Saturday, September 30, 2017

عواصم الإسلام العربي



حاولَ الدكتور فيليپ حتّي (١٨٨٦ - ١٩٧٨) في هذا الكتاب الصغير (١٧٠ صفحة) الصادر عن جامعة Minnesota عام ١٩٧٣، أن يعرّف الطلّاب والهواة بتاريخ العرب عَبْرَ ستّة مدن. الدكتور حتّي أكثر من مؤهّل لهذه المهمّة، فهو علاوة على ضلوعِهِ في الإسلام وتاريخ الشرق الأدنى عموماً والعرب خصوصاً، متمكّن من اللغتين العربيّة والإنجليزيّة؛ لا عجب فهو أحد أعضاء المجمع العلمي العربي في دمشق. امتدّت موهبة إتقان اللغات إلى أخيه الطبيب يوسف حتّي، صاحب قاموس المصطلحات الطبيّة الإنجليزي - العربي المعروف. كتاب عواصم الإسلام العربي متوافرٌ للقراءة والتحميل بالمجّان. 

المدن الستّ هي مكّة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة. خصّص المؤلّف لكلٍّ منها حوالي ٢٥ صفحة. ليس الكتاب موجّهاً للأخصائيّين، ومع ذلك وجدتُ فيه بعض المعلومات التي كنتُ أجهلُها، إضافة إلى خضمٍّ من النوادر الطريفة. الصورة الملحقة عن المركز العربي للمعلومات في نيويورك لدمشق طبعاً، تبدو في مقدّمتها ساحة النجمة ثمّ مدرسة الفرنسيسكان وكنيسة اللاتين باتّجاه الشرق، ونرى في العمق بساتين الغوطة. 

____________

مكّة العاصمة الدينيّة
أوّل ذكر معروف لمكّة كان تحت إسم Macoraba في جغرافية المؤلّف اليوناني - المصري بطليموس في منتصف القرن الثاني للميلاد. أبرهة الحبشي ما هو إلّا أبراهام أو إبراهيم. قصّة مكّة في العهد الإسلامي معروفة ولكن أكثر ما أثار اهتمامي مغامرات الأوروپييّن المسيحييّن الذين نجحوا في دخول مكّة مخاطرين بحياتهم، وجمعوا بعض المعلومات المتفاوتة الدقّة. أوّل هؤلاء الرحّالة الإيطالي Ludovico di Varthema الذي "اعتنق" الإسلام، واعتمد إسم يونس، ونجح في زيارة المدينة المقدّسة عام ١٥٠٣. تلاه الإسپاني المعروف تحت اسم علي بك العبّاسي (اسمه الأصلي Badia y Leblich) عام ١٨٠٧، ومن ثمّ السويسري Johann Lewis Burckhardt عام ١٨١٤؛ أكبر إنجاز لهذا الأخير اكتشاف البتراء.

المدينة عاصمة الخلافة
يثرب أيضاً مذكورةٌ في جغرافية بطليموس تحت إسم Iathripa، بيد أنّها، كما هو حال مكّة، مجهولةٌ عمليّاً قبل الإسلام، باستثناء ما ذُكِرَ عنها في الروايات الإسلاميّة اللاحقة. كثيرٌ من صفحات هذا الفصل مخصّص للفتوحات العربيّة التي وجد الدكتور حتّي بعض أوجه التشابه بينها وبين دخول العبرانييّن إلى أرض الميعاد قبل ظهور الإسلام بثمانية عشر قرناً، على الأقلّ من ناحية التفسير الديني. 

دمشق عاصمة الإمبراطوريّة
تاريخ دمشق بالطبع أقدم بكثير من العرب والإسلام. بدأ المؤلّف بأوّل ذكرٍ لها على لائحة غزوات الفرعون تحوتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، مروراً بدولة آرام - دمشق وتوسّعها على حساب الممالك المجاورة ومنها إسرائيل، قبل سقوطِها على يد الآشورييّن عام ٧٣٢ ق.م. احتكر الآراميّون تجارةَ الداخل كما احتكر الفينيقيّون تجارة السواحل والبحار. أسدَلَ التاريخُ ستارتَهُ على دمشق في العهود اللاحقة تحت الفُرْس وخلفاء الإسكندر، عندما صعد نجم أنطاكيا كمدينة سوريّا الأولى. ازدادت أهميّة دمشق في العهد الروماني وتوسّع هيكَلُها الهائل. تبقى الفترةُ الأمويّة عهدَها الذهبي بامتياز.

بغداد عاصمة الفكر
تحوّلت الخلافة في العهد العبّاسي إلى مَلَكيّة على غرار أباطرة الفرس، وظهر منصبُ الوزير للمرّة الأولى في الإسلام. رَوَى الدكتور حتّي قصّة البرامكة وغناهم وحظوتهم إل أنّ قلب لهم هارون الملقّب بالرشيد ظهر المجنّ ونكّل فيهم أشنع تنكيل. بُنِيَت بغداد في عهد أبي جعفر المنصور، وأصبحت تحت المأمون خصوصاً مركزاً للعلم والتأليف والتعريب، سواءً فيما يتعلّق بالعلوم الدينيّة (أبو حنيفة والشافعي والغزالي إلخ)، أو الدنيويّة (الخوارزمي والرازي والفارابي والكندي وثابت بن قرّة وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وغيرهم). لربّما كان أهمّ إنجازات ذلك العصر اقتباس "الأرقام العربيّة" من الهند ولربّما كان الصفر ابتكاراً عربيّاً.

القاهرة العاصمة المنشقّة
من المعروف أنّ بُناة القاهرة هم الإسماعيليّون في عهد المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلّي. مؤسّس الدولة الإسماعيليّة عبيد الله المهدي سوريّ الأصل من السلميّة، نجح في بناء إمبراطوريّة في شمال غرب إفريقية امتدّت إلى مصر التي أصبحت مركزَها. كانت بداية الحكم الفاطمي مشرقةً، ولم يحاول الحكّام الأوائل إكراه مسلمي مصر على تغيير دينهم ومذهبهم وظلّت الأغلبيّةُ سنيّةً. تحسّنَ أيضاً وضعُ الأقلّيات المسيحيّة واليهوديّة على الاقلّ حتّى عهد الحاكم بأمر الله. كسف بهاءُ القاهرة الفاطميّة شمسَ بغداد. انتهى العهدُ الفاطمي على يد صلاح الدين. 

قرطبة العاصمة الأوروپيّة
اسم قرطبة مشتقٌّ من أصل فينيقي "قرية توب"، تحوّل تحت الرومان إلى Corduba وفي العهد الإسپاني إلى Cordoba، قَبْلَ أن يحوّله العرب إلى قرطبة دون معرفة أصلِهِ الذي يعني "البلدة الطيّبة". دمّر يوليوس قيصر المدينةَ في القرن الأوّل قبل الميلاد، بعد أن أيّدت أولاد پومپي ضدّه، وذبح عشرين ألفاً من سكّانِها. عهد قرطبة الذهبي كان بالطبع تحت الأموييّن الذين بنوا الجامع الكبير على عدّة مراحل، وقصر الزهراء والمدينة الزاهرة. لا يزال جامع قرطبة موجوداً أمّا الزهراء فقد اندثرت. علماء الأندلس الذين زاع صيتُهُم كثيرون، منهم الزهراوي وابن رشد وابن حزم وابن ميمون. سقطت الخلافة الأمويّة عام ١٠٣١ للميلاد وسقطت المدينة بيد ملك قشتالة عام ١٢٣٦.

تردّد الغرب


أنحى الدكتور van Dam باللائمة على الغرب، وكيف أنّه تعامل مع الأزمة السوريّة بمثاليّةٍ بعيدة عن الواقع، وأضافَ أنّ مقاطعةَ الحكومةِ السوريّة أضاعت على أمريكا وحلفائِها إمكانيّةَ المساومة مع "النظام"، والتأثيرَ على سياساتِهِ، وأنّ موقف الغرب المتشدّد غرّر بالمعارضة، ودفعها إلى التمادي اعتقاداً منها أنّ الفرج، متمثّلاً في التدخلّ العسكري الأمريكي، آتٍ لا محالة إذا قبلنا رواية السيّدة بسمة قضماني (صفحة ١٣٦). أخطاءُ الغرب كانت في الاستهانة بقدرةِ النظام على الصمود (صفحة ١١٩)، وبرفضه الحوار مع الرئيس الأسد (صفحة ١٢٣)، في نفس الوقت الذي أحجم فيه عن دعم المعارضة عسكريّاً بما فيه الكفاية، وعن التدخّل العسكري المباشر. باختصار اختار الغربُ أنصافَ الحلول، ممّا أدّى إلى استفحالِ الأزمةِ واستمرارِها. 

