Saturday, December 31, 2016

طلال العقيلي وجيرار دوجورج



يجمع المؤرّخون أنّ عمر مدينة دمشق يتجاوز ثلاثة آلاف سنة. قد لا تكون أقدم مدن العالم كما يزعم البعض، وإن سلّمَ الكثيرون أنها أقدم عاصمة مأهولة باستمرار. ماذا عن معبدها؟ هل بإمكانِنا التوكيد أنّ هذا الحرم الذي عاصر الآراميّين واليونان والرومان والعرب والأتراك، وتربّع على عرشه نفرٌ من الآلهة هو أقدم الهياكل التي ارتادها المؤمنون بشكلٍ متواصل، بدايةً من الإله حدد ونهايةً بالقرن الحادي والعشرين؟


لا أعرف الجواب، وإن أمكن لمحبّي دمشق وجامِعِها أن ينهلوا كمّاً وفيراً من المعلومات من كتابين عن هذا الصرح العتيد أحدهما بالعربيّة للدكتور طلال العقيلي (٢٠٠٧، أُعيدَت طباعتُهُ ٢٠١٥، وتُرْجِم إلى الإنجليزيّة والألمانيّة)، والثاني بالفرنسيّة للفنّان العالِم جيرار دو جورج (٢٠١٠). ليس الهدف من هذه السطور إجراء مقارنةٍ تثير النفور عن أيٍّ منهما "أفضل" وعلّ الأقرب إلى الصواب القول أنّهما متكاملان، ويعالجان الموضوع من زوايا مختلفة تمام الاختلاف. أضف إلى ذلك أنّ المؤلّفَيْن زميلان من أخصائيّي العمارة، إن لم يكونا صديقين. علاوة على هذا وذاك، صورة غلافيّ الكتابين - بعدسة دوجورج - هي نفسها.


لمن يهمه الإسقاطات الهندسية والرسوم الدقيقة والتواريخ المتسلسلة والمقارنة التفصيليّة لتحوّلات المعبد عبر القرون، استناداً إلى وصف الكتّاب والرحّالة واللوحات الزيتيّة والصور الضوئيّة التاريخيّة، فعليه بكتاب العقيلي.


لمن يهوى الصور الملوّنة العالية الدقّة، خصوصاً للفسيفساء الرائعة، فسيطيب نفساً ويقرّ عيناً بكتاب دوجورج المزيّن بتيهورٍ من مختارات اللقطات الفنيّة الميدانيّة للمؤلّف. عني دوجورج أيضاً بتقديمٍ مختصر للدين الإسلامي، ومقارنة الأموي مع المعابد المماثلة التي سبقته وعاصرته، وخصّص العديد من الصفحات للدفاع عن الإسلام ضدّ ما اعتبره هجوماً مغرضاً من الغربييّن، المتديّنين منهم والعلمانييّن. يترتّب على ذلك أنّ كتاب العقيلي أكثر تركيزاً على الجامع بحدّ ذاتِهِ.


يمكن، لمن يرغب في المزيد، الرجوع إلى الحواشي والإسناد وثبت المراجع في الكتابين. مع الأسف لا يحتوي هذا ولا ذاك على فهرسٍ أبجدي يسهّل مراجعتهما على الباحثين والهواة.






Saturday, December 17, 2016

L'institut français d'archéologie et d'Art Musulmans




This mansion was constructed in the middle of the 18th century and had remained in the possession of the al-ʿAẓm dynasty until it was bought by the French government from 68 heirs in 1922—that is, under the French Mandate—for the then substantial sum of 22,000 gold livres. Subsequently, L'institut Français d'archéologie et d'Art Musulmans moved into its ḥaramlik (family quarter), whereas General Sarrail, the French High Commissioner, made his residence in the salamlik (guest quarter). The latter choice proved disastrous, as it made the house—located in the heart of Old Damascus—a natural target for the rebels during the 1925 Great Syrian Revolution. The mansion was attacked in force on October 18, but the mob, failing to find the general, proceeded to loot and eventually set fire to the building. The palace burnt for two days, and in the process priceless treasures were irretrievably lost, including thousands of rare photographs. Shortly afterwards, restoration work started in earnest at the initiative of Eustache de Lorey, the Director of the Institute, with results that we can still admire 100 years after the catastrophe. The government of the newly independent Syria took possession of the palace in 1946.

Brigid Keenan & Tim BeddowDamascus: Hidden Treasures of the Old City. Thames & Hudson May 2000. 

Sunday, December 11, 2016

ما هو الإسلام الحقيقي ومن هم المسلمون الحقيقيّون؟



ينعت الخطاب الرسمي منظّمات داعش والنصرة ومشتقّاتها وعن حق بالتكفيريّة، كونها ترفض التعدّديّة، وتعتبر كلّ الفئات التي تختلفُ عنها مارقةً عن الإسلام وملحدة: الإثني عشريّة "الروافض"، الصوفيّة، العلوييّن "النصيريّة"، الدروز، الاسماعيلييّن، وهلمّ جرّا.


كلام لا بأسَ بِهِ ولكن للإنصاف، لا بدّ من التعرّض لما يمكن تسميته "التكفير المعاكس" وما أكثره! مَنْ منّا لم يقرأ على صفحات التواصل الاجتماعي عباراتٍ من نوع "لو كان هذا الداعشي أو النصروي مسلماً أو يعرف الإسلام لما قال كذا وكذا، ولما فعل كذا وكذا"؟


هذا التحليل مفهوم ولكنّه ليس منطقيّاً. بإمكاننا، بعد ما فعلوه بتدمر وغيرها، اتّهام موتوريّ الدولة الإسلاميّة بالكثير، ولكنهّم مسلمون دون أدنى شك، ولسببٍ بسيط: أنّهم يعرّفون أنفُسَهم كمسلمين ويؤمنون بإسلامهم كما يفهمونه. يمكن بنفس المحاكمة أن نصل إلى النتيجة ذاتِها عن الكثير من العتاة عبر التاريخ، من أبي العبّاس (الذي لا يخجل أحد من وصفِهِ بالسفّاح)، مروراً بتيمورلنك الورع، ونهايةً بكثيرٍ من سلاطين آل عثمان الذين استهلّوا حكمَهُم بذبح جميع الذكور من إخوتِهِم.


