Sunday, December 31, 2017

قرويّو سوريّا والشرق الأدنى (تتمّة)



رأينا أنّ العلاقة التاريخيّة بين الريف والمدينة غير متوازنة، ولربّما لم يكن من المبالغة القول أنّ المدينة في أغلب الحالات طفيليّة، تأخذ من الريف أكثر بكثير ممّا تعطيه؛ مع ذلك ليست كلّ الأرياف سواسية: جبل لبنان مثلاً أكثر استقلاليّة وأغنى من سائر الريف ولعدّة عوامل أهمّها انفتاحه على المتوسّط والبعثات الغربيّة ووعورته التي جعلت إخضاعه للضرائب بشكل منتظم عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، فلّاح غوطة دمشق موسرٌ نسبيّاً يزور العاصمة بانتظام (العكس غير صحيح: سكّان مدينة دمشق يحتاجون إلى دليل في متاهات الغوطة)، قد يتمتّع الفلّاح في جبال العلوييّن باستقلالٍ نسبي تحت ظروفٍ معيشيّةٍ متواضعة، أمّا عن فلّاح السهول الداخليّة فحالته يُرْثَى لها كونه موضع استغلال ملّاك الأراضي وتجّار المدن يبيع محاصيله بأبخس الأثمان كي يحصل على الحدّ الأدنى الضروري لإبقائه على قيد الحياة. فلّاح الداخل غالباً لا يملك الأرض التي يزرعها، وحتّى إذا ملكها فسيضطّر إلى التنازل عنها عاجلاً أم آجلاً للمالك أو التاجر الذي أقرضه بذارَه أو قوتَ يومِهِ. المالك لا يزرع والزارع لا يملك. 

لم يعرف الريف السوري عموماً الإنارةَ ولا الكهرباء ولا الطرقات المعبّدة ولا وسائل المواصلات الحديثة حتّى منتصف القرن العشرين. النقل على ظهور الدوابّ والعجلات غير معروفة ولا يوجد دروبٌ تصلح لها. لغياب المواصلات أثرٌ بالغ الاهميّة في التسويق: إكراه الفلّاح على بيعِ محاصيلِهِ في أقرب سوق، وبالتالي جعله تحت رحمة الوسطاء. الإنتاج قليل والتبادل أقلّ.  الغالبيّة العظمى من الفلّاحين أميّون والقرى عموماً محرومة من المدارس والمعابد وفي كلّ الأحوال الفلّاح أفلّ تديّناً (بالمعنى التقليدي وخصوصاً من ناحية ممارسة الطقوس) من أهل المدن وإن تعلّق بزيارة الأولياء والعادات الموروثة القديمة قِدَم التاريخ. الأمراض تفتك بالريف السوري: البرداء، السلّ، الرَمَد (من أسباب العمى الشائعة في الماضي)، حبّة حلب.... ويساعد على تفشّيها البيوت الأبعد ما تكون عن التهوية والشروط الصحيّة. وفيّات الأطفال مرتفعة للغاية. 

____________

حاولت سلطات الانتداب الفرنسي جَهدَها في تحسين وضع الريف السوري، ونجحت في فرض الأمن (أحد أهمّ منجزاتها)، بيد أنّ جهودَها اصطدمت بعدّة عوائق أهمّها:

أوّلاً: نقص رؤوس الأموال. افتقرت سورّيا آنذاك إلى التمويل الضخم الضروري لتنفيذ مشاريع ذوي النوايا الحسنة، وأحد الأسباب كان طبيعة الانتداب المؤقّتة حسب متطلّبات عصبة الأمم. اقتصر دورُ فرنسا، من الناحية النظريّة على الأقلّ، على تحضير سوريا للاستقلال وهذا لا يشجّع المستثمرين الأوروپييّن على توظيفِ أموالِهِم دون معرفة ما قد يحدث غداً، على عكس الوضع السائد في المستعمرات، خاصّة الاستيطانيّة كالجزائر (ما كان للمؤلِّف أن يتنبّأ باستقلال الجزائر بعد أقلّ من عشرين عاماً). 