سلَّمَ المؤلّف (صفحة ١٢٣-١٢٤) بأنّ الغربَ تجاهل أنّ الكثير من السورييّن، بغضّ النظر عن دوافعهم، يؤيّدون "النظام" أو على الأقل لا يثقون بالمعارضة، ونوّهَ (صفحة ١٢١) بتشتّت المعارضة بين داخليّة مسلّحة وخارجيّة مدنيّة، لا يعترف ممثّلوها بعضهم بالبعض الآخر. ساهَمَ هذا الوضع المعقّد في عقم إجراءات الغرب النصفيّة المتردّدة والمتأخّرة. 

هدفُ الغرب (حسب van Dam) نبيل: نظام سوري ديمقراطي (صفحة ١٢٠) يحلّ محلّ الأسد، وفي مكانٍ آخر (صفحة ١٢٧) "من الواضح أنّ ما يريده الغرب هو نظام معتدل ديمقراطي علماني تعدّدي"، بينما (نفس الصفحة) ركّزت السعوديّة وقطر دعمَهُما على المسلّحين الإسلامييّن، كأحرار الشام وجيش الإسلام. مشكلة الغرب أنّ تدخلَّهُ المحدود كان إجمالاً ردود فعل (صفحة ١٣١)، دون خطّةٍ واضحة تنظر إلى مرحلة "ما بعد الأسد"، وإمكانيّة حلول ديكتاتوريّة إسلاميّة محلّه. أحد ردود الفعل (١) هذه كانت (صفحة ١٢٧) عندما قام الاتّحاد الأوروپي عام ٢٠١٣ برفع حظر السلاح عن المعارضة بضغطٍ من فرنسا وإنجلترا (٢)، بيد أنّ هذه السياسة لم تؤدِّ إلى النجاح المأمول. تردّدَ مونولوج حسن نوايا الغرب في أكثر من مكان (صفحة ١٥٤)، وكيف شَعَرَ إزاء الوضع المحزن في سوريّا بواجِبِهِ في "عمل شيءٍ ما" (صفحة ١٢٩)، لإنقاذ "الملايين من السورييّن"، والشعب السوري الذي "يُضطهَد ويُذبَح"، وكيف نادى البعض بمناطق "حظر جوّي"، وآخرون "بمعابر إنسانيّة"، وغيرهم "بمناطق آمنة" (صفحة ١٣٠)، وكيف طُرِحَت جميعُ هذه الخيارات جانباً لسببٍ أو لآخر. 

____________

ما لم يتعرّض إليه الدكتور van Dam هو إمكانيّة سوء نيّة الغرب. السياسة الخارجيّة لأي حكومة تحكمها اعتباراتٌ كثيرة، أغلبها داخليّة لا علاقةَ لها بالأخلاق والإنسانيّة إلاّ ضمن أضيق الحدود. قد يتسائل البعض ما هي مصلحة الغرب في تدمير سوريّا أو تغيير نظام الحكم فيها؛ أستطيع دون عناء ذكر بعض الأسباب، على الأقلّ كاحتمال:

١. سوريّا رفضت تأييد ومساعدة "تحرير" الولايات المتّحدة وأتباعها للعراق عام ٢٠٠٣. 
٢. تحالف سوريّا مع إيران، التي تجاسرت عام ١٩٧٩ واختطفت رهائن أمريكييّن (٣). 
٣. معارضة دمشق للسلام المصري الإسرائيلي في أواخر السبعينات، وإقامة العقبات في وجهِهِ. 
٤. "احتلال" سوريّا لبنان لمدّة ثلاثين عاماً (٤) و"اغتيالها" رئيس الوزراء رفيق الحريري عام ٢٠٠٥. 
٥. دعم سوريا لحزب الله "الإرهابي".
٦. إصرار سوريّا بكل وقاحة وصفاقة وجه على حقِّها المزعوم في الجولان.

شكّكَ الكاتب (صفحة ١٧١) بحكمة التدخّل العسكري الغربي المباشر في سوريّا (٥)، وبنى - وبحقّ - رأيَهُ على النتائج المحزنة لهذا التدخّل في أفغانستان والعراق وليبيا (٦). أضاف van Dam (صفحة ١٧٢) أنّ المطالبةَ باستقالة رئيس دولة كشرطٍ مسبق للحلّ السياسي فريدةٌ من نوعها، ومحكومٌ عليها بالفشل سلفاً.  

ختاماً دعى الدكتور van Dam إلى مواصلة السعي لإيجاد حلّ سياسي (صفحة ١٨١-١٨٢)، ووجوب إعطاء الأولوية لهذا الحلّ، أمّا العدالة (٧) فبوسْعِها أن تنتظرَ دورَها. 

____________

١. بعبارة ثانية تفاعَلَ الغربُ مع الأحداث عوضاً عن أخذ زمام المبادرة. 
٢. المنطق هنا هو تعزيز المعارضة المسلّحة حتّى تهزم "النظام"، أو على الأقلّ تتفاوض معه من موقف قوّة، وهو نفس الخطاب الذي يسوّغ به السياسيّون في أمريكا وأوروپّا دعمهم العسكري والمالي لإسرائيل.
٣. في زعمي أنّ قرار إيران الأرعن باحتجاز رهائن أميركييّن كان عملاً متناهياً في الغباء، بغضّ النظر عن أي اعتبارات قانونيّة أو أخلاقيّة. لا تزال إيران تدفع ثمن هذه البلاهة إلى اليوم. 
٤. أيّدت الولايات المتّحدة وفرنسا دخولَ الجيش السوري إلى لبنان عام ١٩٧٦ ولكن ما علينا. 
٥. تدخّل الغرب هو الطريقة الوحيدة للإطاحةِ بنظامٍ لا تملك المعارضة تأييداً شعبيّاً كافياً لإسقاطِهِ بنفسها. 
٦. من المضحك المبكي أن يدعو البعض بكل جدّية إلى قتل سورييّن بهدف إنقاذ باقي السورييّن، أو ما يسمّى مسؤوليّة الحماية Responsibility to Protect (صفحة ١٨٠). 
٧. أي محاسبة "مجرمي الحرب". 

Friday, September 29, 2017

المجابهة بين الأسد والمعارضة




لا يخلو الفصل الثالث من كتاب الدكتور van Dam من التناقضات، وأحد المطارحات المتواترة في أكثر من مكان (صفحة ٩٧ مثلاً) أنّه لو ساعدت الولايات المتّحدة والغرب "الجيش الحرّ المعتدل" بما فيه الكفاية فلربّما سارت الأمور في مسار مختلف عمّا جرى فعلاً، أي ظهور الأكراد المقاتلين وصعود نجم الإسلامييّن المتطرّفين، وعلى رأسهم الدولة الإسلاميّة أو داعش (صفحة ١٠٠). بالطبع لم يكن المؤلّف الوحيد الذي جادَلَ بهذا المنطق، فهناك جيوش جرّارة من الخبراء والصحافييّن والسياسييّن العرب والأجانب الذين يُدْلون بنفس الرأي. لا بدّ هنا من بعض إشارات الاستفهام:

أوّلاً: هل من الصحيح أنّ الجيش الحرّ لم يتلقّ ما يكفي من الدعم؟ من ناحية التغطيّة الإعلاميّة، أخذت "المعارضة المعتدلة" دعماً غير محدود، بدايةً من فضائيّات قطر والسعوديّة حتّى أوروپا، وعبر الأطلنطي إلى أمريكا. من ناحية المال من الصعب القول أنّ سوريّا تملك معشار ثروة دول الخليج والنفط لتنفِقَهُ على المرتزقة، سواء كانوا من المسلّحين أم ممّن يُسَمّونَ بالصحفييّن تجاوزاً كالسيّدين فيصل القاسم وأحمد منصور . من ناحية العدد والعدّة الميزانُ راجحٌ لصالح المعارضة، اللهمّ إذا استثنينا سلاح الطيران، وحتّى هذا السلاح لم يكن دائماً حكراً على الجيش السوري: الطيران الإسرائيلي بين وقت وآخر يسرح ويمرح في الأجواء السوريّة وكأنّه يقول "نحن هنا"، وإسرائيل قدّمت - إنسانيّة منها ما في ذلك من شكّ - عنايةً طبّيةً مجّانية للثوّار المعتدلين وغير المعتدلين. لربّما كانت الأفضليّة الوحيدة للجيش السوري أنّه حارَبَ على أرضِهِ ودفاعاً عن وجودِهِ. 