لكل إنسان كامل الحق بتحديد هويّتِهِ، وكما لا يوجد "مسيحيّة واحدة" (مع احترامي للكاثوليك)، فلا يوجد "إسلام واحد"؛ وكما نعترف بعروبة من عرّف نَفْسَهُ "عربيّاً"، فيجب علينا أن نسلّم بإسلام من عَرّف نَفْسَهُ مسلماً.


قبولُنا هويّةَ زيدٍ أو عمر لا علاقة لها بحبّ أو كراهية، ولا بصداقةٍ أو عداوة؛ مَن حارَبَني حارَبْتُهُ ومن سالَمَني سالمتُهُ بغضّ النظر عن هويّتِهِ كما يحدّدها هو دون سواه. من العبث إضاعة الوقت كي أثبت له أو يثبت لي من منّا أكثر فهماً للنصوص الدينيّة، ومن منّا هو المسلم الحقيقي.


المسلم "المعتدل" مسلم، والمسلم "المتطرّف" مسلمُ أيضاً، شئنا أم أبينا، والجميع على الرأس والعين طالما مارسوا إسلامَهُم في بيوتِهِم وجوامِعِهِم، وطالما احترموا حريّات الآخرين مسلمين كانوا أو غير مسلمين. يمكن إسقاط نفس المحاكمة على أتباع أي دين أو طائفة. 


مكان الدين الطبيعي في المنازل ودور العبادة وبعيداً عن السياسة والقانون والمدارس العامّة.



الصورة الملحقة عن موقع درر سلفيّة على الفيس. 

Wednesday, November 23, 2016

البيت الدمشقي والحيّة الألفيّة



بيوتُ دمشق قديمةٌ قِدَم التاريخ (١)، ولربّما بلغ عمر بعضِها آلاف السنين، أو هكذا اعتقدت جدّتي رحمها الله. سكنت مخلوقاتٌ كثيرة هذه المنازل على مرّ الزمن، معظمُها بشكل عابرٍ يطول أو يقصر حسب طول أو قصر حياة الإنسان والحيوان والنبات، بيد أنّ وضع الأفاعي مختلفٌ تماماً والسبب بسيط: الأفعى أطول عمراً من جميع الكائنات الحيّة دون استثناء ويمكن لها بقليلٍ من الحظّ أن تحيا إلى الأبد (٢)

هذا ما تعلّمته عن الحيايا بفضل جدّتي طيّب الله ثراها:

أوّلاً: الحيّة لا تموت إلاّ قتلاً وبالتالي إذا لم يستهدفها عدوّ، فلا حدود لعدد سنين عمرها.

ثانياً: ينبت قرنٌ للحيّة متى أتمّت من العمر ألف سنة، وقرنٌ ثانٍ في عيد ميلادِها الألفين، وثالث في عمر ثلاثة آلاف، وهكذا دواليك. يزيد حجم وطول الحيّة عبر العصور وبالتالي يزيد خطرها، أمّا عن قرونها فتفوح منها رائحةٌ في غاية الجمال.

ثالثاً: القطّ أعدى أعداء الحيّة، وأي مجابهة بينهما لا بد أن تسفر عن موت الواحد أو الآخر.

رابعاً: رغم كل خبرة جدتي في علم الحيايا، ورغم أنّها رأت بأمّ عينها عدداً لا بأس به منهنّ بحكم أن دمشق التي ولدت فيها كانت لا تزال مطوّقةً بأراضي الغوطة الزراعيّة الشديدة الخصوبة، فهي لم ترى حيّة ألفيّة بأمّ عينها في حياتها، وإن كادت في إحدى المرات. القصّة باختصار أنّها كانت تشم بين الفينة والفينة في أحد البيوت التي سكنتها رائحةً زكيّةً مجهولة المصدر، وفي أحد الأيام ارتقت السلّم لتجلب الحطب من السقيفة عندما أصبحت الرائحة فجأةً أقوى بكثير - عبير قرن الحيّة بطبيعة الحال - وهنا نفخت الحيّة الألفية على جدّتي لتسبّب لها أكبرَ ذعرٍ عرفته في حياتِها إذ لاذت بأذيال الفرار دون أن ترى "الآفة" التي تضوّع عطرُها في الدار.

خامساً: لست متأكّداً أنّ أي إنسان شاهد حيّةً ألفيّةً بعينِه، علّ السبب أنّها خجولةٌ تعتصم بالأماكن المظلمة، ولا "تتحركش" بالبشر إذا تركوها وِشأنها. مع ذلك ما أكثر الذين يؤمنون بوجودها ويقسمون عليهِ بأغلظ الأيمان.

سادساً وهذا اجتهاد من عندي: لا تبحث عن الحيّة الألفيّة إذا كنت تحيا في شقّةٍ حديثة؛ هذه المخلوقات حكرٌ على البيوت الشاميّة العتيقة دون سواها.

الصورة الملحقة للطفل Mowgli (بلال كما عرّبتُه مجلّة سمير) من فيلم "كتاب الأدغال" الشهير لديزني، والحيّة Kaa تمارس التنويم المغناطيسي عليهِ بعينيها كي تتمكّن من التهامِهِ. اللقطة مناسبة تماماً لعيد الخوف.  



(١) قصر العظم يعود إلى القرن الثامن عشر. تحتوي بعض دور دمشق على مكوّناتٍ من أواخر العصر المملوكي ولكن ليس بينها من لم يتغيّر جذريّاً ويُعادُ بناؤه عدّة مرّات لاحقاً.
(٢) الرقم القياسي حسب Guinness ٤٢ عاماً وستّة أيّام لأفعى ماتت عام ٢٠١٦




Sunday, October 9, 2016

Bladder Diplomacy



Those who are familiar with the late Syrian President Ḥāfiẓ al-ʾAsad's negotiating style recall the lengthy sessions endured by his American interlocutors in which he would inaugurate the exchange with an elaborate history of the land and its age-old experience with foreign invaders. The following is an excerpt from "Turmoil and Triumph," Secretary George Shultz's memoirs, about his meeting with Syria's leader in the early 1980s:

"President Assad received me in his audience room at the modest presidential palace... The Syrians sat in a row along one wall; the Americans, in a row along the other. The room was devoid of decoration other than a painting depicting the victory of Saladin against the Crusaders. The painting hung on the wall against the visitors: point taken."

