح التاريخ كملجأ للأقليّات، وساهمت وعورةُ تضاريسِهِ في الحدِّ من من قدرة الدول والإمبراطوريّات المجاورة على إخضاعِ سكّانِهِ، إلى درجة أنّ معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان اضطرّا إلى دفع الجزية ليس لبيزنطة فحسب، وإنّما أيضاً إلى الجراجمة حتّى يتفرّغ الأوّل لنزاعِهِ مع علي بن أبي طالب وأشياعِهِ والثاني إلى حربِهِ ضدّ ابن الزبير.

انتشرت أقليّةُ ثانية في جبل لبنان في مطلع القرن الحادي عشر للميلاد عندما وجد مبشّرو الموحّدين (الدروز) استقبالاً أكثر حرارةً لدعوتِهِم فيه ممّا لاقوه في مصر، ومع الوقت أُضيفَ الطيف الدرزي إلى الشعب الآرامي اللغة والمورانة، ولعبت هاتان الطائفتان دوراً جوهريّاً في تاريخ لبنان منذ ذلك الحين. 

تغيّر توجّه الموارنة إبى الغرب اعتباراً من العهد الصليبي. يعود التعامل الماروني الصليبي إلى عهد البابا Innocent III في مطلع القرن الثالث عشر إن لم يكن أقدم من ذلك؛ بيد أنّ اتّحاد الكنيسة المارونيّة النهائي مع الكرسي البابوي تأخّر حتّى عام ١٧٣٦ عندما فُتِحَ البابُ على مِصْراعَيهِ للحمايةِ الفرنسيّة لكاثوليك الشرق الأدنى ورعايتِها لمصالِحِهم.

يعتبر الكثيرون الأمير الدرزي فخر الدين المعني الثاني (١٥٧٢ - ١٦٣٥) الباني الأوّل لدولة لبنان، وأنّ ما بناه كرَّسَهُ الأمير بشير الشهابي (٣)، مع التحفّظ أنّ هدفَ كليهِما كان اقتطاعُ مملكةٍ لهما ولذريّتِهِما على حساب الإمبراطوريّة العثمانيّة في عهد لا يعرف القوميّات (٤) لا في الشرق الأدنى ولا حتّى في أوروپّا. تعايشَ الدروز مع الموارنة في مودّةٍ وحسن جِوار، وكانت الخلافات قبليّة (قيسيّة ضدّ يمنيّة) وليست طائفيّة. ظلّ هذا الوضعُ سائداً حتّى ثلاثينات القرن التاسع عشر عندما استعان إبراهيم باشا بن محمّد علي وقائد جيوشِهِ في سوريّا بالموارنة لسحق عصيان الدروز في حوران، ممّا أثار ضغينَتَهم وأجّجَ عدداً من الفتن طائفيّة توّجتها مذبحةُ ١٨٦٠، التي خلقت القوى الأوروپيّة في أعقابِها متصرّفيّة جبل لبنان

شَهِدَ النصفُ الثاني من القرن التاسع عشر تزايدَ نشاطِ البعثات التبشيريّة الغربيّة في سوريّا عموماً، وما أصبَحَ لبنان لاحقاً خصوصاً، كما شَهِدَ النهضة الأدبيّة والفكريّة العربيّة التي تزعّمها عمالقةٌ من أمثال ناصيف اليازجي وبطرس البستاني.يخلطُ العروبيّون بين هذه الحركة الثقافيّة وبين "القوميّة العربيّة" التي ظلّت كميّةً مهملةً حتّى الحرب العظمى (١٩١٤ - ١٩١٨)، وكانت إلى درجةٍ كبيرة من بنات أفكار البريطانييّن وإن وَجَدَت صداها لدى العديد ممّن ركبوا موجة العروبة التي بلغت ذروتَها في خمسينات القرن العشرين، عندما تزاوجَ الفكر العروبي السوري مع القيادة الحماسيّة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. 

خَلَقَ الفرنسيّون لبنان الكبير بعد أن وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارَها بتأييد معظم اللبنانييّن (٥)، كما أكّدت بعثة King & Crane الأمريكيّة، وإن لم تجشّم المصادرُ العربيّةُ نَفْسَها عناءَ ذِكْرِ هذه الحقيقة، مكتفيةً بالإشارة إلى أنّ الغالبيّة العظمى من السورييّن رفضت الانتداب الفرنسي والمشروع الصهيوني رفضاً قاطعاً، وهذا طبعاً صحيح وإن لم يكن دقيقاً. 

سَبَقَتِ الإشارةُ إلى أنّ متصرفيّة جبل لبنان اقتصرت على الجبل ذو الأكثريّة المسيحيّة (٦)، بيد أنّ الفرنسييّن أرادوا تشكيلَ كيانٍ قابل للحياة من الناحيتين الاقتصاديّة والجغرافيّة، وبناءً عليهِ أضافوا المدن الساحليّة مع بيروت كعاصمة (٧)، كما ألحقوا البقاع وبعلبك مع أقضية راشيّا وحاصبيّا ومرج عيون. وعنى هذا إضافة ٢٠٠٠٠٠ نسمة إلى السكّان، معظمُهم من المسلمين. ارتأى الدكتور حتّي أنّ ما كَسِبَهُ لبنان في المساحة، خَسِرَهُ في التماسك أو اللحمة الإثنيّة. مع شديد الأسف أتت الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعد عشرين سنة من صدور الكتاب دليلاً على أنّ الولاءات المذهبيّة والقبليّة فاقت الولاء للوطن. 

مع ذلك بدت الأموُر مشرقةً في لبنان في مطلع عهد الاستقلال، ويعودُ الفضلُ بالدرجةِ الأولى إلى التجارة والسياحة في وقتٍ لعب فيه هذا البلد الصغير دورَ صِلَةِ الوصل بين الغرب والشرق الأدنى، وحَرِصَ سياسيّوه على الموازنة بين السيادة الوطنيّة (التمسّك بخصوصيّة لبنان)، والتعاون مع الدول المجاورة (إرضاءً للمتعلِّقين بالهويّة العربيّة)، والحفاظ على علاقاتٍ وديّة مع الغرب. 

____________

١. عكس مصر التي وحَّدَها النيل وحَكَمَتَها قوّةٌ مركزيّةٌ بشكلٍ شبه مستمرّ منذ خمسة آلاف سنة.
٢. المثال الأشهر قرطاج مستعمرة صور في تونس الحاليّة. 
٣. اعتنق بشير الشهابي (١٧٦٧ - ١٨٥٠) المسيحيّةَ سرّاً.  
٤. القوميّات أو  الأمّة الدولة Nation-State. 
٥. المقصود باللبنانييّن هنا سكّان جبل لبنان وبالذات الموارنة. 
٦. بَلَغَ عددُ المسيحييّن (تقديرات عام ١٩١٣) ٣٢٩٠٠٠ من أصل ٤١٥٠٠٠. عدد الموارنة  ٢٤٢٠٠٠. 
٧. زاد عدد سكّان بيروت من أقلّ من ٥٠٠٠ عام ١٨٠٠ إلى أكثر من ١٢٠٠٠٠ عام ١٩٠٠!


No comments:

Post a Comment