الدكتور عبد القادر الريحاوي أخصّائي في تاريخ الفنّ والعمارة وله عشرات من الأبحاث والمقالات والكتب نشرت خلال فترة قاربت النصف قرن وعلّ كتابه عن العمارة الإسلاميّة أكثرها طموحاً بشموليّته. نشر الكتاب عام ١٩٩١ وإن كانت الغالبيّة العظمى من المعلومات الواردة فيه تعود لعام ١٩٨٤ أو قبل. عدد صفحات الكتاب حوالي ٦٤٠ من القطع الكبير (٢٨ في ٢٢ من عشيرات المتر)، تزيّنها المئات من المخطّطات والصور الملوّنة أو بالأبيض والأسود من نوعيّة متفاوتة، ولكنّها إجمالاً مقبولة في عهد ما قبل التصوير الرقمي. كثيرٌ من هذه الصور لقطات للمؤلّف خلال ترحاله في العديد من البلدان على مدى عشرات السنين.
يغطّي الكتاب العمارة الإسلاميّة منذ البدايات في القرن السابع الميلادي وحتّى مطلع القرن التاسع عشر، ويعتبر الفترات التالية عهودَ تراجعٍ وانحطاط، دخلت فيها تأثيرات أوروپّا من الباروك والروكوكو والكلاسيكيّة الحديثة، وفقد الفنّ الإسلامي أصالَتَهُ وإبداعه وتحوّل إلى تقليد الغرب والاقتباس منه. تمتدّ الرقعة الجغرافيّة قيد الدراسة من الهند والسند في الشرق إلى الأندلس في الغرب. ليس العمل بالضبط موجّهاً إلى الأخصّائييّن، وإنّما بالأحرى تعريف فيه الكثير من التفاصيل المفيدة لمن يرغب بالتوسّع. أورد الكاتب بالطبع العديد من المصادر والمراجع العربيّة والأجنبيّة.
يبدأ الكتاب بتمهيدٍ مختصر يرسم فيه الخطوط العريضة للعمارة السابقة للإسلام في الشرق الأدنى والأوسط (إيران)، وأثرها على العمارة الإسلاميّة لاحقاً، ثمّ ينتقل إلى تقديم الصفات العامّة والمشتركة للعمارة الإسلاميّة من الشرق إلى الغرب عبر اثني عشر قرناً من الزمن من ناحية التصميم والعناصر العماريّة والعناصر الزخرفيّة. اعتمد التسقيفُ على القباب، وهي عنصر شائع في العمارات الدينيّة، واعتمد أيضاً على السقوف المعقودة أو الأقباء vault. خُطَّت العمائر على نموذج الصحن المحاط بالأواوين والأروقة والعقود (الأقواس arch) والعمد column والعضائد أو الدعامات pillar والقناطر arcade، والعناية بالواجهات والبوّابات. تميّزت الأبنية الإسلاميّة من ناحية المظهر العامّ، بتنّوعِ زخارفها التي اعتمدت على المواضيع النباتيّة والهندسيّة والخطّ العربي، وتجنّبت مع استثناءات نادرة التمثيل الواقعي للكائنات الحيّة.
____________
يتوزّع متن الكتاب على عشرة فصول، يبحث الأوّل في العمارة في العهد الأموي والثاني العبّاسي والثالث السلجوقي ثمّ الفاطمي فالأيّوبي فالمملوكي فالمغربي-الأندلسي فالعثماني فالشرقي (إيران وتركستان وأفغانستان) وأخيراً الهندي. من الطبيعي أنّه لا يمكن تغطية هذه الرقعة الجغرافيّة الشاسعة وهذه الفترة الزمنيّة الطويلة في هذا العدد المحدود من الصفحات دون الكثير من الاختزال والاختصار، وحتّى تجاوز العديد من المعالم والأوابد التي اكتفى المؤلّف بذكرٍ عابر لبعضها، وإن حاول قصارى جهده أن يغطّي ما اعتبره أهمّها تغطيةً وافية ومهنيّة. يبقى الكتاب مجهوداً فرديّاً ولا يخلو بالتالي من الأغلاط، أغلبها مطبعيّة أو أخطاء سهو كان من الممكن تلافيها بالتدقيق والمراجعة من جهات مختصّة أو ما يسمّى بالإنجليزيّة peer review. لسيت هذه الأخطاء بذات بال ولا تؤثّر على السياق العامّ للسرد، وإن توجبّ التحققّ من بعض الأرقام والتواريخ والأسماء ومقارنتها في مراجع ثانية.