James Baker, US Secretary of State under Bush I was to be treated to a similar experience in the early 1990s throughout what he called "bladder diplomacy." Mr. al-ʾAsad's exchanges with Dr. Henry Kissinger in the 1970s are the stuff of legends.

 

Wednesday, October 5, 2016

ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب



عبارةٌ تنسبُ تارةً إلى البريطاني أرنولد توينبي، وطوراً إلى الفرنسي غوستاف لوبون، ردّدتها الكتب المدرسيّة السوريّة لسنواتٍ وسنوات، وحَفظَتها أجيالٌ من الطّلاب السورييّن كحقيقةٍ لا شكّ فيها. لم لا؟ كثيرٌ من الشرقييّن إن لم يكن معظمهم يحترمون آراء وطروحات الغربيّين خاصّةً إذا أعجبتْهم ويعتبرونها القولَ الفصل في أي جدال. ساهم القيّمون على التدريس في المشرق العربي شعوريّاً أو لا شعوريّاً بنشرِ أساطير معّينة روّج لها بعض المستشرقين الفرنسييّن والإنجليز والألمان (أخص بالذكر هنا زيغريد هونكه وكتابها "شمس الله تسطع على الغرب")، لمجرّد أنّها راقت لهم ووافقت معتقداتِهم. خلاصة الكلام إذا مدح بعض الأوروپييّن العرب فهذه حجّةٌ دامغة ودليلٌ لا يقبل الدحض. من البدهي أنّ الكثير من المستشرقين الغربييّن يرون الشرق من منظورٍ سلبي أو على الأقلّ لديهم عليه تحفّظاتهم ومآخذهم، وهنا يكمن الحلّ إما في تجاهلِهِم أوعزو كتاباتهم إلى دوافع شرّيرة ومغرضة.

على سبيل المثال: ما الفرق بين الفتح والعدوان؟
الأمر بسيط: الفتح عندما يهاجم الطيّبون (نحن) بلادَ الأشرار (هم)، أمّا العدوان فيحدث عندما يهاجم الأشرار بلاد الطيّبين.

يصعب لمن ينظر لهذا موضوع بتجرّد أن يتقبّل مفهوم "الفاتح الرحيم". الفتح هو استحواذ على أرضٍ بالقوّة وإن اختلفت الذرائع؛ أمّا عن حقن دماء النساء والأطفال، فهذه سياسة معظم الفاتحين، ليس عن إنسانيةٍ منهم، ولكن لأن النساء (الشابّات تحديداًوالأطفال غنائم حرب ثمينة، والفاتح الذكي يستملك (أي يسبيالبشر والحجر ولا يدمّر عشوائيّاً. مَثَل "الغزو الرحيممثل ضرب المرأة "برقّة"، الذي لا يجرؤ رجال الدين على التنصّل منه بوجود نصّ قرآني صريح - كلّنا نعلم أنّه "لا اجتهاد في النص" -، والحلّ بالتالي أن لا نضرب المرأة ضرباً مبرحاً ولا نضربها على وجهِها ولا نكسر عظامَها ولا نشوّه خلْقَها وأن نضربها بالمسواك وهلمّجرّا.

أخيراً وليس آخراً، ليس المستشرقون المعجبون بالعرب بالضرورة موضوعييّن أو معصومين عن الخطأ أو منزّهين عن الأفكار العنصريّة، ويحسن أن نقرأ مباشرةً ما قالوه فعلاً، لا ما وضَعَهُ أولياءُ أمرِنا على ألسِنَتِهِم. على سبيل المثال هكذا كتب حبيب العرب والمسلمين غوستاف لوبون في "حضارة العرب" دفاعاً عن العبوديّة في الإسلام:

... les esclaves sont traités avec la plus grande douceur; il en est de même dans tous les pays soumis à la loi de l’islam....En ne se plaçant même qu’au point de vue du nègre, il est clair que pour une créature aussi inférieur, l’esclavage est chose excellente. Rien ne peut valoir pour ces natures enfantines, faibles et imprévoyantes, un maître que son intérêt oblige à prévoir tous leurs besoins. 

يُعَاَملُ العبيدُ برقّةٍ متناهية في كافّة البلاد الخاضعة للشريعة الإسلاميّة .... وحتّى إذا تناولنا الموضوع من وجهة نظر الزنوج حصراً، فمن الواضح أنّ العبوديّة أمرٌ ممتاز لكائناتٍ متخلّفةٍ إلى هذه الدرجة. لا شيء يعدل بالنسبةِ إلى هذه المخلوقات الغير ناضجة، والضعيفة، ومعدومة البصيرة، سيداً تقتضي مصلحتُهُ أن يوفّر لها جميعَ حاجاتِها.



Gustave Le Bon. La Civilisation Des Arabes. Librairie De Firmin Didot; Paris; 1884 (p 398). 




Friday, September 30, 2016

هل ينطبق فرض الصلاة على المرأة المسلمة؟



Les femmes ne font jamais ces sortes de prières, exclusivement réservées aux hommes, car les musulmans considèrent leurs compagnes comme n'ayant pas même une âme immortelle; par conséquent la prière est un acte absolument inutile pour elles, puisque ces êtres inférieurs sont destinés à périr entièrement sur cette terre.



الجواب قطعاً بالنفي إذا قبلنا شهادة الدكتور لورتيه عميد كليّة الطب في جامعة ليون ومبعوث وزير التعليم الفرنسي إلى سوريّا في سبعينات القرن التاسع عشر. شملت العلوم التي ضلع فيها الدكتور لورتيه الجغرافيا والنبات والحيوان والعمارة؛ وكغيره من المستشرقين، اعتقد جازماً بتفوّق الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً على كلّ ما هو شرقي مسيحيّاً كان أم مسلماً، واحتقر خصوصاً الأتراك إلى أقصى الحدود وحمّلهم مسؤوليّة فساد وتخلّف الشرق الأدنى.

