Saturday, April 30, 2016

ترحال جرترود بل في سوريا

كانت جترود بل (1868-1926) رحالة ومستشرقة إنجليزية تتكلم عدة لغات بما فيها العربية وقد زارت سوريا إعتباراً من عام 1899 بداية من فلسطين والقدس جنوباً ونهاية بأنطاكيا وإسكندرون شمالاً متنقلة على ظهور الدواب  بصحبة أدلة من أهل البلاد. صدر كتابها "الصحراء والأرض المزروعة، رحلات في فلسطين وسوريا" عام 1907 وكان لا بد لها أن تتعرض فيه للآثار الرومانية واليونانية والمسيحية مثلها في ذلك مثل معظم إن لم يكن جميع المستشرقين في ذلك الوقت وقامت بجمع العديد من الصور النادرة خلال تنقلاتها ولكن تركيزها كان على الأشخاص الذين قابلتهم من كبار السياسيين ورجال الدين إلى الناس العاديين وحرصت دوماً على تحديد هويتهم الدينية والطائفية واللغوية والإثنية.





لم تتردد الكاتبة في عرض آراءها السياسية فهي إنجليزية فخورة وتعتقد أن بلادها هي الأكثر جدارة للأخذ بيد سوريا على طريق التقدم والإزدهار (مقدمة الكتاب) وفيما يتعلق ببدايات الحركة العروبية (صفحة 140) فهي تقول دون مواربة أنه لا يوجد أمة عربية وأن التاجر السوري أقرب للعثماني منه إلى البدوي وأن الأمر الوحيد الذي يمنع الناطقين باللغة العربية من الإنقضاض على بعضهم بعضاً هو الجيش العثماني الذي يحارب جنوده إلى النهاية رغم بؤسهم وفقرهم.





تفتتح السيدة بل كتابها في القدس ومنها إلى شرق الأردن ثم حوران وجبل الدروز إلى دمشق حيث قابلت الوالي ناظم باشا (حكم بين 1897-1906) في بيته الجديد الباذخ على الطراز الأوروبي في المهاجرين الذي تطل شرفته على بساتين دمشق. جرى الحديث بينها وبين الوالي بالفرنسية حيث أن هذا الأخير لم يتكلم العربية ولم تنس المؤلفة أن تذكر زوجة الوالي الشركسية وأولاده الذين تلوا أمامها بعض القصائد الفرنسية والعبد الأسود الصغير الواقف مبتسماً على الباب. 

قابلت الكاتبة في دمشق إضافة إلى الوالي الشيخ حسن النقشبندي والأمير الدرزي العثماني الهوى  (على الأقل في ذلك العصر) والمتكلم بالفرنسية شكيب أرسلان وثلاثة أبناء للأمير عبد القادر الجزائري هم علي وعمر وعبد االله وكان هذا الأخير إبن عبد القادر من عبدة سوداء.

من دمشق إلى بعلبك ولبنان ثم حمص والساحل السوري إلى حماة التي سيطرت عليها وقتها أربع أسر: العظم، البرازي، الكيلاني، طيفور ومنها إلى أفاميا وقلعة المضيق ثم حلب حيث قابلت الوالي الشركسي كاظم باشا فقلعة سمعان إلى أنطاكيا وإسكندرون.

كل هذا لا يتعدى الخطوط العريضة لحوالي 350 صفحة من الحجم الصغير التي تزينها العديد من الصور الفوتوغرافية بالأبيض و الأسود إخترت منها مجموعة صغيرة.

حجاج مسيحيون يتلقون العماد في نهر الأردن



بصرى الشام



معبد جوبيتر/المشتري في بعلبك مدينة الشمس أو هليوبوليس




حماة


قلعة حلب 



Saturday, April 23, 2016

كوهين في دمشق

صدر كتابان عن سيرة جاسوس إسرائيل إيلي أو إلياهو كوهين بعد إعدامه بسنوات قليلة الأول عام ١٩٦٩ بقلم صحفي إسرائيلي إسمه إيلي بن هنان بعنوان "عميلنا في دمشق" والثاني عام ١٩٧١ لزوي الدوبي وجيرولد بالينجر بعنوان "تحطيم الصمت". من البدهي أن الكتابين يسرادن القصة من وجهة نظر إسرائيليّة أُخِذَت كحقيقةٍ مسلّم بها من قِبَل ليس فقط إسرائيل وعشّاق إسرائيل، وإنّما أيضاً الكثير من العرب عموماً والسورييّن خصوصاً وساعد على ذلك غياب أو ضعف وجهة النظر المقابلة.

قبل مراجعة الكتابين لربّما كان من المفيد إستعراض حياة كوهين بإختصار. ولد السيّد كوهين عام ١٩٢٤ في مصر (الإسكندريّة) لأسرة يهوديّة من أصول سوريّة حلبيّة. لعب كوهين دوراً ثانويّاً في القضية المسماة "فضيحة لافون" نسبة لوزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون عام ١٩٥٤. تتلخّص هذه القضية بتجنيد إسرائيل ليهود مصرييّن لزرع قنابل موقوتة تستهدف البعثات والمصالح الأمريكيّة والبريطانيّة في مصر، الغاية منها إلقاء اللوم على المصرييّن وتسميم العلاقة بين مصر و الدول الغربيّة لمصلحة إسرائيل. ترك كوهين مصر عام ١٩٥٦ وإستقرّ في اسرائيل عام ١٩٥٧ وبالنتيجة جنّدته المخابرات الإسرائيليّة بهدف التجسّس على سوريا وبَعَثَتهُ إلى الأرجنتين عام ١٩٦١ لتبني له سمعةً تحت إسم مستعار "كامل أمين ثابت" كرجل أعمال سوري مغترب يعشق وطنه الأمّ ويحلم بالعودة إليه. دخل كامل أمين ثابت دمشق للمرّة الأولى في كانون ثاني ١٩٦٢ وتنقّل بين سوريا وأوروبّا وإسرائيل عدّة مرات قبل أن يُلْقَى القبض عليه متلبّساً أثناء بثّه رسائل لاسلكيّة إلى إسرائيل. كان هذا في ٢٤ كانون ثاني ١٩٦٥ وأعدم كوهين في ١٨ أيار من نفس العام. كلّ هذه حقائق معروفة يتّفق عليها جميع الرواة من كافّة الأطراف المعنيّة.