ثانياً. العوائق الاجتماعيّة والسياسيّة وهي أيضاً محكومة بطبيعة الانتداب المؤقّتة التي شجّعت القيادات السوريّة (وأغلبها قيادات مدن) على المطالبة بالاستقلال كواجب وطني، وحدّت من قدرة الانتداب على إجراء إصلاحات جذريّة على غرار أتاتورك في تركيّا (إلى درجة منع الحجاب واعتماد الأحرف اللاتينيّة) ورضا خان في إيران.

ثالثاً. المطلوب لتنمية فعّالة ليس فقط تحسين البنية التحتيّة وسنّ القوانين، وإنّما ثورة اجتماعيّة شبه مستحيلة وغير موجودة في أي مكان في الشرق الأدنى باستثناء فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتحديداً المشروع الصهيوني الذي استورد المستوطنين الأوروپييّن بالجملة، وإن سلّم الكاتب أنّ الثمن كان فادحاً للغاية وهذا قبل النكبة بعامين! (مات المؤلّف عام ١٩٤٦ بعد نشر الكتاب بفترة لا تتجاوز الأشهر). مع ذلك كتَبَ Weulersse أنّ نجاح فرنسا في الريف السوري تجاوز ما حقّقته بريطانيا في العراق وشرق الأردنّ. 

خرجت فرنسا وبريطانيا من الحرب العالميّة الثانية مرهقتان، واستفاد الشرق الأدنى من ضعفِهِما النسبي سياسيّاً لتحقيق استقلاله المنشود، كما استفاد اقتصاديّاً من تواجد الجيوش الأوروپيّة على أراضيه، ممّا أدى إلى زيادة التبادل التجاري لمصلحة الأهالي. أتى التحرّر من الاستعمار أو الانتداب على أيدي نخبة أهل المدن بالذات وهذا التحرّر السياسي لم يترافق بالضرورة مع تحسّنٍ في الحريّات الفرديّة أو تطوّرٍ اجتماعي واقتصادي إيجابي. أضاف الكاتبُ أنّ ثمنَ الاستقلال باهظٌ، إذ تحتّمَ على الدولة الفتيّة تحمّل الكلفة الفوريّة لجيشٍ وطني وبعثاتٍ ديپلوماسيّة  على حساب مشاريع التنمية الطويلة الأمد. هكذا على الأقلّ بدت الأمور عام ١٩٤٦.

خَتَمَ Weulersse بالقول أنّ مستقبل الشرق الأدنى، إن خيراً وإن شرّاً، رَهْنٌ بمصير الفلّاح.  


قرويّو سوريّا والشرق الأدنى


شكلّ أبناء وبنات الأرياف لآلاف السنين وعلى الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين الأغلبيّة الساحقة من سكّان سوريّا. ليس ذلك فحسب، بل كان الريف (ولربّما لا يزال) مصدر الثروة الرئيس في البلاد، وإليه يرجع الفضلُ في تزويد المدن بحاجاتِها الغذائيّة. حتّى مدينة دمشق وغوطتها الغنّاء اعتمَدَت على حوران في تأمين حنطتِها وخبزها منذ قرون. مع كلّ هذا وأكثر يعجز المرء عن العثور على ذكر القروييّن في المصادر التاريخيّة أو يكاد. التاريخُ بالدرجة الأولى تاريخ المدن التي كانت عماد الغزاة منذ العهد الهلنستي على الأقلّ، والتي استمدّت قسماً لا بأس به من مكوّناتِها الديموغرافيّة من دماء الفاتحين، بينما كان الريف محصوراً بين مطرقة أعيان المدن وسندان التغلغل البدوي. 