اعتبر الدكتور لورتيه نَفْسِهُ أيضاً خبيراً بالأديان، ومنها الإسلام. اخترتُ بناءً عليه الفقرة التالية من كتاب "سوريّا اليوم" كمثال، وهناك المزيد من هذه التحف عن العديد من الطوائف السورية لمن يهمّه الأمر:

النساء لا يصليّن بهذا الشكل أبداً، فهذه الصلوات مقصورةٌ حصراً على الرجال، لأنّ المسلمين لا يعتقدون أنّ النساء يمْلِكنَ روحاً خالدةً. يترتّب على ذلك أنّ الصلاة فيما يخصّ المرأة لا فائدة منها على الإطلاق، كون فناء هذه الكائنات الدنيا محتومٌ على هذه الأرض.”

قبل التسرّع في إدانة المؤلف، تجدر الإشارةُ أنّ "اللباقة السياسيّة" كانت معدومةً أو كادت قبل القرن العشرين، في الشرق والغرب على حدٍّ سواء، وكلّ من قرأ كتاب ألف ليلة وليلة يعلم يقيناً درجة عنصريّة من كتبوه واستعمالهم المتواتر لتعابيرٍ ممجوجة مثل "أعطي ابنتي للنصارى واليهود ولا أعطيها لك"، و"العبد الأسود الخبيث"، و"عجوز النحس" إلخ. أزيد فأقول أنّ هذه العنصريّة لم تكن وقفاً على الأدبيّات ولا حتّى على الأحياء، إذ استعملت سجلّات دمشق العثمانية، ولمئات السنوات، مصطلح "المرحوم" للفقيد المسلم، و"الهالك" للمسيحي واليهودي، لأنّه -على غرار نساء المسلمين حسب الدكتور لورتيه - فانٍ جسداً وروحاً بعد موتِهِ اللهمّ إلّا إذا كُتِبَ له الخلود في جهنّم.

أخيراً وليس آخراً يبقى "سوريّا اليوم"، بلوحاتِهِ الرائعة،  من أجمل ما كُتِبَ عن سورّيا - كمصطلح جغرافي يشمل لبنان وفلسطين - في حينِهِ. الكتاب متوافرٌ للتحميل بالمجّان للمهتمّين.

Tuesday, August 23, 2016

مشروع مصاهرة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد



لا تكفي سطورٌ قليلة لسرد مآثر صلاح الدين قاهر الصليبييّن في حطّين، وموحّد سوريّا ومصر على أنقاض الخلافة الفاطميّة وورثة الأتابك نور الدين.

قصّة السجال بين الملك الناصر وملك انجلترا ريتشارد قلب الأسد معروفةٌ ويكفي القول أنّها انتهت بالتعادل السلبي، أي فشل صلاح الدين في طرد الصليبييّّن من الساحل السوري كما فشل هؤلاء في استعادة القدس. ما العمل؟ 

تفتّق ذهن قلب الأسد على حلّ لا يخلو من الطرافة ولا تذكره على علمي كتب التاريخ العربيّة: لم لا يحاول الحصول عن طريق خاتم زواج على ما عجز عن نيلِهِ في ساحات الوغى؟ عرض ريتشارد يدَ أختِهِ جوّانا على الملك العادل، أخي  صلاح الدين، على أن يكون مهرُها مدينة القدس مفتوحةً للمسلمين والمسيحييّّن. 


ليس من المؤكّد أنّ صلاح الدين حمل هذا العرض على محمل الجدّ بيد أنّ العقبة الكأداء تمثّلت في جوّانا التي غضبت غضبةً مضريّة وتشاجرت مع أخيها الذي تجرّأ أن يساوم على زواجها من "كافر"، أي مسلم، وهالها أن تؤول إلى "حريم" الملك العادل. حاول ريتشارد تجاوز هذه المشكلة عن طريق محاولة إقناع العادل باعتناق المسيحيّة؛ بالطبع كان مصير هذا المسعى الفشل الذريع كسابِقِهِ وعاد قلب الأسد إلى أوروپا خاوي الوفاض. 

الصورة بعدسة مروان مسلماني




Monday, August 15, 2016

نور الدين زنكي





دخل الأتابك نور الدين زنكي دمشق عام ١١٥٤ للميلاد ووافته المنيّة فيها عام ١١٧٤. مآثر نور الدين كثيرة أطنب في تعدادها وأسهب معاصِرُهُ المؤرّخ والمترجم الدمشقي الحافظ ابن عساكر (١١٠٥-١١٧٦): تُقى نور الدين وورعه وغيرته على الدين، علمه الغزير ورعايته العلماء، اهتمامه بصحّة رعاياه الجسديّة والعقليّة، حمايته الأيتام والفقراء، زهده وتقشّفه، وجهاده ضدّ الإفرنج. ما كلّ هذا إلّا غيضٌ من فيض، على حسب تعبير ابن عساكر. 


لا يغفل الحافظ بالطبع الجهد الذي بذَلَهُ نور الدين في قمع "الرافضة" والبدع، وفرضِهِ علاماتٍ تميّز اليهود والنصارى، وكفاحِهِ لتوحيد الأسلام تحت راية السنّة في ظلِّ مذاهِبِها الفقهيّة الأربعة. 


شَهِدَ العالم الإسلامي ما اعتبره البعض عصراً شيعيّاً، اعتباراً من القرن العاشر للميلاد: تسلّط البويهييّن في إيران والعراق وعلى خلافة بغداد، صعود الحمدانييّن في حلب، الفتوحات الفاطميّة - الاسماعيليّة -  في شمال إفريقيّة من المغرب إلى مصر، وظهور الدروز. بلغ المدّ الشيعي أقصاه مع خلافة القاهرة الفاطميّة. 



أتت ردّة الفعل السنيّة على يد السلاجقة في منتصف القرن الحادي عشر عندما ألحق سلطانهم، ألب أرسلان، بالبيزنطييّن هزيمةً نكراء في معركة ملاذكرد (١٠٧١) وطردهم من معظم آسيا الصغرى. استنجد إمبراطور بيزنطة بالإفرنج واستطاع بمساعدتِهِم تلافي تهديد السلاجقة مؤقّتاً. لم ينفع هذا بيزنطة الشيء الكثير على المدى البعيد وقصّة استباحة الفسطنطينيّة عام
١٢٠٤ تتويجاً للحملة الصليبيّة الرابعة معروفة ومشهورة. 