ثانياً: على فرض أنّ الجيش الحرّ فَشِلَ لقلّة الدعم، هل هذا يعني أنّ نجاح داعش والنصرة نَتَجَ عن توافر هذا الدعم؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن الذي دعم هؤلاء المتطرّفين خاصّة وأنّ العالمَ كلّهُ  - على الأقلّ من الناحية النظريّة - ضدّهُم؟ كَتَبَ المؤلّف (صفحة ١٠١) أنّ تنظيم الدولة الإسلاميّة نشأ في العراق بعد الإطاحة بالرئيس صدّام حسين على يد الأمريكييّن والإنجليز عام ٢٠٠٣، وأضاف في الصفحة ١٠٢ (نقلاً عن Christopher Phillips) أنّ "انسحاب الولايات المتّحدة السابق لأوانِهِ" من العراق عام ٢٠١١ ترك ورائه جيشاً عراقيّاً ضعيفاً، سَهُلَ على داعش أن تهزمه في الموصل عام ٢٠١٤. يُفْهَمُ من هذا الكلام أنّه لولا الغزو الأمريكي للعراق لما كانت داعش، ومع ذلك فانسحاب أمريكا "السابق لأوانِهِ" هو الذي أدّى لأن تملأ داعش فراغ القوّة بعد سقوط صدّام حسين. إذاً تبقى أمريكا (المقصود بالطبع صنّاع القرار في أمريكا) هي الحلّ، رغم أنّها هي التي خلقت المشكلة أساساً، على الأقلّ إذا فهمت أنا فحوى المكتوب.  

ثالثاً: تسائلَ الدكتور van Dam (صفحة ١١٥) وبحقّ عن السبب الذي جعل الولايات المتّحدة تحجم عن قصف أرتال داعش في طريقها إلى تدمر عندما شكّلت هدفاً سهلاً لطيرانها في الصحراء في أيّار ٢٠١٥. سمح هذا السهو أو التغاضي الأمريكي للمخبولين بدخول المدينة وتدمير بعض أثمن كنوزها، ومع ذلك عاد الكاتبُ (صفحة ١١٧) إلى القول أنّ أولويّة الولايات المتّحدة هي الحرب ضدّ داعش!  

استشهدَ van Dam بالسيّد Tobias Schneider، الذي أسهب (صفحة ١١١) في وصف فساد النظام وتعفّنه و"حربه الشرسة ضدّ مواطنيه" إلى آخر الأسطوانة المشروخة التي ثقبوا طبلة آذاننا بها. نعم لحكومة الأسد عيوبٌ كثيرة لا تقتصر على السلطويّة والاستبداد، ونعم كان الفساد متفشيّاً بها، ونعم قَصَّرَت في مجالاتٍ كثيرة (قبل الحرب)، منها حماية البيئة، وتنظيم الأسرة، والتعليم، والبنية التحتيّة، والحفاظ على الآثار، وفصل الدين عن الدولة، وهلمّجرا. لا بدّ مع ذلك من الإقرار بأنّ المعارضة التي شاهدناها شاركت الدولة في جميع مساوئها عمليّاً وأضافت إليها المزيد من العيوب، أهمُّها الطائفيّة المعلنة بأبشع صورها (لا يوجد مقابل في الحكومة السوريّة لشخصيّات مثل عدنان العرعور ومأمون الحمصي)، والاستعداد المطلق للتعاون مع أي قوّة خارجيّة وعند اللزوم أعداء سوريا التاريخييّن بهدف "إسقاط النظام". أمّا أنّ النظام حارَبَ وقَتَلَ شَعْبَهُ فهذا كلام "من فوق الأساطيح" كما يقول الشوام . الجيش السوري في عهد الأسدين حَارَبَ من حاربهُ ومن نافل القول أنّه قَتَل الكثيرين من الأبرياء، كما يحدث في الحروب عادةً، تماماً كما فعلت المعارضة. معارضوّ الأسد في سوريّا كثيرون، بيد أنّ الكثيرين أيّدوه، وليس فقط العلوييّن و"الأقلّيات". 

للحديث بقيّة. 

Thursday, September 28, 2017

هل كان تجنّب الحرب السوريّة ممكناً؟



شكّلَ هذا السؤال عنوان الفصل الثاني في كتاب الدكتور van Dam، الذي بدأ بالقول بأنّ حلول يوم "الحساب" كان مسألة وقت ليس إلّا، إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ "النظام" وسلوكِهِ خلال نصف قرنٍ من الحكم. لربّما كان من المفيد هنا التعرّض لبعض "المصطلحات" السياسيّة الدارجة:

١. كلمة "نظام" ظاهريّاً بريئة، ولكنّها تستعمل بمعنى سلبي، ومن جميع الأطراف. "النظام"باختصار حكومة عدوّة أو مغضوب عليها، وأذكر جيّداً عندما هاجمَ الإعلام السوري في السبعينات "الأنظمة" المصريّة والعراقيّة والأردنيّة، وبالطبع كالت هذه "الأنظمة" لحكومة دمشق، أو فلنقل "النظام السوري" الصاع صاعين. عندما تستعمل الإدارة الأمريكيّة هذا التعبير لوصف حكومة شرق أوسطيّة فهذه علامة مشؤومة إلى أقصى الحدود، بدلالة نتائجها في العراق. 

٢. "الربيع العربي" مترادفٌ في الإعلام الغربي (على الأقلّ في البداية) مع محاولات الشعوب العربيّة المغلوبة على أمرها التخلّص من حكوماتها المتسلّطة الفاسدة، ولكن إذا استثنينا التوقيت فهناك اختلافات كبيرة للغاية ليس فقط بين أحداث تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريّا والبحرين، وإنّما أيضاً في الطريقة التي تعامل بها "الغرب" مع هذه الأحداث. لا يوجد ما يدعو للاعتقاد أنّ واشنجتون سعت للتخلّص من الرئيس حسني مبارك وإن تخلّت عنه بالنتيجة؛ بالنسبة للبحرين جرى تعتيم إعلامي شبه كامل عندما قمعت "المملكة" المظاهرات مستعينةً بالجيش السعودي؛ في ليبيا أطاحَ المتمرّدون (أو الثوّار) بالقذّافي وقتلوه ومثّلوا بجثّتِهِ في إطار تدخّل عسكري مباشر من الغرب وبعض الدول العربيّة (قطر مثلاً) بحجّة "حماية المدنييّن"؛ أمّا في سوريا فكلّنا نعرف المقاطعة الاقتصاديّة وسحب السفراء والإدانة الدوليّة وما تلاها من دعم "الثوّار المعتدلين" والنتائج المترتّبة على هذه السياسات. 

٣. الديكتاتوريّة هي نظام الحكم في الدول المُسْتَهْدَفة من "الغرب الديموقراطي"، أمّا الحاكم في دولة سلطويّة authoritarian صديقة فهو ملك أو شيخ أو رجل قوي strongman ولكنّه بالتأكيد ليس ديكتاتوراً والعياذ بالله. 

____________

سلَّمَ المؤلّف في أكثر من موضع (صفحة ٧٤ مثلاً) أنّ المظاهرات بدأت سلميّةً، وأنّ طلباتها كانت معقولةً للغاية، وأنّ "النظام" أجاب بالعنف. صحيحٌ أنّ حكومة الأسد قدّمت، أو بالأحرى عَرَضَت تحت الضغط، بعض التنازلات، بيد أنّ  هذه التنازلات كانت غير كافية وأتت متأخّرةً أكثر ممّا ينبغي. تحوّلت المعارضة بالنتيجة إلى العنف، وسيطر عليها ميدانيّاً الإسلاميّون المتطرّفون. للأمانة حرص van Dam على إيراد وجهة النظر المعاكسة، أي الموالية للحكومة السوريّة، بيد أنّ الصوابّ جانَبَهُ  - في اعتقادي على الأقلّ - عندما كتب (صفحة ٧٦) أنّ تركيا والسعوديّة والجامعة العربيّة بذلت في البداية "جهوداً جديّة" لإنهاء العنف، ولم تتحوّل إلى فتح حدودها (تركيّا) للمسلّحين، وتمويلهم وتسليحهم (السعوديّة)، إلّا عندما عيل صبرها من عنف "النظام". 