حاول المستشرق الفرنسي  Jacques Weulersse أن يفي الفلاّحَ السوري بعضَ حقِّهِ في هذه الدراسة الصادرة عام ١٩٤٦، وإن استندت إلى معطيات عام ١٩٤٠ وما سبَقَهُ. تغيّرت سوريّا كثيراً منذ ذلك الوقت، وتضاعف عددُ سكّانِها خمسَ مرّاتٍ على الأقلّ، وزادت نسبة سكّان المدن وضواحيها إلى الريف في ظاهرةٍ لا سابقة لها في تاريخ البلاد. اتّسعت قرىً كثيرةً لتصبح مدناً بكلّ ما في الكلمة من معنى، كما في غوطة دمشق المُنْدَثِرَة على سبيل المثال. أضِف إلى التغيّرات الكميّة تغيّراتٍ نوعيّةً في المواصلات والمكننة والحكم والإدارة والتسويق والتوزيع وهلمّجرّا. يبقى هذا الكتاب، بسلبيّاتِهِ وإيجابيّاتِهِ، على الرغم من هذه التطوّرات، مرجعاّ ثميناً يساعدُ إلى حدّ كبير في فهمِ خلفيّة الأحداث التي مرّت بها سوريّا خلال الثمانين سنة المنصَرِمَة منذُ نَشْرِهِ. تقتصرُ الدراسةُ على سوريّا الانتداب، بما فيها لواء اسكندرون ولبنان، وإن أمكن تعميم الكثير ممّا ورد فيها على سائر الشرق الأدنى (مصطلحٌ أكثر دقّة من "الشرق الأوسط" الدارج). 

____________

لحق ريفَ سوريّا الكثيرُ من الظلمِ عبر التاريخ. هناك اختلاف جذري بين القروي في أوروپّا ونظيرِهِ في سوريّا. النبالةُ في أوروبا نبالةُ أرض "دوق Anjou" أو "ملكة قشتالة" أو "أمير Wales" إلى آخِرِهِ، بينما النبالةُ لدى العرب قبليّة أي الانتماء لعشيرةٍ أو أسرة كما نعرف من الأعداد الهائلة ممّن يُنْسَبون بحقٍّ أو بغير حقّ إلى الحسين، لا بل تسمّى الدولُ "هاشميّة" أو "سعوديّة" حتّى اليوم. العرب على الأقلّ تاريخيّاً يمجّدون البدوي المحارب ويحتقرون الفلّاح والزراعة. الدولة في الغرب هي وحدة أرض + شعب + جهاز سياسي وإداري؛ تقدّمُ خدماتٍ لمواطنيها لقاء واجباتٍ تطالبهم بها. الدولةُ في الشرق بالنسبّةِ لأبناء الريف شرٌّ لا بدّ منه، أقصى ما يمكن أن تقدّمهُ إليهِم حمايتَهم من البدو، ويتعيّن عليهم لقاء هذه الحماية (التي لا تتوافر دوماً) دفعُ ضرائبٍ باهظة تتجاوز أحياناً مطالب البدو. فرقٌ آخر جديرٌ بالذكر: تعتمد الجيوش الغربيّة على القروييّن، بينما في الشرق الأدنى (إذا استثنينا مصر محمّد علي) الاعتماد على البدو والغرباء. إذاً الدولةُ العربيّة دولةٌ دون أرض، والقروي فيها فلّاحٌ دون وطن

أضِف إلى ما سبق "طلاق" المدينة والريف إذا جاز التعبير، وعلى أكثر من صعيد. اللاذقيّةُ على سبيلِ المثال سنيّة مسيحيّة ريفُها علوي، أنطاكيا تركيّة ريفُها علوي عربي، حماة عربيّة ريفُها علوي بدوي وهلمّجرّا. حماة بالذات لها وضع متميّز كأكثر المدن السوريّة محافظةً، سيطرت عليها وعلى ريفِها أربعٌ عائلات (البرازي والكيلاني وطيفور والعظم لمن يهمّه الأمر). أخيراً العلاقةُ بين أهل المدن عبر المدن أقوى منها بين المدينة وريفها، بعبارةٍ ثانية العلاقة بين الحلبي والشامي أقوى منها بين الحلبي مع ريف حلب والشامي مع ريف دمشق. الوحدة طائفيّة أكثر منها جغرافيّة

للحديث بقيّة. 