أعاد السلاجقة السيادة الإسميّة للخلافة العبّاسيّة على العالم الإسلامي ولو إلى حين. 


تابع الأتابكة ما بدأه السلاجقة وتمكّن الأيّوبيّون، باسم نور الدين، من فتح مصر وانتهت الخلافة الفاطميّة ليتحوّل الأزهر، أقدم جامعات الإسلام، من مؤسّسة اسماعيليّة إلى سنيّة، وبقي كذلك إلى يومنا. 


الصورة بعدسة مروان مسلماني



Tuesday, August 9, 2016

الهاجَريّة والإسلام



طرح الفيلسوف الأمريكي Durant (١٨٨٥-١٩٨١)، في مستهلّ الصفحة ٥٥٣ من الجزء الثالث من كتاب قصّة الحضارة (قيصر والمسيح)، السؤال التالي:

هل المسيح شخصيّة حقيقيّة تاريخيّة؟

ثار جدلٌ حول هذا الموضوع دام قرنين من الزمن، بدايةً من عصر التنوير والقرن الثامن عشر، شكّك فيه البعض، ليس فقط بمعجزات المسيح ورواية العهد الجديد، وإنّما بوجود المسيح عينِهِ. أدلى Durant بدلوه وخلص، بعد استعراض أقوى الحجج ضدّ وجود المسيح، بأنّه شخصيّةٌ تاريخيّة بالفعل، وقدّم أدِلّتَهُ، إن لم نقل براهينَهُ، بأسلوبٍ منطقي لا شائبة فيه.

نأتي الآن إلى الإسلام، وكتابٍ أثارَ خلافاً حادّاً في الأوساط الأكاديميّة المعاصرة. الناشر جامعة كامبردج عام ١٩٧٧، والدراسة للدانماركيّة Patricia Crone (١٩٤٥-٢٠١٥) والبريطاني Michael Cook (١٩٤٠-). تناول البحثُ أصولَ الإسلام من وجهةِ نظرٍ مختلفة تمام الاختلاف عن الدراسات التقليديّة التي اعتمدت في تأريخ الإسلام على النصوص الإسلاميّة. أقرّ المؤلّفان في المقدّمة، ودون مواربة، بتعذّر تقبّل آرائِهما من قِبَل أي مسلم مؤمن، وأن الكتاب "كتبه كفّارٌ infidels وهو موجّه لقرّاءٍ كفّار".

تتلخّص وجهة نظر المؤّلِفين ببساطة أنّ المصادر الإسلاميّة متحيّزة أو مُغْرِِِضة أولاً، وأنّها دُوِّنَت بالشكل الذي نعرفه حاليّاً بعد أجيالٍ من الأحداث التي سَرَدْتها ثانياً. بناءً عليه لجأ الكاتبان إلى تمحيص المصادر غير العربيّة، المعاصرة للأحداث التي غيّرت تاريخ الشرق الأدنى والبشريّة في القرن السابع للميلاد. المراجع المعنيّة هي السريانيّة والعبريّة واليونانيّة واللاتينيّة والأرمنيّة وهلمّجرّا.

كلمة "الهاجريّة" مشتقّةٌ من هاجر، جارية إبراهيم وأمّ إسماعيل. أتى المؤلّفان بتفسير آخر ربط الكلمة بالهجرة، أي "خروج" العرب من شبه الجزيرة نحو الهلال الخصيب والشرق الأدنى - على غرار خروج بني إسرائيل من مصر -، وليس الهجرة من مكّة إلى المدينة، التي لا ذكر لها خارج المصادر الإسلاميّة. يترتّب على ذلك نتائجٌ من أهمِّها اقتباس محمّد لدور موسى كمخلّص قادَ شعبَهُ إلى أرض الميعاد. نستطيع، بتبنّي هذا التفسير، أن ننظر لبداية الإسلام كدمجٍ للقيم اليهوديّة مع القوّة، وهنا يشير الكاتبان أنّ مصطلحات "إسلام" و"مسلمين" ظهرت كتابيّاً للمرّة الأولى، على الأقل حسب ما نعرفه حالياً، في قبّة الصخرة عام ٦٩١ للميلاد. شهدت العقود اللاحقة تطوّر الإسلام من ديانةٍ قَبَليّة، وإله الإسلام من إلهٍ قَبَلي، على غرار اليهوديّة، إلى دينٍ ذي طموحات كونيّة، مثله في ذلك مثل المسيحية وإن اختلفت الأساليب.

رفض معظم الأكاديمييّن النتائج التي توصّل إليها المؤلّفان وبالنتيجة أعاد الكاتبان النظر في مطارحاتِهِما، ولم يُطْبَع الكتاب مجدّداً، وإن أمكن تحميلُهُ بالمجّان على الشبكة.

تجدر الإشارة هنا إلى مقالٍ هام للسيدة Crone عام ٢٠٠٨، يمكن اعتباره مسك الختام. أختصرُ أهمّ ما ورد فيه كما يلي:

١. لا شكّ بكون محمّد شخصيّة تاريخيّة، كونه مذكور في مصدرٍ يوناني خلال سنتين من التاريخ المفترض لوفاتِهِ على أبعد تقدير، كنبي دجّال ظهر بين العرب مسلّحاً بسيف ومزوّداً بعربة.

٢ . رسالة محمّد واضحة من خلال القرآن، الذي لا يخبرنا الكثير عن حياة النبي، وإن أعطانا معلوماتٍ أكثر من وافية عن فكرِهِ والعقيدة التي بشّر بها.

٣. مكانُ الدعوة بعيدٌ عن الوضوح، وليس هناك ذكر لمكّة قبل الفتوحات الإسلاميّة خارج المصادر العربية، ولربّما استطاع علماء الآثار في المستقبل أن يجدوا أدلّة في هذا الصدد، وإن كان التنقيب في الأماكن المقدّسة حاليّاً من المحرّمات.


 


Patrcia Crone and Michael CookHagarism, The Making of the Islamic World. Cambridge University Press 1977. 

Patricia CroneWhat Do We Know About Mohammed? 2008.