شملت طلبات المعارضة "المعقولة" (صفحة ٧٥) "الحقّ في القيام بالمظاهرات السلميّة" دون إذن مسبق من الحكومة (للعلم فقط لا يتمتّع المواطنون في الولايات المتحّدة الأمريكيّة يهذا "الحقّ")، وبناء عليه زار السفير الأمريكي Robert Ford ونظيره الفرنسي Éric Chevalier (صفحة ٨٨) حماة في تمّوز ٢٠١١ لتشجيع "المظاهرات السلميّة"، ضاربين عرض الحائط بأبسط الأعراف الديپلوماسيّة: مهمّة السفير أوّلاً وأخيراً التواصل مع الحكومة المُضيفة وليس مع المعارضة سلميّةً كانت أم غير سلميّة، ولو كانت العلاقة بين سوريّا من جهة وأمريكا وفرنسا من جهة ثانية علاقة أنداد، لطردت دمشق السفراء على التوّ، كما ستفعل فرنسا والولايات المتّحدة دون ذرّةٍ من الشكّ لو تجاسر سفير أي دولة على تشجيع مظاهرات المعارضة في بلادِها. 

تجاهلَ المؤلّفُ أو كاد دور الإعلام العربي (القطري مثلاً) في تأجيج العنف والطائفيّة بأبشع صورها، بيدَ  أنّهُ سلّمَ أنّ المعارضة الداخليّة لجأت بالنتيجةِ إلى العنف، وإن لم يذكر جيوش الجهادييّن التي أمّت سوريا من أصقاع الأرض: أبو عمر الشيشاني وأبو هريرة الأمريكي وكثيرون ممّن ما كان لهم أن يصلوا إلى سوريّا دون معابر وتمويل وتسليح إلى آخرِهِ. بالنتيجة تحوّلت "الحرب الأهليّة’" إلى "حرب بالواسطة" proxy war بين سوريّا وإيران وروسيا وحزب الله من جهة، والولايات المتّحدة الأمريكيّة (ومن وراء أو حتّى أمام الكواليس إسرائيل) وتركيّا والسعوديّة وقطر وسائر الخليج العربي وفرنسا وبريطانيا العظمى من جهة ثانية. أمّا عن الأغنى موارداً والأكثر عدداً وعدّةً فهذا متروك لحسن تقدير القرّاء. 

خَتَمَ الدكتور Van Dam هذا الفصل بالجَزم بأنّ جميع السورييّن (باستثناء بعض الأكراد وبتأييد من إسرائيل)، ورغم كلّ ما جرى ضدّ التقسيم، وأضاف بأنّ الأقليّات حاليّاً موزّعة في كافّةِ أنحاء سوريا: هناك مثلاً نصف مليون علوي في دمشق، والعلويّون قطعاً لا يسعون لإقامة دولة في الساحل كما يزعم البعض (صفحة ٩٤-٩٥)، وأنّ آل الأسد (أباً عن جدّ) خصوصاً ووجهاء العلوييّن عموماً رفضوا عرض فرنسا بإعطاء دولة مستقلّة لطائفتهم في عهد الانتداب. 

للحديث بقيّة. 


Wednesday, September 27, 2017

تدمير أمّة


يمكن بقليل من الجهد قراءة كتاب الدكتور Nikolaos van Dam "تدمير أمّة" في يومين أو ثلاثة (٢٤٠ صفحة من القطع الصغير). الكتابُ جديرٌ بالمطالعة لأكثر من سبب: المؤلّف يعرف سوريّا، أحبّها وأحبّ أهلها، وعلى عكس العديد من كتّاب الغرب يتكلّم العربيّة بطلاقة (إضافة إلى عدّة لغات)، وله كتاب آخر عن الصراع على السلطة في سوريّا صدر عام ١٩٧٩ وأعيد طبعه (مع تعديلات وإضافات) عام ٢٠١١. معرفة van Dam بسيسات الشرق الأدنى إذاً ليست وليدة الأمس، أضف إلى ذلك أنّ الكتاب مهما كانت الاعتراضات عليه أبعد ما يكون عن دعايةٍ رخيصة. 

أوّد التوضيح سلفاً أنّني لم أدّعِ يوماً الحياديّةَ في موضوع سوريّا، ولا أعتقد بوجود الكثير من السورييّن الحيادييّن. لي بالطبع قناعات مسبقة تبلورت وتطوّرت خلال عشرات السنين، بتأثير العديد من العوامل المختلفة، ومع ذلك سأحاول ما أمكنني نقل وجهة نظر van Dam بأمانة، مع التعليق عليها من منظور شخصي، وأنا في نهاية المطاف أمثّلُ نفسي فحسب.   

الكتاب متوافرٌ بالعربيّة للقراءة والتحميل تحت عنوان "تدمير وطن" بيد أنّ تحليلي مبني على النسخة الإنجليزيّة الصادرة عام ٢٠١٧، والتي قرأتُها قبل نَقْلِها إلى لغة الضاد. 

____________

يتوزّع الكتاب على خمسة فصول، مع مقدّمة في البداية وخلاصة في النهاية، تليها حواشي النصّ ومراجع الكتاب والفهرس الأبجدي. 

تمثّلُ صورة غلاف الكتاب رجلاً شرق حلب، يحمل طفلاً في أعقاب غارة في ٢٧ آب ٢٠١٦ أُلْقِيَت فيها "حسب الرواية" البراميل المتفجّرة (١). تعرّض الكاتب في المقدّمة إلى تعريف سوريّا ككيان "ثقافي وجغرافي" (صفحة ٣)، طرأت على حُدودِهِ السياسيّة الكثير من التعديلات عبر العصور، وشَرَحَ الاشتقاق اللغوي "لسوريّا" (صفحة ٦) في القرن السادس قبل الميلاد، وكيف تحوّلت إلى بلاد الشام مع بدايات الإسلام، لتعود تسمية سوريّا في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد. نوّه المؤلِّف بحساسيّة العروبييّن من التسميات ذات المدلول االطائفي (صفحة ٧-٨) وكيف تحوّل جبل الدروز إلى جبل العرب، وجبال العلوييّن إلى جبال الساحل، ووادي النصارى إلى وادي النضارة... 

تحدّث van Dam (صفحة ١١) عن الأنظمة الديكتاتوريّة الشموليّة التي يتحكّم فيها قائدٌ فرد، وعدّدَ منها مصر والعراق وسوريّا وليبيا واليمن والجزائر و"بلاد عربيّة أُخْرى". القاسم المشترك بين كلّ هذه "الأنظمة"، تعمّد المؤلِّف ذلك أم لا، أنّها جمهوريّة، أو على الأقلّ تدّعي أنّها جمهوريّة؛ لا يحتوي النصّ على أدنى إشارة إلى مملكة أو إمارة أو مشيخة أو سلطنة بحيث يمكن لمن لا يعرف العالم العربي أن يستنتج أنّ السعوديّة وقطر والأردن والمغرب وغيرها "ممالك دستوريّة".  

تحتوي الصفحة ١٥ في رأيي على إشارة استفهام لا يمكن التغاضي عنها، خلاصَتُها تجريد العديد من الأكراد السورييّن من جنسيّتهم عام ١٩٦٢. لم يذكر المؤلِّف مصدر هذه المعلومة البالغة الأهميّة. يمكن بالطبع العثور على معطياتٍ عن الموضوع بإجراء بحث google، واستشارة الويكيبيديا. من المؤسف أنّ مصداقيّة الويكيبيديا في المواضيع السياسيّة ليست على المستوى المطلوب (٢). كافّة المصادر التي وجدتُها في هذا الصدد كرديّة أو نقلاً عن الأكراد. أنا لا أقول أنّ الحكومة السوريّة لم تجرّد الأكراد من جنسيّتهم، ولكنّي أطلب الإسناد والدليل. من دواعي الأسف أنّ رواية الطرف الآخر (٣) إن لم تكن مفقودة فهي غير مسموعة. 