Friday, December 22, 2017

مُصَوَّر سوريّا العصور القديمة والوسطى



ارتأى المندوب السامي Henri Ponsot تعريف المهتمّين والهواة بالتراث الأثري السوري عَبْرَ أطلسٍ مصوّر لعددٍ من أهمّ معالم البلاد صدر عام ١٩٣١. يحتوي المُجَلّد على مائة وستّين صورة جيّدة النوعيّة بالأبيض والأسود. بإمكان القرّاء الاطّلاع على سيرة وأعمال الكتّاب الثلاثة (René Dussaud و Paul Deschamps و Henri Seyrig) بالضغط على أسمائهم في الروابط الفائقة.

المعنيّةُ سوريّا الانتداب بما فيها لبنان قبل اقتطاع لواء اسكندرون، والمقسّمة إداريّاً إلى "دول" سوريّا والعلوييّن والدروز والتي لا تشمل فلسطين ولا شرق الأردن الواقعتين تحت الانتداب البريطاني. الصور متعدّدة المصادر، التُقِطَت على عشراتٍ من السنوات، وضمّت بعض اللقطات الجويّة البديعة من مطلع عهد الطيران. كافّة الصور مرفقة يصفحةٍ من الشرح تعطي نبذةً تاريخيّة وفنيّة ومعماريّة عن الأثر المدروس، وكلّ هذا بالفرنسيّة. 

تغطية إقليم شديد الغنى بالآثار كسوريّا بمائة وستّين صورة - أو حتّى بألفٍ وستّمائة -  غير وارد بطبيعة الحال، ولا يمكن إعطاء حتّى مدينة سوريّة متوسّطة حقَّها بهذا العدد الضئيل من اللقطات. يبقى هذا الكتاب الجميل مع ذلك مرجعاً قيّماً خصوصاً في ضوء التغيّرات التي طرأت على العديد من المعالم المصوَّرة في العقود العشرة التي انصرمت على نشرِهِ.

لا يتعرّض المؤلّفون لجميع المدن السورية، وهو أمر مستحيل في حيّزٍ محدودٍ من هذا النوع، بيد أنّهم ركّزوا على ما اعتبروه أهمّ من غيره تاريخيّاً أو جماليّاً أو عاطفيّاً، أي المتعلّق بحنينِ الفرنسييّن إلى عهدِ الحملات الصليبيّة وفَخْرِهِم بها. هناك تركيز خاصّ على العمارة العسكريّة الصليبيّة، وعلى سبيل المثال يحتلّ الحيّز المخصصّ لقلعة الحصن عدداً من الصفحات يعادل تقريباً تلك المخصّصة لمدينة دمشق. بالنسبة للمواقع التاريخيّة الدارسة ومعابدها هناك اهتمامٌ خاصّ - وبحقّ - بمدينتيّ بعلبك وتدمر. المساحة المخصّصة للآثار الإسلاميّة محدودةٌ مقارنةً مع غيرِها. 

مسكُ الختام توافرُ كافّة هذه الراوئع مع النصوص المُرْفَقَة ومصدر اللقطات واسم المصوّر بالمجّان على الرابط التالي. تاريخ الصور مع الأسف غير مذكور، وإن أمَكَن الحصولُ عليهِ أو على الأقلّ تخمينُهُ بمراجعة المجلّات التي نَشَرَتها أصلاً في مطلع القرن العشرين، أو من أسماء بعض المصوّرين مثل Bonfils و Sauvaget وغيرهم. 