Wednesday, July 20, 2016

سوريّا الكبرى



الكتاب من منشورات جامعة أكسفورد عام ١٩٩٠، والمؤلّف دانيل پايپس، أمريكي من مواليد ١٩٤٩، وحائز على دكتوراه من جامعة هارڤارد. تعلّم پايپس العربيّة ودرس القرآن، وأصبح من الخبراء المُعْتَمَدين في قضايا الشرق الأدنى الذي كتب في خصوصِهِ عدداً من المؤلَّفات. پايپس يميني الاتّجاه وعدوّ لدود "للإسلام المحارب". أضف إلى ذلك حماسَهُ "لتحرير" العراق على يد الولايات المتّحدة عام ٢٠٠٣. عيّن الرئيس جورج بوش پايپس مديراً لمعهد الولايات المتّحدة للسلام رغم معارضة الكثيرين.

مصطلح سوريّا الكبرى سابقٌ للحزب القومي السوري الاجتماعي وأنطون سعادة، وإن لم يطابقه بالضرورة من الناحية الجغرافيّة. نوّه پايپس منذ البداية، لإزالة أيّ التباس، بأنّه لا يعتقد بوجود أمّةٍ سوريّة ولا أمّةٍ عربيّة، متّفقاً في هذا الرأي مع كثيرٍ من المستشرقين ومنهم لورانس وجرترود بل.

سوريّا كمفهوم جغرافي - وليس جيوسياسي - قديمةٌ للغاية، أمّا فكرة "الأمّة السوريّة" فهي وليدة مطلع القرن العشرين أو نهاية القرن التاسع عشر على أبعد تقدير. اتّخذ هذا المفهوم أكثر من شكل حسب الشخص أو الجهة التي تبنّته. على سبيل المثال:

- شريف مكّة الحسين بن علي، طالب بدولةٍ (بالأحرى إمبراطوريّة) عربيّة تشمل سوريّا والعراق والجزيرة العربيّة. بالنتيجة حكم ابنه فيصل سوريّا ثمّ العراق، بعد أن طرده الفرنسيّون من دمشق؛ وابنه الثاني عبد الله شرق الأردنّ. تقتضي الموضوعية الإقرار أنّ الهاشمييّن كانوا يبحثون عن مملكة أو ممالك، دون التزام فكري أو وطني، وحصلوا على هذه الممالك فعلاً بغضّ النظر عن شكوى بعضِهم ولفيف من مؤيّديهِم ليلاً نهاراً أنّ الإنجليز "خدعوهم". بالطبع كانت حصة عبدالله (الأوّل) في الأردنّ أقل بكثير ممّا حصل عليهِ فيصل في العراق؛ لربّما كان هذا أحد العوامل التي أدّت إلى مشروع "سوريا الكبرى" كما تصّوره الأمير، ثمّ الملك عبد الله.

- الأمير عبد الإله - الوصي على عرش بغداد - نادى بمشروع "الهلال الخصيب"، بمساهمةٍ من السياسي المخضرم نوري السعيد. هذا المصطلح، خلافاً لما يعتقده الكثيرون، حديثٌ نسبيّاً، اخترعه المؤرّخ الأمريكي جيمس برستد في مطلع القرن العشرين.

- سوريّا الكبرى كما عرّفها الحزب القومي السوري وسعادة.

- توصّل الكاتبُ في النهاية إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ الرئيس الراحل حافظ الأسد، وبغضّ النظر عن المسمّيات، كان الأكثر نجاحاً في محاولة تحويل حلم سوريّا الكبرى إلى حقيقة. بنى پايپس رأيَهُ على وضع الشرق الأدنى في منتصف إلى أواخر ثمانينات القرن العشرين: النفوذ السوري في أوجه في لبنان، منظّمة التحرير الفلسطينية - أو على الأقلّ عدد من فروعها واشتقاقاتها - موالية لسوريّا. حتّى ملك الأردن الحسين حاول رأب الصدع مع دمشق، ونبذ الإخوان المسلمين عام ١٩٨٥، إذ اكتشف على حين غرّة أنّهم خدعوه واستغلّوا طيبةَ قلبِهِ وحسنِ نواياه متستّرين زوراً وبهتاناً بستار الدين (نشرت الصحافة السوريّة كلام الملك. يمكن أيضاَ العودة إلى عدد جريدة السفير الصادر في الحادي عشر من نشرين ثاني ١٩٨٥).

الكتاب طبعاً سابقٌ لغزو العراق الكويت، وسقوط الاتّحاد السوڤييتي، واتّفاقية أوسلو، ثمّ تبادل العلاقات الديپلوماسيّة بين الأردنّ وإسرائيل.

Monday, May 30, 2016

الصراع على الشرق الأوسط


دراسة "الصراع على سوريا"، وتتمّتها "الأسد"، أفضل ما كَتَبَه پاتريك سيل في حياته المهنيّة الغنيّة. تفصل بين الكتابين فترةٌ تتجاوز العشرين عاماً، تحوّلت فيها سوريّا بقيادة الأسد، من جائزةٍ تتصارع عليها القوي الإقليميّة والعالميّة، إلى طرفٍ في الصراع على الشرق الأدنى.

 المؤّلف بريطاني من مواليد ١٩٣٠ ووفيّات ٢٠١٤. تتلمذ على يد الپروفسّور ألبرت حوراني (١٩١٥-١٩٩٣)، مثله في ذلك مثل كاتب سيرة الأسد الآخر، الإسرائيلي موشيه معوز. صدر الكتابان عام ١٩٨٨ بفارق بضعة أشهر. الأسبقيّة لترجمة معوز، بيد أنّ كتاب سيل أغنى مادّةً ولا يزال بعد عشرات السنوات أكمل وأفضل سيرة للرئِيس الراحل. وعلّ ذلك يعود إلى استطاعة سيل مقابلة المسؤولين السورييّن، وعلى رأسِهم الأسد، علاوةً على ابنتِهِ بشرى ونجله باسل؛ أمرٌ متعذّر التحقيق بالنسبة إلى أكاديمي إسرائيلي.