مع احترام الخطوط العريضة المشتركة بين كافّة العمائر الإسلاميّة كما سبق، لكلّ زمان ومكان ما يميّزه سواء فيما يتعلّق بمواد البناء (الحجر في سوريا والهند مثلاً والآجرّ واللبن في العراق)، وتخطيطه (الصحن المفتوح في الشام والمسقوف في البلاد الأكثر برودة كالأناضول) وأشكاله (المآذن المضلّعة لدى المماليك والنحيلة الطويلة في العهد العثماني)، وزخرفته (الغنيّة للغاية في المغرب والأندلس والمتقشّفة في المباني الأيّوبيّة) إلخ. حرص الدكتور الريحاوي على تحديد العناصر المشتركة لكل عهد وطراز في مطلع كل فصل من الفصول العشرة التي سبق ذكرها. لا مجال هنا للدخول في تفاصيل الآثار الخالدة كجامع بني أميّة الكبير في دمشق والحرم الشريف في القدس والمباني العملاقة في العهد العثماني والمنشئات البديعة في ميدان أصفهان في العهد الصفوي والحمراء في غرناطة (أجمل مباني الغرب حسب المؤلّف) وتاج محلّ في الهند (أجمل مباني الشرق أيضاً حسب رأي المؤلّف)، ولكن يمكن القول أنّها إجمالاً بلغت من النواحي الهندسيّة والفنيّة والجماليّة الكمال أو كادت.
____________
عني المؤلّف بتخصيص عدّة صفحات في نهاية الكتاب ثبتاً قيّماً للمصطلحات glossary، بهدف تسهيل مهمّة الباحث والقارئ، وأرفَقَ مع تعريفِها بالعربيّة مقابلَها بالإنجليزيّة والفرنسيّة. يفتقرُ الكتاب مع الأسف الشديد إلى فهرس أبجدي، وهذه نقيصةٌ تشترك فيها الكثير من الأعمال العربيّة إن لم نقل أغلبيّتها. الشرح التقني إجمالاً أكثر من واف وإن صادفتني بعض الصعوبات في التفريق بين أنواع الأقواس (١)، وأعتقد أنّ الوسيلة المثلى إرفاق صور لهذه الأقواس جنباً إلى جنب مع الوصف لتسهيل التمييز بينها. أحد الصعوبات أيضاً (٢) تحديد الجهات الأربع على المخطّطات، فتارةً ترى الشمال في الأعلى (كما تعوّد أغلبُنا عليه)، وطوراً تراه مقلوباً أو معكوساً، أضِف إلى ذلك أنّ أغلب هذه المخطّطات لا تحمل شروحاً ويتعيّن البحث عن هذا الشرح في النصّ ممّا يصعّب المهمّة على الهواة من شاكلتي.
هناك بعض الإضافات السياسيّة والدينيّة التي يصعب تبريرُها في كتابٍ علمي عن العمارة وتاريخ العمارة: استعمل المؤلّف، على سبيل المثال، في صفحة ٣٨٠ عبارة "الاستعمار الأوروپّي يقضي على دولة غرناطة"، وصفحة ٤٠٦ تعبير "الاحتلال الإسپاني" أيضاً عن غرناطة، إلى آخِرِهِ. هذه اللغة أقرب إلى العاطفيّة منها إلى العلميّة؛ علام نعتبرُ دخول طارق بن زياد إسپانيا "فتحاً" ودخول الإسپان غرناطة "احتلالاً"؟ لا ينفي هذا بطبيعة الحال أنّ ما فعله ملوك الإسپان في أعقاب الفتح كان مستقبحاً ومستهجناً؛ القضاء على إمارة غرناطة شيء، وطرد المسلمين (واليهود) من إسپانيا شيء آخر. مسلمو إسپانيا إسپان (٣)، يميّزهم فقط دينهم وعقيدتهم، ولا يعقل اعتبارهم غرباء في بلادٍ ولدوا فبها كما ولد آباؤهم وأجدادهم. يكمن التفسير باختلاف القيم والمفاهيم والأعراف في أوروپا القرن الخامس عشر عمّا هي عليهِ اليوم، على الأقلّ من الناحية النظريّة.
يتعيّن، كي نتوخّى الأمانة، الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الكتاب صدر عن "مركز النشر العلمي في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة"، ومن شبه المؤكّد أنه كان خاضعاً لرقابةٍ دقيقة، وبالتالي لربّما كانت خيارات الكاتب محدودة إذا أراد لعمله أن يرى النور في مملكة آل سعود.
يبقى هذا السفر النفيس مرجعاً قيّماً للعمارة الإسلاميّة، وإضافةً ثمينة باللغة العربيّة لموضوعٍ كتب عنه الغربيّون إلى أمد قريب، أكثر بكثير من أصحاب العلاقة. رحم الله العالم الكبير الدكتور الريحاوي.
١. الأقواس النصف دائريّة والمدبّبة سهلة ولكنّي ضعت بين الأقواس العراقيّة والفارسيّة مثلاً.
٢. لا يقتصر عدم اتبّاع طريقة موحّدة في تحديد الجهات الأربع على الدكتور ريحاوي ولا على المصادر العربيّة.
٣. بمعايير القرن الحادي والعشرين.

No comments:
Post a Comment