Sunday, December 17, 2017

العرب في سوريّا قبل الإسلام



يقصد René Dussaud بالعرب هنا بدو الجزيرة العربيّة وبادية الشام تحديداً، وبيستثني جميع الحضر في اليمن وسوريّا. Dussaud (١٨٦٨-١٩٥٨) آثاري ومستشرق فرنسي وخبير باللغات القديمة كاليونانيّة والعبريّة وغيرها، وأخصّائي بالخطوط والنقوش الكتابيّة التاريخيّة والأديان الساميّة، وله العديد من الكتب والمقالات في الدوريّات العلميّة، ويعتبر أحد الروّاد في مجالِهِ أو بالأحرى مجالاِتِهِ. 

رأى العرب في سوريّا قبل الإسلام النورَ عام ١٩٠٧. لا يتجاوز هذا الكتاب ١٧٠ صفحة، بيد أنّهُ عسير القراءة، موجّهٌ بالدرجة الأولى إلى المحترفين، ومع ذلك يمكن للهواة أن يستخلصوا منه كمّاً لا بأس به من المعلومات قلّ من تطرّق إليها من المؤرّخين وعلماء اللغة المحليّين، وأشكّ في وجودِهِم أصلاً في بيئة لا تعطي العهود السابقة للإسلام حقَّها لسببٍ أو لآخر، وتعاني من نقصٍ مزمن في التمويل المخصّص للبحث العلمي.

بَحَثَ المؤلّفُ أمرَ تغلغل موجات الهجرة إلى سوريا حرباً أو سلماً، والأمثلة عليها كثيرةٌ، وارتأى أنَّهُ سواءً في حالة الأنباط أو العبرانييّن أو العرب المسلمين، بدأ الدخول من شرق الأردن قبل الاتّجاه شمالاً وغرباً، مع التحفّظ أنّ المعلومات المتوافرة عن كافّة هذه القبائل جُمِعَت من كتاباتٍ وسجلّاتٍ دُوِّنَت بعد انتقال هذه الشعوب من البداوة إلى التحضّر، مع استثناءٍ وحيد. تمحورَ الكتابُ حول هذا الاستثناء. 

تتركّز الدراسة على القبائل الصفائيّة أو الصفويّة (لا علاقة مع إيران طبعاً) نسبة إلى تلول الصفا الواقعة شرق اللجاة في حوران، حيث عُثِرَ على كتاباتٍ ونقوشٍ حجريّة باللغة الصفائيّة، تركها هذا الشعب عندما كان لا يزال في مرحلة البداوةٍ، قبلَ أن "يُهْضَم" مع لغتِهِ وديانتِهِ وآلهتِهِ من قِبَل القرى والمدن المضيفة. 

هناك شبه إجماع أنّ الأبجديّة الأولى في التاريخ فينيقيّة (بالأحرى كنعانيّة على اعتبار أنّ الفينيقييّن هي التسمية التي أطلقها اليونانيّون على الكنعانييّن)، ومنها اشتُقَّت العبريّة واليونانيّة. حتّى المشكّكين في الأصل الكنعاني للأبجديّة سلّموا أنّهم على الأقلّ من نَشَرَها وعمَّمَها، وأنّها أقدم الأبجديّات الساميّة إطلاقاً. باختصار نتدرّج من الأبجديّة الكنعانيّة إلى اليونانيّة القديمة إلى اليمنيّة السبئيّة (مملكة سبأ) وهلمّجرّا، أمّا عن الكتابة الصفائيّة فهي الأكثر "شماليّةً" من كافّة النماذج العربيّة الجنوبيّة، وتمتلك كالعربيّة ٢٨ حرفاً.  