أهدى سيل الكتاب إلى قرينَتِهِ السابقة، الأديبة رنا قبانّي، ابنة الدكتور صباح قبّاني، شقيق شاعر دمشق وسوريّا العظيم نزار قباني. الكتابُ موزّعٌ إلى قسمين: الأوّل يغطّي خلفيّة الأسد وطريقه إلى السلطة، والثاني رئاسَتَه من ١٩٧١ حتّى منتصف الثمانينات. مع الأسف لم تصدر طبعة ثانية من هذا العمل القيّم لتتابع السيرة حتّى وفاة الرئِيس السوري عام ٢٠٠٠، ومن المعروف أنّ النصف الثاني من حكم الأسد شَهِدَ أحداثاً جساماً، أهمّها على الصعيد الدولي سقوط الاتحاد السوڤييتي نهاية ١٩٩١، وحرب الولايات المتّحدة ضدّ العراق في مطلع نفس العام. من نافل القول أن سيل استمرّ في الكتابة عن العرب عموماً وسوريّا خصوصاً إلى النهاية بمهنيّةٍ وإخلاص، وعاصر الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ (كان معارضاً له من الألف إلى الياء)، كما عاصر بدايات ما سمّيَ بالربيع العربي في سوريّا. كان لا مناص من أن يتّهمه البعض بالتشبيح، ومن سخرية الأقدار أنّ السيّدة قبّاني، التي ساعدته في تنقيح مسودّة كتابِهِ عن الأسد، أيّدت الثورة - أو العصيان حسب المنظور - شأنٌها في ذلك شأن الكثيرين من المثقفّين السورييّن المغتربين.


Patrick Seale. Asad of Syria: the Struggle for the Middle East. University of California Press 1988. 











Saturday, May 28, 2016

أبو الهول دمشق


الدكتور موشيه معوز أكاديمي إسرائيلي من مواليد تلّ أبيب ١٩٣٥، خرّيج الجامعة العبريّة في القدس (ماجستير ١٩٦١)، وحائز على دكتوراة من أكسفورد في المملكة المتّحدة. درس معوز، علاوةً على العبريّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، العربيّة والتركيّة. خدم كغيرِهِ في الجيش الإسرائيلي (١٩٥٢-١٩٥٥). أقوم في الأسطر التالية بمراجعةٍ لكتابَهِ عن سيرة الرئيس الراحل حافظ الأسد. صدرت هذه الترجمة عام ١٩٨٨، قبل أشهر معدودة من كتاب پاتريك سيل الأكثر شهرةً "الصراع على الشرق الأوسط" في نفس العام.  أهدى معوز كتابَهَ إلى أساتذه ألبرت حوراني (١٩١٥-١٩٩٣)، وهذا الأخير كما هو معروف بريطاني من أصول لبنانيّة. كان معوز مستشاراً للحكومة الإسرائيليّة قبل تقاعُدِهِ، ويعتبر خبيراً في الشؤون العربيّة والإسلاميّة عموماً والسوريّة خصوصاً.

تستعرض المقدّمة أصول العلوييّن وعشائرهم والاضطّهاد الذي عانوه في الماضي، ومن ثمّ عائلة الأسد، حزب البعث، ودخول الشابّ حافظ إلى الكليّة الحربية (١٩٥٢-١٩٥٥) ليتخرج منها كضابط طيّار. أعطى المؤلّف أيضاً لمحةً عن اللجنة العسكريّة لحزب البعث إلى آخره. كلّ هذا معروف ومطروق وهناك مصادر أغنى بالتفاصيل.

قدّم معوز بعد ذلك شخصيّة الأسد "الرجل والقائد"، وكتب (صفحة ٤١) أنّه حتّى الذين يكرهونه ويخشونه، لا يملكون إلّا الإعجاب بِهِ؛ استشهد المؤلّف في هذا الصدد بأمثال حسنين هيكل وهنري كيسنجر وكريم بقرادوني (من الكتائب اللبنانيّة). الرئيس السوري لا يدخّن ولا يتعاطى المشروبات الروحيّة، ويمارس المطالعة والسباحة والتنس، ويستمع للموسيقى الغربيّة الكلاسيكيّة. الأسد شديد الذكاء، ذو أعصاب حديديّة، يتكلّم بهدوء ولكن بحزم، ولا يسرف في العبارات. الرَجُل ملتزمٌ فكريّاً بالوحدة العربيّة، أو بالأحرى سورّيا الكبرى والصراع ضدّ إسرائيل، ويعتبر نَفْسَهُ استمراراً لصلاح الدين وعبد الناصر.

استطاع الأسد، بعد وصولهِ إلى سدّة الحكم، أن يقضي على التناحر المزمن بين الضبّاط السورييّن، ونجح ليس فقط في تعزيز الجيش السوري عدّةً وعدداً، وإنّما أيضاً في تحويلِهِ إلى قوّةٍ مقاتلة فعّالة كما أثبتت حرب تشرين ١٩٧٣. للمرّة الأولى في تاريخ سوريّا أصبح الرئيس يسيطر على الجيش وليس العكس. سياسات الأسد تميّزت بالواقعيّة، وعلى سبيل المثال قبِلَت سورّيا بتوجيهِهِ قرار مجلس الأمن ٢٤٢ الذي رفضه صلاح جديد سابقاً، وقام الأسد بالتقارب مع الدول العربيّة "الرجعيّة" بغية توحيد الصفّ في مواجهة إسرائيل، وإنهاء عزلة سوريّا. أبدى الأسد، في مقابلة له مع جريدة نيوزويك بعد حرب تشرين - تحديداً في شباط ١٩٧٥ -، استعداده للاعتراف بإسرائيل إذا تحقّقت شروطٌ معيّنة. 

قصّة خيار السادات اتّباع مسار الصلح المنفرد مع إسرائيل أطول من أن تغطّيها سطورٌ قليلة. حاول الأسد جهْدَهُ أن يخلق بديلاً "شرقيّاً" لمصر كعمق استراتيجي لسوريا ، عن طريق التقارب مع لبنان والأردنّ والعراق ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة بنجاح متفاوت: تفجّرت الحرب الأهليّة في لبنان وتحّول شهر العسل مع الأردن إلى عداءٍ علني عندما ساند الملك حسين الإخوان المسلمين. حالة العراق أكثر تعقيداً إذ تبنّت بغداد المزايدة على دمشق في السبعينات، كما زايد البعث السوري على مصر عبد الناصر في الستّينات. مع ذلك ساند العراق سوريّا في معارضتها للسلام المصري الإسرائيلي إلى أن قلب صدّام حسين للأسد ظهر المجنّ، وطرد السفير السوري، ثمّ هاجم إيران - عوضاً عن إسرائيل - عام ١٩٨٠ لحماية ما أسماه "البوّابة الشرقيّة للأمّة العربيّة". لا داعي للدخول في نتائج "قادسيّة صدّام" الكارثيّة. أخيراً اعتمد ياسر عرفات نهجاً مستقلّاً لمنظّمة التحرير، وردّ الأسد بدعم أبو موسى والفصائل المعارضة للزعيم الفلسطيني.