____________

الفصل الأوّل مخصّصٌ للكيفيّة التي وصل بها حزب البعث أوّلاً ثمّ الرئيس حافظ الأسد ثانياً إلى السلطة، وليس أكثر من تلخيص لكتاب الدكتور van Dam الصادر في نهاية السبعينات (٤). باختصار كان البعث في البداية نوعاً من الثورة الإجتماعيّة للريف على المدينة. التزم خطاب الحزب خطّاً علمانيّاً صارماً، ومع ذلك لم تتردّد الأطراف المتنازعة، بغضّ النظر عن انتمائِها، في استعمال الأوراق الطائفيّة والإقليميّة والعشائريّة عندما دعت الحاجة، كوسيلةٍ لضمان ولاء المرؤوسين. بالنتيجة بقي صلاح جديد وحافظ الأسد بالساحة: أرادَ الأوّل إعطاء الأولوية للتحويل الإشتراكي، بينما احتلّ الصراع العربي الإسرائيلي مركز الصدارة بالنسبة للأسد. ِشَهِدَت السبعينات والثمانينات صراعاً على السلطة من نوعٍ مختلف، بين الحكومة والإسلامييّن (مدرسة المدفعيّة و حماة إلخ)، ومن ثمّ المواجهة التي أُجْهِضَت بين الرئيس وأخيه الأصغر رفعت الأسد (١٩٨٣-١٩٨٤)، استتبّت بعدها الأمور ولو ظاهريّاً حتّى نهاية القرن العشرين. 

للحديث بقيّة. 

____________

١. لم أفهم الهوس "بالبراميل المتفجّرة" في حياتي. هل استعمال القنابل العاديّة أكثر إنسانيّةً؟ 
٢. طُلِبَ من أولادي في المرحلة الثانويّة البحث عن أجوبة وظائِفِهم على الشبكة، مع تعليمات من أساتذتِهِم بتجنّب الموسوعات عموماً والويكيبيديا خصوصاَ. 
٣. الحكومة السوريّة خصوصاً والعروبيّون عموماً. 




Monday, September 25, 2017

ولاية دمشق ١٧٢٣ - ١٧٨٣


لا تزال دراسة الدكتور عبد الكريم رافق بعد نصف قرن أفضل الموجود عن التاريخ السياسي لدمشق خصوصاً وجنوب سوريّا عموماً في القرن الثامن عشر، وتبقى النتائج التي توصّل إليها مرجعاً لا غنى عنه لمن تبنّاها كما هي ومن تحفظّ عليها أو على بعضها (Carl Barbir مثلاً في دراسة نشرت عام ١٩٨٠). اعتمد رافق على مصادر أصليّة من المخطوطات التاريخّية ومراسلات الدپلوماسييّن الفرنسييّن والإنجليز وسرد الرحّالة الأوروپييّن والمؤلّفات المعاصرة واللاحقة بعدّة لغات، وقام بهذه الدراسة منطلقاً من أبحاثٍ للحصول على دكتوراة من جامعة لندن. صدر الكتاب عام ١٩٦٦ وبلغ عددُ صفحاتِهِ ٣٧٠. 

____________

تميّز القرن السابع عشر بقصر ولاية حكّام دمشق الذين لا نكاد نعرف عنهم شيئاً، اللهمّ إلّا الاسم وتاريخ التولّي وتاريخ الإقالة. تغيّر هذا الوضع جذريّاً في بدايات القرن الثامن عشر عندما أُعفي ولاةُ دمشق من مهمّة تزويد السلطان بجنودٍ لحروبٍ لا نهايةَ لها في مختلف أصقاع الأرض، وكُلِّفوا عوضاً عن ذلك بإمارة الحجّ البالغة الأهميّة من الناحيتين الدينيّة والسياسيّة. أدّى هذا بالنتيجة إلى تمديد ولاية عدد لا بأس به من حكّام دمشق طالما تكفّلوا بمهمّتهم الأساسيّة، ألا وهي تجهيز وتمويل قافلة الحجّ والسهر على سلامتها ذهاباً وأياباً، ممّا يستلزم غياب الوالي عن الشام عدّة أشهر كلّ سنة. لَعِبَت عواملٌ عديدة (إضافةً إلى الحجّ) دَوْرَها في حفاظ الوالي على منصبه، ومن أهمّها "الواسطة" التي تمتّع بها في القسطنطينيّة، سواء كانت صلاتَهُ مع الصدر الأعظم أو الكزلار آغا (رئيس خصيان حريم السلطان)، أو أعوانهما، ثمنُ هذه الواسطة المال بطبيعة الحال. 

____________

فلنتعرّف باختصار على أهمّ ولاة دمشق في القرن الثامن عشر والأحداث الرئيسة التي جرت في عهدهم:

١. نصوح باشا (١٧٠٨-١٧١٤). أصبح والي دمشق في عهدِهِ أميراً للحجّ.

٢. عثمان باشا أبو طوق تولّى دمشق مرّتين ١٧١٩-١٧٢١ و ١٧٢٣-١٧٢٥. كان واسع النفوذ بيد أنّهُ أقيل بعد أن تمرّد الدمشقيّون على ممارساتِهِ.

٣. إسماعيل باشا العظم تولّى الشام  ١٧٢٥-١٧٣٠، وهو أوّل الولاة من أبناء البلاد، وأوّل حكّام دمشق من آل العظم. حاول كغيرِهِ إثراءَ نَفْسِهِ وعائلتِهِ بوسائل تفاوتت درجةُ "شرعيّتها"، كاحتكار بيع اللحوم مثلاً، وتوصّل إلى تعيين أقربائِهِ في مواقع حسّاسة إلى درجة نجاح آل العظم، ولو إلى حين، في التولّي المباشرة أو عن طريق "المالكانات" لأقاليم دمشق وصيدا وطرابلس وحماة والمعرّة في نفس الوقت، ودون أدنى محاولة للاستقلال عن الدولة العثمانيّة. اقتصرت طموحات الأسرة على اكتساب المال والنفوذ تحت هيمنة القسطنطينيّة. أُقيلَ ولاة العظم، على الرغم من ذلك، بالجملة في تشرين ثاني ١٧٣٠ وصدر فرمان شاهاني أو فرمانات بمصادرةِ أموالِهم وسجنِهم.

٤. عبد اللّه باشا أيضنلي ١٧٣١-١٧٣٤ نجح في تأمين سلامة قافلة الحجّ لثلاث سنوات متتالية.

٥. سليمان باشا العظم (أخو إسماعيل باشا) تولّى دمشق ١٧٣٤-١٧٣٨ و ١٧٤١-١٧٤٣. بنى الخان المعروف باسمِهِ في دمشق وتميّز عهدُهُ بصعود نجم فتحي أفندي الفلاقنسي (الدفتردار أو الدفتري) في دمشق، والمغامر ظاهر العمر الذي تمركزَ في طبريّا وصفد وعكّا. مات سليمان باشا في إحدى حملاته ضدّ ظاهر العمر. 

٦. أسعد باشا العظم (إبن إسماعيل باشا). أشهر ولاة هذه الأسرة وأقواهم. حكم ١٣ سنة من ١٧٤٣ إلى ١٧٥٧، وشهد عهدُهُ في دمشق بناءَ الخان الشهير في سوق البزوريّة والقصر المعروف باسمه. تميّزت سياسته الخارجيّة بتجنّب الاحتكاك مع ظاهر العمر، أمّا على الصعيد الداخلي فقد كسِبَ صراعاً على السلطة ضدّ فتحي الدفتردار، الذي قُتِلَ وسُحِلَت جثّتُهُ بعد أن هاجم أتباع أسعد باشا أنصار فتحي أفندي في سوق ساروجا والميدان ونهبوا وأحرقوا كما هي العادة في مجابهاتٍ من هذا النوع. فقد أسعد باشا بالنتيجة ولايتَهُ أوّلاً، ورأسَهُ ثانياً (قُتِل ١٧٥٨)، بعد اتّهامِهِ بالضلوع في هجوم للبدو على قافلة الحجّ عام ١٧٥٧ أودى بحياة أخت السلطان. لا يوجد دليل على صحّة هذه التهمة، وما قرّر مصير أسعد باشا كان على الأغلب عدّة عوامل منها تغيّر المُمْسكين بمقاليد الأمور في القسطنطينيّة، وضرورة إيجاد كبش فداء لتحميله مسؤوليّة الكارثة التي حلّت بالقافلة، وحاجة السلطان إلى المال الذي بمكن الحصول عليه بمصادرة ثروة أسعد باشا. تجدر هنا الإشارة إلى لجوء الولاة عموماً إلى ابتزاز الريف لتوفير الحدّ الأدنى من حاجات المدينة، وتمويل الحجّ، وكنز الأموال أو إنفاقها على المدارس والجوامع والخانات والدور الباذخة. 