نأتي الآن إلى الكتاب الأول "عميلنا في دمشق". كَتَبَ المؤلّف أنّه في لقاء جرى بين أمين الحافظ وكوهين في الأرجنتين (أنكره الحافظ في مقابلته مع أحمد منصور على تلفزيون الجزيرة بعد أربعة عقود من التاريخ المفترض لوقوعه) أبدى كوهين إستغرابه عندما شاهد الحافظ يشرب الكحول وبرّر له هذا الأخير تَصَرُّفَهُ بكونه علوي و على إعتبار أن العلوييّن ليسوا مسلمين فلا مانع لديهم من معاقرة المشروبات الروحيّة. نقطة إنتهى! من الواضح أن الكاتب المحترم يجهل ألف باء سوريّا وأنّ كتابَهُ دعايةٌ رخيصة موجّهة لمن لا يعرف عن سورّيا قليلاً أو كثيراً وبالتالي لا داعي لهدر المزيد من الوقت في محاولة لدحضِ مزاعِمِه.



الكتاب الثاني "تحطيم الصمت" أطول و أغنى بالتفاصيل ويعتقد الكثيرون أنَّهُ أكثر موضوعيّةً ومصداقيّة. نقل السيّد غسّان النوفلي الكتاب إلى العربيّة في ترجمةٍ بمنتهى الجودة تحت عنوان "الجاسوسية الإسرائيلية وحرب الأيام الستّة". واضح أن المعرّب باختياره هذا العنوان يعتقد أنّ كوهين لعب دوراّ مفتاحيّاً في نكسة ١٩٦٧ التي جرت بعد موته بعامين ونيّف وعلاوة على ذلك فهو يتبنّى طروحات المؤلِّفَيْن و إطنابَهُما في تثمين منجزات العميل على علّاتها في مقدّمة كتابه. للإنصاف الكتاب ممتع وشيّق لا نجد فيه أخطاءً فجّةً و غبيّة من شاكلة أن "أمين الحافظ علوي" ويتجلّى عَبْرَ صفحاتِهِ أن الكاتِبَيْن لديهما إلمامٌ لا بأس به أبداً بسوريّا وسياساتِها والممسكين بمقاليد الأمور فيها آنذاك. مع ذلك يجب التوكيد أنّ هذا الكتاب كسابِقِهِ عملٌ مُغْرِض، منحازٌ ومضلّل إلى حدٍّ كبير وأنّه أولاً وآخراً دعاية إسرائيليّة أكثر ذكاءً وبالتالي أصعب تكذيباً.

يحسن هنا التفريق بين الحقائق المُثْبَتة والمزاعم التي لا دليل عليها إلّا أقوال الناطقين بإسم إسرائيل:

كوهين أمضى فعلاً أكثر من ثلاث سنوات وهو يدخل ويخرج من سوريّا ويبثّ بالسرّ منها إلى إسرائيل. كانت تربطه علاقة صداقة مع الملازم معزّز زهر الدين (ابن أخ الفريق عبد الكريم زهر الدين قائد الجيش السوري في عهد الإنفصال) وأيضاً مع موظّف في وزارة الإعلام اسمه جورج سيف. كان الضرر النفسي الذي لحق سوريا بعد القبض عليه بالغاً إذ مال الكثيرون إلى تكذيب كل ما قاله الإعلام الرسمي السوري (القاصر و الحقّ يقال) في هذا الصدد. بذلت إسرائيل جهوداً جبارة بعد القبض على كوهين لإنقاذه من حبل المشنقة وجنّدت بعثاتها الدبلوماسية في الشرق والغرب لممارسة الضغط على الحكومة السوريّة وناحت وأدانت القضاء السوري الذي حرم كوهين من "حقّه المشروع" في توكيل محامي للدفاع عنه وحتّى بعد إعدامه حاولت على مدار السنين إسترجاع رفاته دون جدوى. 

اكترى كوهين شقة في أبو رمانة قرب مبنى الأركان بمبلغ ٣٢٥ ليرة سورية شهرياً و كانت تقع في الطابق الرابع



صندوق بريد كامل أمين ثابت في دمشق إستيراد و تصدير


نأتي الآن إلى مزاعم الكتاب التي لا يوجد عليها دليل إلا ما كتبه المؤلّفان وما ردّده القرّاء كالببّغاءات دون فحص أو تمحيص وبحسن أو سوء نيّة وعلى سبيل المثال:

١. كان كوهين صديقاً حميماً لأمين الحافظ يزوره ويناديه "أبو عبدو".                                                                                                                                           
٢. كان أيضاً صديقاً لسليم حاطوم الذي زار كوهين في شقّته في حفلٍ لعبت فيه الخمر والحشيش بعقول الضيوف.  
 