وصف معوز فترة ١٩٧٠-١٩٧٦ "بسنوات الخير"، بيد أنّ النصف الثاني من السبعينات شهد، علاوةّ على تأزّم الوضع الإقليمي، تدهور الوضع الداخلي وتصعيد العنف عندما باشر الإسلاميّون المتطرّفون حملةً من الاغتيالات تناولت أشخاصاً محسوبين على السلطة (١). علّ مجزرة مدرسة المدفعية في حزيران عام ١٩٧٩ كانت نقطة اللاعودة في الصراع بين الحكومة والإسلامييّن المتشدّدين. كانت المواجهة النهائيّة في حماة مطلع ١٩٨٢، عندما هاجم العصاة المراكز الحكوميّة و قتلوا ٢٥٠ إنسان، معظمهم من الموظّفين، وأعلنوا "الجهاد ضدّ نظام الأسد الملحد"(٢). ردّ الجيش العنف أضعافاً مضاعفةً وقدّر الكاتب عدد القتلى في حماة بين١٠٠٠٠-٣٠٠٠٠ (٣). 

غزت إسرائيل لبنان في حزيران ١٩٨٢، بعد مأساة حماة بأربعة أشهر، وأسقطت عشرات من الطائرات السورية، وظهر عجز الجيش السوري عن حماية بيروت. بدا وقتها أنّ الأسد وسوريّا في الحضيض بين الأزمة الداخليّة والعزلة العربيّة والدوليّة والتهديد الإسرائيلي. زاد مرض الأسد - الذي عانى من الداء السكّري - الطين بلّةً، عندما أصيب بأزمةٍ قلبية في تشرين ثاني ١٩٨٣، وحصل لديه ارتكاس أدْخَلَهُ إلى المشفى مجدّداً في مطلع ١٩٨٤. اعتقد شقيق الأسد الأصغر رفعت أنّ الأوان قد آن ليحلّ محلّ أخيه (٤)، بيد أنّ الرئيس تعافى بما يكفي لأن يستنفر الجيش السوري ويعزل رفعت عن قيادة سرايا الدفاع ويحلّ هذه القطعات الرديفة. عُيّن رفعت بعدها نائباً الرئيس جمهورية وأحيل بنفس الوقت إلى الاستيداع. 

ترافقت هذه الأحداث مع قيام الرئيس اللبناني أمين الجميّل (٥) بتوقيع اتفاقيّة مع إسرائيل في ١٧ أيّار ١٩٨٣. عارض الأسد وسوريّا هذه الاتّفاقيّة بكل الوسائل بما فيها "الإرهاب"، حسب تعبير الكاتب، إلى أن تمّ إحباطها الذي يعتبرهُ البعض أكبر إنتصار للأسد في تاريخِهِ. 

أصبح "التوازن الاستراتيجي" مع إسرائيل شغل الأسد الشاغل، بعد توقيع معاهدة السلام المصريّة - الإسرائيليّة في آذار ١٩٧٩. حاول الأسد الردّ بتشكيل ما سُمّيَ "جبهة الصمود والتصدّي" (٦)، وبتوقيع معاهدة مع الاتحاد السوڤييتي عام ١٩٨٠.

ختم الكاتب بالقول أنّ الأسد، رغم جميع إنجازاته، عجز عن بناء أمّةٍ سوريّة نظراً لاعتماده على ولاء العسكر العلوييّن، وأن سياساته الإقليميّة، كدعم الموارنة في محنة لبنان عام ١٩٧٦، وتأييد إيران في حرب الخليج، أثارت نقمة الكثيرين من العرب والسورييّن. شكّكَ معوز بأن يستطيع خليفة الأسد في الحكم (٧) أن يحافظ على مكانة سوريّا غير المسبوقة كقوّةٍ إقليميّة، والتي تحققّت على يده. 



(١) ذكر المؤلف على سبيل المثال رئيس الجامعة محمّد الفاضل، وأضيف إليه الطبيب يوسف صايغ مدرّس الغدد الصمّ في كلية الطبّ جامعة دمشق وهناك غيرهم. 
(٢) تعرّض الكاتب بالتفصيل لجهود الأسد في التركيز على الهوية الإسلاميّة للعلويين وكيف استصدر فتوى من الإمام موسى الصدر عام ١٩٧٣ في جملةِ مساعيهِ. 
(٣) لاشكّ أنّ عدد الضحايا كان كبيراً ولا شكّ أنّ الآلاف من الأبرياء ماتو. مع ذلك هناك تفاوت كبير في التقديرات وتجدر هنا الإشارة أنّ معوز ادّعى أنّ ٨٠٠٠٠٠ سوري هاجروا بعد المذبحة. هذا الرقم غير معقول إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ عدد السكّان الإجمالي آنذاك كان حوالي عشرة ملايين. 
(٤) أذكر جيّداً وقتها مشاهدة لافتات في دمشق بعنوان "رفعت الفارس في قلب كل فارس".
(٥) أصبح أمين الجميّل رئيسَ لبنان بعد اغتيال أخيه الأصغر بشير في أيلول ١٩٨٢. 
(٦)  كان موقف القيادة الأردنيّة مشيناً عندما هاجمت إسرائيل لبنان، وأقرب إلى الشماتة بالسورييّن. سخر رئيس وزراء الأردنّ حينها مضر بدران بالجبهة وأطلق على أعضائِها تسمية دول "الجحود والتردّي". كان أكرم له ولسيّده لو اكتفيا بالصمت. 
(٧) لا أعلم إذا كان باسل الأسد مرشّحاً لخلافة أبيه عام ١٩٨٨، وبالطبع لم تكن رئاسة بشّار بالحسبان.