٧. ولاية عثمان باشا الكرجي ١٧٦٠-١٧٧١. شهدت هذه الفترة على الصعيد الدولي بداية حرب روسيّة - عثمانيّة (١٧٦٨-١٧٧٤)، أمّا في الشرق الأدنى فهناك تمرّد المملوك علي بك الكبير في مصر وتحالفه مع ظاهر العمر. استطاع قائد جيش علي بك، المملوك محمّد بك أبو الذهب، أن يهزم عسكر عثمان باشا ويدخل إلى دمشق في حزيران ١٧٧١، بيد أنّهُ أضمر خططاً مختلفة عن علي بك، وهكذا انسحب من دمشق بعد أيّام من احتلالها بحجّة أنّ مهمتّه انتهت مع فرار عثمان باشا.

٨. تولّى محمّد باشا العظم (حفيد إسماعيل باشا وزوج ابنة أسعد باشا) دمشق مرّتين ١٧٧١-١٧٧٢ و ١٧٧٣-١٧٨٣. شهد عهدُهُ موت علي بك الكبير ومقتل ظاهر العمر، ممّا خلق فراغ قوّة power vacuum، شَغَلَهُ بالنتيجة مغامر جديد: أحمد باشا الجزّار

٩. آخر ولاة دمشق من هذه الأسرة خارجٌ عن الفترة قيد الدراسة. حكم عبد الله باشا العظم ثلاث مرّات بين ١٧٩٥ و ١٨٠٧، أمّا عن الجزّار فقد تولّاها أربع مرّات بين ١٧٨٤ و ١٨٠٤، وإن كان مركز قوّته الحقيقي في صيدا وعكّا، بينما أضفت عليه ولاية دمشق المزيد من المهابة ليس إلّا. 

____________

خصّص الدكتور رافق آخر ٢٠ صفحة من الكتاب للتعريف بالمراجع التي استعملها، وذكر ما لها وما عليها. البديري الحلّاق أحد أهمّ المصادر للفترة ما بين ١٧٤١ و ١٧٦٢، وهناك أيضاً تاريخ الشام لميخائيل بريك عن الفترة ١٧٢٠-١٧٨٢، والأمير حيدر أحمد الشهابي فيما يتعلّق بجبل لبنان. بالنسبة للتراجم هناك "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" للمرادي، بيد أنّه ركّز على علماء الدين ولم يذكر من آل العظم إلّا محمّد باشا؛ إلى آخر المصادر.

____________

لا أعلم إذا كان هناك ترجمة عربيّة لهذا الكتاب النفيس. للدكتور رافق دراسة ثانية باللغة العربيّة بعنوان "بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة ناپوليون"، غطّت فترة زمنيّة أطول ومساحة جغرافيّة أوسع، وهذا بالطبع غير ممكن دون اختصار الكثير من التفاصيل بما في ذلك من المحاسن والمساوىء. 


Friday, September 22, 2017

قممٌ عالميّة في تراثِ الحضارةِ العربيّةِ الإسلاميّة


لربّما كان هذا الكتاب الجميل من منشورات وزارة الثقافة عام ٢٠٠٠ آخر عمل للدكتور عبد القادر الريحاوي رحمه الله، ويشترك مع سابقه "العمارة في الحضارة الإسلاميّة" الذي صدر عام ١٩٩١ في الكثير، منها مقدمّة مفصّلة عن السمات المشتركة للعمارة الإسلاميّة بشكل عامّ أو ما أسماه "بالمدرسة الأمّ"، ينتقل بعدها إلى دراسة المدارس المتفرّعة عنها على مدى العصور وعلى امتداد جغرافيّ واسع من الهند والسند شرقاً إلى إسپانيا وشمال أفريقيا غرباً، ومن اليمن جنوباً إلى آسيا الصغرى والقسم الأوروپّي من تركيّا الحاليّة شمالاً. خَتَمَ المؤلّفُ الكتابَ بحوالي ثلاثين صفحة خصّصها للمصطلحات بالعربيّة مع مقابلها بالإنجليزيّة والفرنسيّة (كما فعل في كتابه السابق)، يليها سرد المراجع العربيّة والأجنبيّة. 

هذا لايعني أنّ الكتاب الجديد مجرّد تكرار للسابق بحلّة جديدة. ركّز "قمم عالميّة" على عددٍ أقلّ من الأوابد في محاولة لتسليط الأضواء على ما اعتبره ذروة الإبداع على مستوى العالم الإسلامي بأسره، مع اختصار الحيّز المخصّص للأقلّ أهميّة أو حتى إغفال ذكره، خاصّة إذا كانت شهرته بالدرجة الأولى محلّية. ركّز الكتاب أيضاً على الخلفيّة التاريخيّة وأعطاها عدداً أكبر من الصفحات من سابقه، كما خصّصَ فصلاً كاملاً جديداً (الأوّل بعد المقدّمة) للحرمين في مكّة والمدينة، وخَتَمَ (الفصل الرابع عشر) ببحثٍ عن البيت العربي وتطوّره.

الكتابٌ موزعٌ عل جزأين و ٧٠٠ صفحة بقياس ١٧ في ٢٣ من عشيرات المتر، ويحتوي على العشرات من الصور معظمها ملوّن مع الكثير من الإسقاطات والمخطّطات. تتسلسل فصول الكتاب كما يلي:

١. الحرمان الشريفان المكّي والمدني ويتعرّض فيه للأصول والتوسّعات اللاحقة. لا نجد هنا - لحسن الحظّ - ذكراً لبرج الساعة القبيح الذي بُنِيَ بعد نشر الكتاب بسنوات، لا لقيمةٍ دينيّةٍ أو جماليّة، وإنّما لإشباع غرور البعض وملء جيوب البعض الآخر. حدث شيء مشابه في فندق الفصول الأربعة في دمشق وإن كان على مستوى أقلّ تواضعاً.
٢. الحرم الشريف في القدس، أي المجمّع الذي يشمل قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، الذي زارَهُ الريحاوي قبل أن تستولي عليه إسرائيل عام ١٩٦٧. 
٣. الفصل الثالث مخصّص لجامع بني أميّة الكبير في دمشق (للمؤلّف كتاب مستقلّ عن هذا الجامع أُعيدَ طَبْعُهُ عام ٢٠٠٤). 
٤. العمائر العبّاسيّة وبغداد المنصور (المندثرة) وبقايا سامرّاء.
5. تونس وجامع القيروان وعمائر الأغالبة.
٦. جامع قرطبة وتوسّعاته على مدى أكثر من قرنين من الزمن، وهو أحد أجمل فصول الكتاب.
٧. القاهرة وتطوّرها من الفسطاط (بداية العهد الإسلامي)، مروراً بالعسكر (العهد العبّاسي)، فالقطائع (العهد الطولوني)، فقاهرة المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلّي. يتعرَض الكاتب لسور وأبواب المدينة والجامع الأزهر وغيرها من المعالم الفاطميّة، قبل أن ينتقل إلى العهد الأيّوبي (الذي ترك معالماً في الشام أكثر من مصر)، فالمملوكي الذي شهد اتّساع المدينة وازدهارها. هذا الفصل أيضاً من أجمل فصول الكتاب وهو مفيد للغاية للمهتمين بمعالم القاهرة ولا يملكون الوقت لاستشارة مؤلّفات أكثر تفصيلاً.
٨. قلعة دمشق. بحث فيه المختصر المفيد عن هذا الصرح الأيّوبي الشديد الأهميّة. للدكتور ريحاوي كتاب مستقلّ عن هذه القلعة يتجاوز طوله ٥٠٠ صفحة لمن يرغب في التوسّع. 
٩. مدرسة الفردوس في حلب.
١٠. عمارة المغرب الأقصى.
١١. قصر الحمراء في غرناطة الذي اعتبَرَهُ المؤلّف قمّة العمارة الإسلاميّة في المغرب. أيضاً من أجمل وأغنى فصول الكتاب.
١٢. عمائر إيران (بالذات أصفهان)، وتركستان، والهند. تاج محلّ في أغرا، في رأي الريحاوي، قمّة العمارة الإسلاميّة في الشرق، وصنو قصر الحمراء في غرناطة في الغرب بالجمال والإبداع.
١٣. الجوامع العثمانيّة وتأثّرها بكنيسة جستنيان البيزنطيّة آيا صوفيا ثمّ تطوّرها.
١٤. الفصل الأخير مخصّص للبيت العربي الذي نرى نماذج مبكّرة باذخة له في البادية، كما في قصر الحير مثلاً، أمّا في المدن فلا توجد بقايا تستحقّ الذكر سابقة للعهد المملوكي وإن كانت هناك أدلّة لا بأس بها على شكل وتوزيع البيت الذي يشبه المدرسة إلى حدّ كبير، وبالفعل تخبرنا المصادر أنّ بعض البيوت أصبحت مدارساً (من أشهرها دار العقيقي في دمشق التي تحوّلت إلى المدرسة الظاهريّة)، وأنّ بعض المدارس استعملت لسكن العلماء (ابن خلّكان في المدرسة العادليّة مثلاً).