٣. كوهين زكّى خليلة حاطوم لودي شامية في الإعلام السوري.                                                                                 
٤. كوهين كان يعطي مفاتيح بيته لأصدقائه من الضبّاط عندما يحتاجون إلى ملاذٍ يقضون فيه لياليهم الحمراء.                      
٥. كوهين هو الذي صالح أمين الحافظ مع صلاح الدين البيطار.                                                                         

كوهين في حفلة تنكرية مع أخدانه العرب


الحقيقة كانت أقل رومانسيّةً من هذا بكثير فكوهين لم يكن "جيمس بوند" ولا من يحزنون بشهادة العالمين بخفايا الأمور في الموساد الإسرائيلي كما يتّضح من كتاب "حروب إسرائيل السريّة" لمؤلِّفَيهٍ بني موريس وإيان بلاك إذ يقولان على لسان رافي إيتان أن كوهين كان "جاسوساً في غاية السوء وتصرّف بغباء في دمشق" عندما كان يبثّ إلى إسرائيل بمناسبة وبغير مناسبة رغم تحذيرات المخابرات الإسرائيليّة (مثلاً كان يبثّ لأخيه وقرينته) وأدّى هذا بالنتيجة إلى سقوطه.

المحكمة العسكرية التي أدانت كوهين في الوسط صلاح الضلّي والشخص الثاني من اليمين سليم حاطوم


كوهين في قفص الإتهام وهو الأوّل من اليسار




عهد الانفصال


عاشت سوريّا عاماً  ونصف العام، من ٢٨ أيلول ١٩٦١ إلى ٨ آذار ١٩٦٣، تحت ما سُمّي لاحقاً بعهد الانفصال. نستطيع بعد انصرام أكثر من نصف قرن على هذه الفترة، أن ننظر إليها كمرحلةٍ انتقاليّة، شَهِدَت آخر ظهور الرعيل القديم على المسرح السياسي، أي زعامات سوريّا التقليديّة التي لعبت على مدى القرون دور الوسيط بين السلطة المركزيّة في القسطنطينيّة ومن بعدها سلطات الانتداب الفرنسي من جهة، والشعب السوري من جهةٍ ثانية. قام هذا الرعيل القديم أو ما أطلق عليه ألبرت حوراني وفيليپ خوري تسمية "أعيان الحضر"، بقيادة سوريّا في مطلع عهد الاستقلال ظاهريّاً (أي كواجهة للحكم العسكري في بداية عهد الانقلابات)، أو فعليّاً - مع استمرار نفوذ الجيش من وراء الكواليس - حتّى الوحدة مع مصر في شباط ١٩٥٨، وعاد إلى سدّة الحكم بشكلٍ أو بآخر، أو على الأقل هكذا بدت الأمور بعد انقلاب عبد الكريم النحلاوي عام ١٩٦١، الذي أنهى تجربة الوحدة.

هناك إلى يومنا من ينشد المدائح في عهد الانفصال الذي خلّص سوريّا من "الطاغية" المصري - ذهب بعضهم إلى حدّ إعلان الوحدة "يوم حداد وطني" -، وآخرون يلعنون هذه الفترة التي كرّست تجزئة  "الأمّة العربيّة". لربّما وقعت الحقيقة في مكانٍ ما بين هذين النقيضين. في كلّ الأحوال تقتضي الموضوعيّةُ التذكيرَ أنّ من حكم سوريا في هذه الفترة كان الجيش وليس المدنييّن، وأنّ الصراع على السلطة بين الضباط هو الذي رسم الأحداث وأدّى بالنتيجة إلى سقوط النظام. لربما اعتقد البعض أنّ مقاليد الأمور كانت بيد ناظم القدسي وخالد العظم ومأمون الكزبري وغيرهم من الزعامات المدنيّة التقليديّة، بيد أنّ الحلّ والربط كان في نهاية المطاف حكراً على الجيش. بالطبع لا يختلف عهد الخمسينات "الديمقراطي" في هذا الصدد عن عهد الانفصال في الجوهر وإن تباينت التفاصيل. 


لا يوجد الكثير من الكتب المخصّصة لهذا العهد، ومعظم المتوافر لا يتجاوز تبادلاً رخيصاً لاتّهامات في غياب الأدلّة، أو محاولاتٍ مبتذلة لتمجيد وتبرئة الذات. أمثلة عن النوع الأول عملٌ تافه لنهاد الغادري بعنوان "الكتاب الأسود في حقيقة عبد الناصر"، الذي أثبت فيه الكاتب - أو هكذا اعتقد - بما لا يحتمل الشكّ أنّ عبد الناصر "عميل" وأنّه "باعنا جميعاً". هناك أيضاً كتاب أو بالأحرى كتيّب لا يقل تفاهةّ عن بنات أفكار الغادري بعنوان "مؤتمر شتورة نهاية طاغية". أضف إلى هذين الكتابين خضمّاً من المقالات الرخيصة تستمدّ وحيَها من نفس المشكاة. 