ذابَ الصفائيّون في المجتمع السوري في القرن الرابع الميلادي، وتحوّلت نقوشُهُم وكتاباتُهُم إلى اليونانيّة، ولكنّهم تركوا لنا من القرون السابقة لانصهارهم معلوماتٍ لغويّةٍ ودينيّةٍ لا تقدّر بثمن. خصّص الكاتب ٤٠ صفحة لآلهتِهِم، منها ما ذُكِرَ في القرآن مثل اللّات، التي جَسّدَت في العهد الهلنستي الزهرة و Athena. اعتبرَ Dussaud العزّى ومناة أقانيماً للّات، ولكنّ النقطة الأكثر أهميّةً أنّ الله كإله، سَبَقَ الإسلامَ بخمسةٍ أو ستّةٍ من القرون. لا دليل أنّ الصفائيّون أو غيرَهُم مثّلوه بصنمٍ كسائر الأرباب، وإن أثار المؤلّف احتمال كون الحجر الأسود في الكعبة رمزاً لَهُ bétyle بالنسبةِ للبعض، وعلّ هذا يفسّر الاهتمام الخاصّ الذي أحاط بِهِ محمّد والمسلمون بعدَهُ هذا الحجر. 

ليس كلّ ما كتبه Dussaud قرآناً منزلاً بطبيعة الحال، فمثلاً خصّص ١٥ صفحة من الكتاب (٤٠ - ٥٥) أكّد فيها أنّ قصر المشتّى (الأردن حالياً) يعود إلى القرن الخامس الميلادي على أحدث تقدير، مع أنّ كافّة الأخصّائييّن اليوم يجمعون أنّه أموي من منتصف القرن الثامن. 

قُدِّر للمؤلّف بعد خمسين سنة أن يعيد كتابة هذا العمل استناداً إلى خضمٍّ من المعطيات والمكتشفات الجديدة ولكن لهذا حديثٌ آخر. 

Thursday, December 14, 2017

البلاذري وفتوح البلدان




سبق ورأينا أنّ الفضل يرجع للبلاذري في أحد أهمّ وأقدم الكتب التي أرَّخَت الفتوحات الإسلاميّة، وأنّه مات عام ٨٩٢ للميلاد، أي إمّا في نهاية خلافة المعتمد على الله أو بداية عهد المعتضد بالله العبّاسيِّيَن. ماذا عن الفترة الزمنيّة التي يغطّيها كتاب فتوح البلدان؟

يبدأ البلاذري سَرْدَهُ مع دخول محمّد إلى المدينة (أي بداية التقويم الهجري)، ويعطينا تفاصيلاً محدودةً ثمينةً عن بناء مسجد النبي في يثرب - المدينة، وتوسّعاتِهِ في العهود اللّاحقة، ولكنه لا يتعرّض لغزوتيّ بدر وأحد، بل ينتقل بغتةً دون مقدّمات إلى طرد يهود قينقاع الذين "نقضوا عهدهم"، دون الدخول في كيف ولماذا وإن وجب التذكير (كما وَرَدَ في مقال الأمس) أنّ ما لدينا نسخة مختصرة لمخطوط البلاذري. هناك تفاصيلٌ أكثر عن طرد يهود النضير، ومن ثمّ قتل وسبي يهود قريظة. مع ذلك بقي وجودٌ لليهود في خيبر وللمسيحييّن في نجران، إلى أن طردهم عمر بن الخطّاب. 