يحتوي الكتاب على العديد من الصور بجودةٍ مقبولة بيد أنّ توزيعَها أقرب إلىى الاعتباطيّة: منها ما يرافق النصّ ومنها  مستقلٌّ عنه. ترقيم الصور أيضاً عشوائيٌّ أو يكاد، وإن لم يمنع القارئ من الاستفادة منها والاستمتاع بها. 

طيّب الله ثرى عبد القادر الريحاوي.  


Wednesday, September 13, 2017

حمّامات دمشق، تتمّة


دَرَسَ Michel Écochard و Claude Le Cœur في الجزء الثاني من بحثهما عن حمّامات دمشق ٣٨ من هذه الحمّامات، من ناحية التخطيط والتوزيع والوضع الراهن، وأرّخاها قدر الإمكان بالاستعانة بالنقوش الكتابيّة والمخطوطات الأثريّة. رُتِّبَت هذه المنشئات حسب تسلسلها الزمني بدايةً من أقدمها (السابقة للقرن الرابع عشر) إلى أحدثها (حمّام المزّة المبني عام ١٩٣٣). بلغت حمّاماتُ دمشق ذروةَ كمالِها وفخامَتِها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر تحت المماليك، وبدأت في التقهقر اعتباراً من القرن الثامن عشر، رغم طفراتٍ في النصف الأوّل من ذلك القرن، ومع حلول القرن التاسع عشر أصبحت الحمّامات في أحسن الأحوال تكراراً لنماذج سابقة وتحوّلت القاعات إلى أشكال مستطيلة تزايدت فيها المساحة المخصّصة للجوّاني على حساب الوسطاني. أقتصر فيما يلي على بعض الأمثلة.

- لربّما كان حمّام الملك الظاهر في باب البريد هو الأقدم، وإن طرأ عليه الكثير من التعديلات لاحقاً. هناك أدلّة (ترجمة Sauvaire للعلموي عن النعيمي) أنّ هذا الحمّام بني قبل عام ٩٧٩ للميلاد، ودُعِيَ آنذاك حمّام العقيقي نسبةً لصاحب دار العقيقي التي أصبحت لاحقاً المدرسة ثمّ المكتبة الظاهريّة. 

- حمّام نور الدين (نسبة للأتابك نور الدين زنكي) أو حمّام البزوريّة وهو غنيّ عن التعريف. يعود إلى القرن الثاني عشر (بين ١١٥٤ و ١١٧٢)، وحُوِّلَ إلى خان قبل أشهر من نشر كتاب المُسْتشرِقَيْن.  

حمّام التيروزي وهو أجمل حمّامات دمشق وأفضل ما يمثّل هذه الأبنية العريقة، وواجهته بالذات هي الأكمل والأبهى من نوعها. بني عام ١٤٤٤ (الصورة عن Degeorge مع المخطّط الملحق).

حمّام الجسر (قرن خامس عشر) أو حمّام عبد الباسط على نهر تورا قرب المدرسة الماردانيّة. كان له بوّابة كبيرة فريدة من نوعها هدِمَت عام ١٩٣٣ عندما استحال المشلح إلى مخبز. أُجْهِزَ على بقايا الحمّام عام ١٩٦٩ وحلّ مكانَهُ بناءٌ حديثٌ قبيح.

- حمّام فتحي في الميدان نسبة لفتحي أفندي الفلاقنسي المشهور بالدفتردار، بُنِيَ عام ١٧٤٥ ويمتاز بغنى زخرفته وبهاء واجهته. الحمّام في حالةٍ جيّدة وكان ناشطاً إلى فترةٍ قريبة وربّما لا يزال. 

حمّام قصر العظم (١٧٤٥ إلى ١٧٤٩). حمّام خاصّ لوالي دمشق الأشهر وأسرته. القصر اليوم بحالةٍ جيّدة كمتحف للتقاليد الشعبيّة.

لا أدري كم من هذه الحمّامات لا يزال موجوداً حتّى الآن. استُصْلِحَ عددٌ منها اعتباراً من أواخر القرن الماضي للراغبين في استكناه ماضي الشام العريق ولو لسويعاتٍ قصيرة.


Michel Écochard et Claude Le Cœur. Les bains de Damas: monographies architecturales. Institut Français de Damas 1942-1943. Imprimerie Catholique, Beyrouth. 
Gérard Degeorge. Syrie. Art Histoire Architecture. Hermann Paris 1983. 

حمّامات دمشق


بلغ تعداد حمّامات دمشق ٥٢ في القرن الثاني عشر للميلاد حسب رواية الحافظ ابن عساكر، و ٦٠ عندما أجرى الفرنسي Michel Écochard (١٩٠٥ - ١٩٨٥) وزميلهُ في هندسة العمارة Claude Le Cœur (١٩٠٦ - ١٩٩٩) دراستهما عن هذه الحمّامات، التي نشرها المعهد الفرنسي في دمشق بالتعاون مع المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت على جزأين الأوّل عام ١٩٤٢ والثاني عام ١٩٤٣. هذه الدراسة الفرنسيّة على حدّ علمي أفضل وأكمل الموجود حتّى وقتها ولربّما إلى اليوم. 

يتوزّع الجزء الأوّل على ٦٠ صفحة من القطع الكبير (٣٤ في ٢٥ من عشيرات المتر)، وسّتة فصول تَصِفُ الحمّام، وكيفيّة تزويده بالماء، وتشغيله، وأكلافه ومردوده، والحياة الاجتماعيّة فيه، ومستقبله كما بدا وقتها. يحتوي الكتاب على قائمتين بالحمّامات نجد فيهما أسمائها، وإيجارها وكلفة دخولها، وساعات عملها، وما إذا كانت مخصّصة للنساء أو الرجال أو كليهما، وأماكن تواجدها، وما إذا كانت لا تزال ناشطةً، وحالتها (جيّدة أو متداعية إلخ)، ويختم بخريطة كبيرة مطويّة (٦٨ في ٤٧ من عشيرات المتر) نعاين فيها مواقع هذه الحمّامات. 

الجزء الثاني موزّعٌ على ١٣٢ صفحة، تصفُ ٣٨ حمّاماً بالتفصيل في ثمانية فصول تصنّف الحمّامات حسب تسلسلها الزمني، مع فصل إضافي حاول الربط بين حمّامات العصور الوسطى (أي العهد الإسلامي)، وبين ما سبقها من المباني المشابهة في العهود البيزنطيّة والرومانيّة. 

يحتوي الكتاب على العديد من المخطّطات والإسقاطات ذات النوعيّة العالية ولكنّه يفتقر مع الأسف إلى الصور الضوئيّة. 