النوع الثاني من الكتب - التي يدافع مؤلّفوها عن أنفسِهم ومواقِفِهم - هو مذكرات بعض أبطال هذه الحقبة، أخصّ بالذكر بالتنويه منها "مذكّراتي عن فترة الانفصال في سورية" للفريق عبد الكريم زهر الدين، الذي كرّس كتابَهَ للبرهنة على وطنيّة وإخلاص وعفويّة ونزاهة الكاتب، والتي كوفئت بالجحود والتآمر والأنانيّة وقصر النظر من الجميع وعمليّاً دون استثناء. أُلْحِقُ بالمقال اقتباساً من الصفحة ٣٧٩، عندما ذهب زهر الدين إلى رئيس الجمهوريّة ناظم القدسي وطلب منه أن يعترف بالانقلاب العراقي على نظام عبد الكريم قاسم في شباط  ١٩٦٣، وكيف استشاط القدسي غضباً وصرخ في وجه زهر الدين بما معناه أنّ هذا الاختصاص سياسي وليس عسكريّاً. كان القدسي محقّاً دون أدنى شكّ وإن كان هذا أكثر ممّا يستطيع أن يستوعبه ذهن زهر الدين البليد. كتاب آخر يستحقّ الإشارة إليه مذكّرات خالد العظم، التي شملت طبعاً حياتَه السياسيّة ككلّ وليس فقط عهد الانفصال. لم يحد العظم عن نهج زهر الدين في مدح الذات وهجاء الآخرين باسثناء أنّه كان أحدّ لهجةً في الشتيمة والتخوين. 

ليس تحمّل المسؤولية والاعتراف بالخطأ من شِيَم السياسييّن عموماً، لا في سوريّا ولا غيرها، وطالما أقنع هؤلاء أنفسهم خلافاً لكل منطق بتجرّدِهِم ومثاليّتِهم. أستشهد هنا بمقطع من المقابلة المتلفزة والمطوّلة بين عبد الكريم النحلاوي، عرّاب انقلابات عهد الانفصال بامتياز، وإعلامي الجزيرة أحمد منصور بعد خمسة عقود من الأحداث أعلاه، عندما برّر النحلاوي أفعالَهُ بمحاولاتِهِ في "منع تدخل الجيش بالسياسة". ما كان لمحاورٍ مخضرم كمنصور أن يمرّر فرصةً كهذه للسخرية من النحلاوي وأجابه على التوّ: "كل ده و ما تدخلتوش بالسياسة؟! أمّال لو كنتو تدخلتو بالسياسة كنتو عملتو إيه؟!" لربما صدّقَ النحلاوي فعلاً ما قاله، أو علّ الموضوع لا يتجاوز زلّة لسان، ولكنّه بالتأكيد ليس أوّل من فكّر بهذه الطريقة ولن يكون آخرهم.


Wednesday, April 20, 2016

سوريّا من الجلاء إلى الوحدة


كتابان هامّان عن التاريخ السياسي لسوريّا بين ١٩٤٥ و ١٩٥٨، الأوّل بعنوان "السياسة السوريّة والعسكريّون" للأمريكي غوردن توري (١٩١٩-١٩٩٥). كان المؤلّف مستشاراً لحكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة لشؤون الشرق الأدنى وعَمِلَ لحساب المخابرات المركزيّة من ١٩٥٦ إلى ١٩٧٤. الكتاب الثاني "الصراع على سورية" للصحافي المعروف پاتريك سيل (١٩٣٠-٢٠١٤)، بريطاني من مواليد إيرلندا وكتب الكثير عن سورّيا خصوصاً والقضايا المتعلّقة بالنزاع العربي الإسرائيلي عموماً على مدى نصف قرن. 

صدر كتاب توري عن جامعة أوهايو عام ١٩٦٤، وتلاه كتاب سيل عن أوكسفورد عام ١٩٦٥. كلاهما معرّبان تعريباً أميناً منذ نصف قرن، وعلّ الحصول على نسخة من كتاب سيل إنجليزيّةً كانت أم عربيّة، أسهل منالاً إذ أعيدت طباعتُهُ مرّةً على الأقلّ.

يعالج الكتابان بالطبع نفس الأحداث بدايةً من استقلال سوريّا وانقسام الكتلة الوطنيّة إلى "الحزب الوطني" المتمركز حول الزعامات الدمشقيّة، و"حزب الشعب" الذي تصدّره أعيان حلب والمعارض للقوّتلي. بالكاد استقّلت سوريّا عندما بدأت الانقلابات عام ١٩٤٩، ومعها حكم العسكر، من حسني الزعيم حتّى مطلع ١٩٥٤ وسقوط أديب الشيشكلي. عادت سوريّا بعد ذلك إلى "الديمقراطيّة" وتعدّد الأحزاب. تجدر هنا الإشارة إلى تحالف حزب البعث مع أكرم الحوراني الذي دعم البعثييّن إلى حد كبير عن طريق علاقاتِهِ مع ضبّاط الجيش ونفوذِهِ في حماة.  كرّست انتخابات ١٩٥٤ صعود نجم البعث واليسار على حساب الزعامات و الأحزاب التقليديّة، وكان من أهم نتائج هذه الإنتخابات تقهقر حزب الشعب المؤّيد للتقارب مع الهاشمييّن ومشروع "الهلال الخصيب". يذكر توري (صفحة ٤١) أنّ عدد الجرائد في دمشق عام ١٩٥٢ بلغ ١٨، وحلب ١١، ولكنّه يستدرك فيضيف أنّها كانت محدودة التوزيع أولاً (١٤٠٠-١٨٠٠ نسخة)، وأنّ المنشورات السياسيّة الحياديّة والمستقلّة كانت معدومةً ثانياً.


مقارنة بين الانتخابات النيابيّة عاميّ ١٩٤٩ و.١٩٥٤. من أهمّ نتائج هذه الأخيرة صعود المستقلّين (أبرزهم خالد العظم) والبعثييّن على حساب الكتلة الوطنيّة


تمّت تصفية الحزب القومي السوري الاجتماعي في أعقاب إغتيال العقيد عدنان المالكي نيسان ١٩٥٥، وتعاظم بعدها دور اليسار في السياسات السوريّة خاصّة مع ازدياد هيبة ونفوذ عبد الناصر في العالم العربي في أعقاب أزمة السويس عام ١٩٥٦، والمواجهة بينه وبين حلف بغداد


احتدم التوتّر السياسي في سوريّا عام ١٩٥٧، وأقلق تحالف خالد العظم مع الشيوعييّن الكثيرين، ومنهم البعث الذين اعتقدت قيادتهُ أنّ الوحدة مع مصر قد تخدم مصالحها. لعب البعثيّون دوراً كبيراً في دفع سوريّا باتّجاه الوحدة إلى درجة قبول جميع شروط عبد الناصر ،بما فيها حلّ الأحزاب، وأن تكون الوحدةُ اندماجيّةً، في الوقت الذي كان الموقف السوري أميل لاتحاد فيدرالي أكثر مرونةً. بالنتيجة حسمت مجموعةٌ من الضبّاط السوريين الخلاف ووضعوا حكومَتَهم أمام الأمر الواقع. 

ركّز توري على تذبذب السورييّن بين الحياة الپرلمانيّة (أو الديمقراطيّة إذا أردنا)، والدكتاتوريّة العسكريّة، وكيف فشلوا في هذه وتلك لعوامل عديدة تتعلّق بضعف الهويّة السوريّة، وتفشّي الطائفيّة والعشائريّة والإقليميّة، ناهيك عن تدخّل القوى الأجنبيّة. يختم المؤلّف بصفحاتٍ قليلة يتحدّث فيها عن فشل تجربة الوحدة الذي ساهمت به فترةٌ طويلةٌ من المصاعب الاقتصادية، السياسات الإشتراكيّة الفاشلة، القحط، والجراد؛ أضاف توري أنّ عبد الناصر تردّد في قبول الوحدة عندما عَرَضَها السوريّون عليهِ، وبالنتيجة أجهزت عليها مجموعةٌ من ضبّاط الإقليم الشمالي من ذوي الميول المحافظة. 
عالج پاتريك سيل الموضوع ذاته من منظورٍ مختلف، ألا وهو سوريّا كجائزةٍ تنازعها محور القاهرة - الرياض من جهة، ومحور عمّان - بغداد من جهةٍ ثانية. أضف إلى ذلك جيران أقوياء على المستوى الإقليمي أهمّهم إسرائيل وتركيّا ومن ورائَهما من القوى العظمى. كتاب سيل أسلس حبكةً وأفضل تنظيماً ولربمّا أقوى حجّةً. يبقى الكتابان بعد نصف قرن من نشرهما أفضل الموجود عن تاريخ سوريّا السياسي في مطلع عهد الاستقلال. 




Saturday, April 16, 2016

ألبرت حبيب حوراني عن سوريّا ولبنان عشيّة الاستقلال



المؤلِِّف ألبرت حبيب حوراني (١٩١٥-١٩٩٣) مؤرّخ و أكاديمي بريطاني من أصول سوريّة (أو عثمانيّة أو لبنانيّة كون عائلته من مواليد ما يعرف حالياً بجنوب لبنان)، والكتاب "سوريّا ولبنان" من منشورات جامعة أكسفورد ١٩٤٦ متوافر بالمجّان للقراءة والتحميل على الموقع في الرابط أدناه.

يتابع حوراني من خلال حوالي ٤٠٠ صفحة تطوّر الكيانات السوريّة واللبنانيّة حتّى نهاية الحرب العالميّة الثانية، مستهلّاً بحثَهُ بتعريف جغرافي لسوريّا وكيف تغيّر هذا المفهوم في مطلع القرن العشرين ليقتصر بالنتيجة على مكوّناتِها الشماليّة، أي دون شرق الأردنّ وفلسطين. يعطي الكاتب لمحةً تاريخيّةً سريعة بدايةً من الآرامييّن والكنعانييّن (الفينيقييّن) والعبراييّن، ونهايةً بانحطاط وسقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، والتسوية التي جرت بعد ذلك بين الحلفاء الظافرين، وتقسيم سورّيا والعراق إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وإنجلترا. 

خصّصَ المؤلِّف حيّزاً لا بأس به لدراسة الوضع في الشرق الأدنى عشيّة الحرب، والتوازن الطائفي أو ما عُرِف بنظام "الملّة" تحت العثمانييّن، وكيف احتفظت الطوائف بموجب هذا النظام باستقلال نسبي في إدارة أمورها الدينيّة والعشائريّة. نأتي بعدها إلى قصّة تغلغل النفوذ الغربي والأوروپي الاقتصادي والفكري وظهور مفهوم القوميّة العربية وتنامي الهجرة اليهوديّة عبر المشروع الصهيوني. 

فصّلَ حوراني في موضوع الأقليّات، ليس فقط الدينيّة، وإنّما أيضاً الإثنيّة واللغويّة (أكراد، أرمن، شركس، تركمان) مع تركيز خاص على لبنان وكيف سعى الغرب إلى تعزيز نفوذِهِ بالتعاون مع بعض الطوائف منذ مئات السنين، من شرلمان مروراً بالصليبييّن وحتّى نظام الامتيازات في العهد العثماني. 