____________

أُجْرِيَت هذه الدراسة في زمن شهد دخول الحمّامات الإفرنجيّة إلى بيوت الطبقات الغنيّة والمتوسّطة في المدن، ممّا هدّد مستقبل "حمّام السوق" الذي أصبح مُعْتَمِداً على الزوّار وذوي الدخل المحدود، ومنه تناقص مردود الحمّام وبالنتيجة عدد الحمّامات، أو على الأقلّ الناشطة منها والذي لم يتجاوز ٤١ من أصل ٦٠ درسها المستشرقان. كانت الغالبيّة العظمى من هذه الحمّامات أوقافاً تعيّن على الحمّامي أن يدفع لقاء استثمارِها أجراً سنويّاً، أضِف إليهِ أجور الصنعيّة (منهم من كان من أفراد العائلة)، وثمن المواد الأوّلية (الوقود مثلاً من الزبل والتبن وما شابه)، والضرائب. أجرة الدخول (كما نرى في الجدول الملحق) بين القرشين والعشرة قروش في الوقت الذي بلغت كلفة اكتراء بعض الحمّامات مئات الليرات ولم تكن ضرائبُها رمزيّةً. الخلاصة لم يكن الحمّامي وصنعيّته بالأغنياء، ويمكن التماس العذر لمن اعتقد وقتها أنّ المهنةَ في سبيلِها للانقراض، خاصّة وأنّ عناية البلديّة بتمديدات فنوات فروع بردى تضاءلت بعد جرّ مياه الفيجة، وبالتالي تعيّن إضافة نفقات صيانة هذه التمديدات إلى أكلاف الحمّامي.

____________

نأتي الآن إلى وصف الحمّام، وهنا تحسن الإشارة أنّ المظهر الخارجي كان متواضعاً حتّى العهد المملوكي، أمّا عن التنظيم الداخلي فله عناصر ثابتة عبر مئات السنين (وإن تغايرت نسبُها وتفاصيلُها) يمكن معاينتها على المخطّط الملحق لحمّام البزوريّة أو حمّام نور الدين وهي باختصار الآتية:

أوّلاً. المشلح A وفيه مصاطب للزبائن حيث يمكن تناول القهوة والأركيلة، وسرير يجلس عليه المعلّم الذي يلمّ "الغلّة".
ثانياً. المراحيض E فيها مياه جارية تخفّف من وطأة نقص التهوية.
ثالثاً. الصالة الباردة B أو "الوسطاني برّاني" ويمكن استعمالها كمشلح للمسنّين والمرضى، خاصّة في فصل الشتاء.
رابعاً. الصالة الفاترة C أو "الوسطاني جوّاني" وفيها مقصورات ملحقة يمكن استعمالها لإزالة الشعر.
خامساً. الصالة الحارّة D أو الجوّاني وفيها أيضاً مقصورات ملحقة، ويأتيها البخار مباشرةً من خلال فجوة في الجدار، وشَمَلَت قديماً مقصورةً لمغطس عمقه مترين ألغي بعد أن أصيب عدّة أشخاص بالاحتقان بعد نزولهم فيه. 
سادساً. قسم التدفئة F والخدمات الإضافيّة.

بالنسبة لطاقم العمل هناك المعلّم (أو زوجه في ساعات النساء)، والمكيّس أو المدلّك وتابعيه أو مساعديه، والوقّاد (القمّيمي)، والزبّال (الذي يجلب المحروقات).

ساعاتُ الصباح عموماً للرجال، وبعد الظهر للنساء والأطفال (بما فيهم الذكور دون السابعة)، وهناك حمّامات للرجال حصراً، وثانية تعتمد على الزبائن المسيحييّن (البكري)، وثالثة اليهود والمسيحييّن (المسك). تميل النساء بشكل عامّ لقضاء ساعات أكثر في الحمّام وعلّ هذا عائدٌ إلى ندرة أماكن التسلية المُتاحة للجنس اللطيف خارج المنزل كالمقاهي.

للحديث بقيّة.  

Michel Écochard et Claude Le Cœur. Les bains de Damas: monographies architecturales. Institut Français de Damas 1942-1943. Imprimerie Catholique, Beyrouth. 


توزيع المياه في واحة دمشق

ينبع نهر بردى من جبال لبنان الشرقيّة ويتّجه غرباً إلى دمشق لترفده مياع عين الفيجة حوالي ٢٠ كيلومتراً قبل دخوله إلى المدينة. النهر هبة الطبيعة ولكن لولا تفرّعاته لما روى أكثر من شريطين ضيّقين من الأرض على ضفّتيه وهنا يأتي دور الإنسان الذي شقّ أقنية شمالاً وجنوباً على أعلى مستوى ممكن من الإرتفاع بهدف سقاية المنحدرات. هذه الفروع هي يزيد وتورا شمالاً وبانياس والقنوات والداراني والمزّاوي جنوباً. يعتقد أنّ بانياس وتورا آراميّة والقنوات روماني ويزيد أموي وإن كان هناك جدل على ذلك. 

نرى في الخريطة الأولى الأراضي التي ترويها كلّ من هذه الأقنية وأكبرها تورا الذي يأخذ ١٤ قيراطاً من ٢٤ من مياه بردى ولكن المدينة داخل السور تعتمد بشكل أساسي على بانياس والقنوات والثاني هو الأهمّ. 



الصورة الثانية لمقطع عند خانق الربوة يوضّح توزّع أقنية بردى وارتفاع كلّ منها. 



Les bains de Damas: monographies architecturales
Michel Ecochard et Claude Le Coeur
Institut Français de Damas 
1942-1943
Imprimerie Catholique, Beyrout

Saturday, September 9, 2017

The Arab Academy of Damascus


Two renowned authors, Sāmī ad-Dahhān (Syria) and Henri Laoust (a French orientalist), provide a nice summary of the history and activities of the Arab Academy of Damascus in an article published in 1951 by the Institut Français de Damas in its periodical, Bulletin d'Études Orientales. This brief study covers the period from 1918 to 1950.

It all started right after WWI and the expulsion of the Ottomans from Syria under King Fayṣal and his military governor, Riḍā Pāšā ar-Rikābī, when a section for translation and publication was established in the fall of 1918. This section morphed into the Supreme Council of Public Education in February 1919, presided over by Muḥammad Kurd ʿAlī. On June 8 the Arab government assigned ʿAlī the task of founding an Arab academy to be modeled after its French namesake for the purpose of reviving the Arab language and literature, casting aside religious and political polemics. Thus defined, the Academy was the first of its kind in Arab-speaking lands. 

Membership comprised two categories: 

1. Active members, 20 in total. They had to be Syrian citizens, residents of Damascus, aged 35 years or more. 

2. Corresponding members: no limit as far as residence or numbers are concerned. 

As of 1950, the Academy was presided over by Kurd ʿAlī, with Šayẖ ʿAbd al-Qādir al-Maġribī as vice president and H̱alīl Mardam Bek as secretary (a poet best known as the author of the Syrian National Anthem). The Academy assumed the management of the National Library (aẓ-Ẓāhirīyyā) in 1927. This library was established in 1878 at the funerary Islamic school of the Mamlūk Sultan Baybars. Starting with the acquisition of the historical manuscripts of 10 different libraries, aẓ-Ẓāhirīyyā has since added to its priceless collection through purchases and donations. The Academy's choice fell on the ʾAyyūbīd al-madrasa al-ʿĀdilīyyā for its headquarters.  

In addition to its periodical, the academy had published quite a few independent reviews and research works mostly related to studying and commenting on historical manuscripts. It also had organized lectures and conferences. 

For a thorough list of its articles and books, one may consult the original article cited above. The academy had 93 members as of 1950, including:

Two physicians: Ḥusnī Sabaḥ and Muršid H̱āṭir

The veteran politician and lawyer Fāris al-H̱ūrī.

The poets Muḥammad al-Bizm, Badawī al-ǦabalʿUmar ʾAbu Rīšā, and Bišārā al-H̱ūrī (al-ʾAẖṭal aṣ-Ṣaġīr).

Some of the writers are ʾAḥmad Ḥasan az-ZayyātṬahā Ḥusayn PāšāʿAbbās Maḥmūd al-ʿAqqād, and H̱ayr ad-Dīn az-Zarkalī.

The historian Philip Ḥittī

The orientalists René Dussaud and Carl Brockelmann