ندخل بعد ذلك في صلب الموضوع، أي الانتداب الفرنسي الذي صادقت عليهِ عصبة الأمم في السابع من تمّوز يوليو عام ١٩٢٢، وتقلّبات هذا الانتداب، والمحاولة الفاشلة للوصول إلى معاهدة بين فرنسا وسوريا عام ١٩٣٦ التي يفترض أن تستقلَّ بموجِبِها هذه الأخيرة تحت الوصاية الفرنسيّة، ثمّ التنازل عن لواء اسكندرون لصالح تركيّا وتوقيع اتّفاقيّتِهِ من قِبَل  الفرنسييّن والأتراك في الثالث والعشرين من حزيران يونيو عام ١٩٣٩

تمخّضت الحرب العالميّة الثانيّة وهزيمة فرنسا على يد الألمان عن تدهورٍ كبير في نفوذ وهيبة پاريس في الشرق الأدنى، ومنه محاولتها استرضاء السورييّن بإعلان الجنرال كاترو استقلال بلادِهم في الثامن والعشرين من أيلول سپتمبر ١٩٤١. حاول الفرنسيون جهدَهم إقناع السورييّن بقبول اتفاقيّة تحكم العلاقات بين البلدين، على غرار معاهدة ١٩٣٦ التي رفض الپرلمان الفرنسي تصديقها في حينه؛ بيد أنّ الموقف التفاوضي الفرنسي في الأربعينات كان أضعف كثيراً منه في الثلاثينات، ولم يكن الإنجليز في صدد التعاون مع الفرنسييّن. استغلّ  السوريّون الوضع العالمي الجديد ونجحو في نيل استقلالهم والجلاء الذي سبقه اعتراف الاتّحاد السوڤيتي والولايات المتّحدة عام ١٩٤٤. بالطبع كان للضغط البريطاني على فرنسا الباع الأطول في إجبارها على الانسحاب. ردّت سوريا ولبنان جميل إنجلترا بإعلان الحرب على ألمانيا في شباط ١٩٤٥؛ ينطبق على مساهمتهم في المجهود الحربي المثل الشامي "الله يطعمك الحج والناس راجعة"، أو حتّى "كل ما حدا بيت السلطان خيلهم بتمدّ الخنفسة رجلها". 

لم يكن تدهور بريطانيا واضحاً وقتها لمعظم الناس، بما فيهم الكثير من الساسة والمفكّرين الإنجليز - ألبرت حوراني نفسه على سبيل المثال. غطّت الاحتفالات بالنصر وخطب الساسة العصماء على خسائر إنجلترا في الحرب وخروجها منها مثقلةً بالديون، وتعاملت بريطانيا ظاهريّاً مع الروس والأمريكييّن من موقع نديّة. اقتضى الأمر عقداً إضافياً من الزمن وأزمة السويس عام  ١٩٥٦ (*) حتّى يعرف البريطانيّون محلّهم من الإعراب الذي التزموا بهِ وبالخطّ الأمريكي بأمانة أسوةً بالفرنسييّن مع احتمال استثناء عهد ديغول في الحالة الأخيرة.  


(*) أكرهت الولايات المتحدة فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على التراجع عام ١٩٥٦، في أسلوبٍ يمكن مقارنتهُ بالضغط الذي مارسَهُ الإنجليز على الفرنسييّن للانسحاب من سوريّا في منتصف الأربعينات. أخلت إسرائيل سيناء عملياً صفر اليدين.


إحصاء سكان سوريا (١٩٣٨) ولبنان (١٩٤٢) حسب المقاطعات؛ لا يشمل نصف مليون بدوي في سوريّا ولا لواء اسكندرون. من الواضح أنّ لبنان أكثف سكّانيّاً من سوريّا

التعليم في سوريّا ولبنان ١٩٣٨. عدد المدارس والطلّاب في لبنان أكثر منه في سوريّا بأسرِها

توزيع سكان سوريا (١٩٣٨) و لبنان (١٩٣٢) حسب الطوائف





Saturday, April 9, 2016

فيليپ خوري وولادة سوريّا الحديثة



ولد فيليپ خوري في الولايات المتحدة الأمريكيّة وتلقّى قسماً من تعليمِهِ في الجامعة الأمريكيّة في بيروت وحصل على شهادة الدكتوراة من جامعة هارڤارد عام ١٩٨٠، ليصبح بعدها أستاذاً للتاريخ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. أقوم اليوم بتقديم كتابين له من ثمانينات القرن العشرين، وهما من أفضل ما نُشِر عن التاريخ السياسي لسوريّا الحديثة قبل عهد الاستقلال.

صدر الكتاب (الجزء إذا شئنا) الأوّل بعنوان "أعيان المدن والقوميّة العربيّة، سياسات دمشق ١٨٦٠-١٩٢٠" عام ١٩٨٣ عن منشورات كمبريدج. الكتاب صغير الحجم نسبيّاً، عددُ صفحاتِهِ حوالي١٥٠، يبدأ بمجزرة ١٨٦٠ وينتهي بدخول الفرنسييّن إلى دمشق وطرد الملك فيصل. جرت نكبة ١٨٦٠ على خلفيّة استياء علماء المسلمين من التنظيمات العثمانيّة، وامتعاض الحرفييّن العاطلين عن العمل نتيجةً لمنافسة البضاعة الأوروپيّة المصنّعة والرخيصة، وغيرها من الأسباب غير المباشرة، التي أدّت إلى النقمة على مسيحيّي دمشق الموسرين نسبياً، إذ خلطت الدهماء بينهم وبين المصالح الأجنبيّة. علاوةً على الأرواح التي أُزْهِقَت والدمار الذي لحق بالحيّ المسيحي، نَتَجَ عن المذبحة إعادة تنظيم أعيان دمشق وبروز وجوه جديدة أكثر انسجاماً مع سياسات القسطنطينيّة وأسرع مطواعيّةً في تطبيقِها، واستمرار هذا النهج الجديد على الأقلّ حتّى ١٩٠٨ وسقوط السلطان عبد الحميد المتزامن مع صعود جمعيّة الاتحاد والترقّي وتركيّا الفتاة.

لعب مثقّفو المسيحييّن ومُفَكِّروهم دوراً جوهرياً في العروبة العلمانيّة كمفهومٍ ثقافي قبل عام ١٩١٤، وثانويّاً في العروبة السياسيّة. كانت العروبةُ وَقْتَها بدعةً سوريّةً بامتياز، اختَرَعتها نخبةٌ صغيرةٌ من أهل المدن السوريّة، خصوصاً دمشق، ومع ذلك يتعيّن توخّي الحذر في تقييم أهميّتها، وألّا ننسى أنّ الغالبيّة العظمى من مقاتلي فيصل كانت حجازيّةً وعراقيّة، وأنّ معظم السورييّن تعاطفوا مع الدولة العثمانيّة، وكثيرٌ منهم اعتبروا الثورة ضدّها خيانةً وحاربوا معها طوعاً أو قسراً، أو على الأقلّ وقفوا على الحياد بانتظار نتيجة الصراع.


******

رأى الكتاب (أو الجزء) الثاني "سوريّا والانتداب الفرنسي، سياسات القوميّة العربيّة ١٩٢٠-١٩٤٥" النور عام ١٩٨٧، والناشر هذه المرّة جامعة پرنستون. هذا العمل بمثابة تتمّة للكتاب الأوّل، بيد أنّه أطول بكثير (حوالي ٧٠٠ صفحة)  وأغنى بالتفاصيل، رغم كون الفترة الزمنيّة التي يغطّيها لا تتجاوز ربع القرن، بدايةً من ميسلون ودخول غورو، ونهايةً بجلاء الفرنسييّن عن سوريّا. العمل موجّهٌ بالدرجة الأولى للمختصّين ويحتوي على كمٍّ لا بأس به من المعلومات عن الإدارة الفرنسيّة والإحصاءات.

بعد التعريف ببعض أعلام المقاومة كإبراهيم هنانو والشيخ صالح العلي وعبد الرحمن الشهبندر، يتعرّض الدكتورخوري إلى خلفيّات الثورة السوريّة الكبرى ١٩٢٥-١٩٢٧، وكيف بدأت القلاقل في جبل الدروز عندما اعتقل الفرنسيّون اللبناني أدهم خنجر بتهمة المشاركة بمحاولةٍ لاغتيال الجنرال غورو. كان خنجر في طريقه إلى زيارة سلطان الأطرش الذي طالب السلطات الفرنسيّة بتسليمه الأسير احتراماً للأعراف العريقة للضيافة الدرزيّة، وعندما لم يستجب الفرنسيّون إلى التِماسِهِ، هاجم الدروز القافلة الموكلة بنقل خنجر إلى دمشق.

لا مجال للدخول بتفاصيل الثورة التي انتشرت من جبل الدروز إلى دمشق وغيرها، وحسبنا تسليط الأضواء على بعض الحوادث التي لا تُطابِقُ بالضرورة السرد التقليدي لثورةٍ وطنيّة ضدّ الاستعمار الغاشم، ولا تخلو من بعض الجوانب المظلمة التي يَضْرِب عنها صفحاً الكثيرون من الرواة. قصف وتدمير حيّ سيدي عامود (الحريقة) من قبل الفرنسييّن معروف؛ أقلُّ شهرةً منه قتل مسلحيّ حسن الخراط للجنود المغاربة في أحد مواخير الشاغور (صفحة ١٧٦)، ونهب الثوّار لقصر العظم، والهلع الذي أصاب مسيحيّي باب توما عندما انسحب الفرنسيّون، ودخول الأمير سعيد الجزائري إلى هذا الحيّ مع مجموعةٍ من المسلّحين في محاولةٍ منه لحماية الأهالي من العصاة واللصوص، أسوةً بسلفه الأشهر الأمير عبد القادر قبل خمساً وستّين من الأعوام. يترتّب على ما سبق تعدّد عوامل الثورة التي اختلط فيها الوطني مع الشخصي مع الديني والقَبَلي والعشائري والإقليمي.

 بدأت مرحلةٌ جديدةٌ في العلاقات الفرنسيّة السوريّة بعد أن وضعت الثورةُ أوزارَها، في محاولةٍ من البعض للتعاون مع سلطات الانتداب وإنقاذ ما يمكن إنقاذُهُ بالطرق الپرلمانيّة والمفاوضات؛ تزامن هذا مع صعود الكتلة الوطنيّة. لاحَ الفَرَجُ قريباً عندما وصلت الجبهة الشعبيّة بزعامة ليون بلوم إلى سدّة الحكم في فرنسا إذ أبدت وزارةُ هذا الأخير استعدادَها لبحث مستقبل سوريّا عن طريق رَبْطِها بفرنسا بمعاهدة (١٩٣٦) تحلُّ محلَّ الانتداب. كان لليمين الفرنسي الاستعماريّ الهوى الباع الأطول في إحباط هذا المسعى، عندما رفض الپرلمان الفرنسي تصديق الاتّفاقيّة رغم تنازلات المفاوض السوري جميل مردم بك (التي رفضها الپرلمان السوري بِدَوْرِهِ). بالنتيجة أتى إضراب ١٩٣٦، وتبخّر ما تبقّى من الأمل بعد سقوط حكومة بلوم.

قصّة سلخ لواء اسكندرون لخطب ودّ تركيّا قبيل الحرب العالمية الثانية، والتحدّي الصهيوني في فلسطين وأصداء هَذَيْن الحَدَثَيْن في سوريّا، معروفةٌ لا يمكن اختزالها في سطورٍ قليلة. خَرَجَت فرنسا من الصراع العالمي الجديد منهكةً، واستطاع سياسيّو سوريا توظيف هذا الضعف لصالحهم، بدعم من الإنجليز الذين مارسوا الضغط على فرنسا وفرضوا عملياً جلاء قوّاتِها عن بلاد الشام.





Wednesday, April 6, 2016

سوريّا التاريخيّة عشيّة الاستقلال




الكاتب Robin Fedden (١٩٠٨-١٩٧٧) أديب وشاعر وديپلوماسي إنجليزي نشأ في فرنسا ودرّس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة حسب ترجمته على الويكيبيديا. الطبعة الأولى لكتاب "سوريّا، تقييم تاريخي" إصدار عام ١٩٤٦، وطبعته الثانية متوافرة للقراءة والتحميل بالمجّان للمهتمّين ويعكس معلوماتٍ جَمَعَها المؤلّف عن سوريّا خلال زياراتِهِ لها بدايةً من عام ١٩٣٧، ومروراً بسنوات الحرب العالمية الثانيّة، بالتعاون مع السلطات الفرنسيّة. Fedden غزير الإنتاج له أكثر من كتاب عن مصر وسوريّا، منها موضوع حديث اليوم.  سوريّا التي يقصدها هي الكيان الجغرافي السياسي الذي خَلَقَهُ الفرنسيّون بما فيهِ لبنان بعد اقتطاع لواء اسكندرون بدلالة الخريطة الملحقة.  عدد صفحات الكتاب حوالي ٢٨٠ مع ٣٢ صورة بالأبيض والأسود لبعضٍ من أشهر مواقعها الأثريّة. 


Robin Fedden. Syria, an Historical Appreciation. Robert Hale, London; 1946. 



رصافة هشام



قلعة الحصن


قلعة مصياف








Saturday, April 2, 2016

سوريا الرومانيّة


يصعب تغطية تاريخ سوريّا في العهد الروماني في مجلّد واحد نظراً لاتّساع رقعة بلاد الشام الجغرافيّة، وطول الفترة الزمنيّة التي تغطي سبعة قرون بدايةً من عزل آخر الملوك السلوقييّن على يد پومپي عام ٦٤ قبل الميلاد، ونهايةً بالفتح الإسلامي في ثلاثينات القرن السابع الميلادي الذي أنهى وجود البيزنطييّن في بلاد الشام إلى غير رجعة، باستثناء بعض الغارات والمناوشات على التخوم ليس إلّا.

تفتقر المكتبة العربيّة إلى مراجع موثوقة في هذا المضمار ويعود هذا لعدّة أسباب، منها عدم توافر الخبرة وقّلة الموارد، ولربّما أيضاً إهمال مُتَعَمّد لتاريخٍ يعتبره العروبيّون إستعماراً والإسلاميّون جاهليةً، تماماً كما يعتبر كثيرٌ من المستشرقين الغربييّن العهد الإسلامي عهدَ تخلّفٍ وانحطاط. 

علّ كتاب "سوريا الرومانيّة" للأستاذ كڤن بوتشر (إصدار ٢٠٠٣)  من أفضل الموجود عن هذا الموضوع، خاصّةً لمن لا يملك الوقت الكافي لمراجعة آلاف الصفحات في المصادر الموجّهة للأخصائييّن. الكاتب مدرّس للتاريخ والآثار في الجامعة الأمريكيّة في بيروت وخرّيج بريستول ولندن وحائز على دكتوراه في المسكوكات الرومانيّة. الكتاب موزّعٌ على ٤٧٠ صفحة غنيّة بالصور البديعة، ٣٠ منها بالألوان و ١٩٨ بالأبيض والأسود.

يحتلّ التاريخ السياسي بالطبع قسماً من الكتاب، بيد أنّ هذا السفر النفيس أغنى من ذلك بكثير، إذ يعالج أيضاً التاريخ الإداري والاقتصادي والفنّي والديني والمعماري والثقافي واللغوي، مع العديد من المخطّطات التوضيحيّة القريبة المتناول للهواة والمحترفين على حدٍّ سواء. من نافل القول أنّ التراث السوري الروماني كان ولا يزال وافر الغنى رغم مرور القرون وتخريب البرابرة على مدى العصور، ورغم الجهل والإهمال والتزمّت. كانت سوريّا خلال مئات السنين أحد أغنى وأجمل أقاليم الإمبراطوريّة الرومانيّة المترامية الأطراف وقد آن الأوان أن تُعْطَى هذه الفترة الزاهية حقّها.

صورة الغلاف لشروق الشمس على أعمدة تدمر والمخطّط الملحق مقارنة نسبيّة بين المدن السوريّة في العهد الروماني، وكما نرى أكبرها أنطاكيا تليها أفاميا ثمّ دمشق وتدمر.