دارت آخر أحداث فتوح البلدان في عهد الخليفة العبّاسي الثالث عشر أي المعتزّ بالله (٨٦٦ - ٨٦٩). غطّى الكتابُ إذاً حوالي ٢٥٠ سنة، وعمليّاتٍ عسكريّةٍ امتدّت من الجزيرة العربيّة جنوباً إلى تخوم آسيا الصغرى شمالاً ومن السند وتركستان شرقاً إلى شمال إفريقيا وإسپانيا غرباً، ولكنّه لم يتعرّض للغارات على فرنسا و"بلاط الشهداء" ولا إلى محاولات الأموييّن المتكرّرة والفاشلة لأخذ القسطنطينيّة. لا معلومات تستحقّ الذكر عن حروب الفتنة، باستثناء الردّة ومسيلمة الملقّب بالكذّاب، وإذا ذُكِرَت أحداثٌ كوقعة الجمل (بين علي من جهة وعائشة مع طلحة والزبير من جهة ثانية) أو معركة صفّين (علي ضدّ معاوية) أو كربلاء (مقتل الحسين) أو إبادة الأموييّن على يد أبي العبّاس وصَحْبِهِ أو القتال بين الأمين والمأمون، فبشَكلٍ عابرٍ وغير مُبَاشَر، هذا إذا ذُكرَت على الإطلاق. هناك بالمقابل طوفانٌ من المعلومات عن الأمور الفقهيّة المتعلّقة بتوزيع الأراضي والمياه وغنائم الحرب وأموال الجزية والخراج بين المسلمين حسب قربهم من النبي وإسهامهم في المجهود الحربي. 


تلخيصُ أحداثٍ مسرحُها الجغرافي بهذا الاتّساع وامتدادها الزمني بهذا الطول في صفحةٍ أو صفحتين أمرٌ مستحيل، حسبُنا الإشارة إلى الخطوط  العريضة المُرْتَسِمة عبر قراءة هذا الكتاب، أو على الأقلّ بعض الاستنتاجات التي توصّلتُ إليها والتي ألخِّصُها في الحواشي الآتية: 

أوّلاً: يخلط الكثيرون بين الفتوحات العربيّة من جهة، وأسْلَمَة جنوب وغرب آسيا وشمال إفريقبا من جهةٍ ثانية. الفتوحات العربيّة  - على الأقلّ خارج الشرق الأدنى - مؤقّتة، أقربُ إلى الغارات منها إلى الفتوحات، وكثيراً ما اضطرّ العرب المسلمون إلى "فتح" نفس المكان مثنى وثلاث عندما شقَّ عصا الطاعة ورفض دفع الأتاوة أو الخوّة (الجزية). النتيجة المنطقيّة أنّ مهابةَ الإمبراطوريّة العربيّة العظمى على الورق أكثر من قوّتِها الحقيقيّة، والعهد الأموي الذي بلغت فيه رقعتُها أقصى اتّساعِها كان في واقع الأمر زاخراً بالفتن الأهليّة، كالتي أشعلها عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب قبل أن يخمدها الحجّاج بن يوسف الثقفي. اضطرّ عبد الملك بن مروان إلى دفع الجزية لإمبراطور بيزنطة (كما فعل قَبْلَهُ معاوية بالإذن من الروايات الفيسبوكيّة الكاريكاتوريّة) كي يتفرّغ لحرب ابن الزبير. ما أنهى الدولة االأمويّة هو فرط التمطّط الإمبراطوري (Paul Kennedy عندما عَجِزَت مَوارِدُها على ضخامتِها عن حماية المساحات الشاسعة التي أصبحت عبئاً على الدولة بعد أن كانت مصدرُ رزقٍ للعسكر الغزاة وذويهِم. أتى امتداد الإسلام إلى الهند وإندونيسيا وإفريقيا وغيرها لاحقاً، على يد التجّار والمتصوّفين (مغامرة أو مخاطرة الإسلام للمستشرق Marshall Hudgson) الذين نجحوا في تكييف العقيدة لتتلائم مع الأعراف والتراث المحلّي، وليس على يد الفاتحين. 

ثانياً: موضوع شهامة وتجرّد الفاتحين المسلمين و"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب" مبالغٌ فيه للغاية. كان نصيبُ سوريا أفضل بما لا يقاس من غيرِها - على الأقلّ إلى أن أتى العبّاسيّون  - لأنّها كانت مركزاً للإمبراطوريّة ونقطةَ انطلاقٍ لكثيرٍ من الفتوحات، بينما عانت الأقاليمُ النائية الأمرَّين من الفاتحين الذين لم يتورّعوا عن ضربِ أعناق القادة وذبح الرجال في سنّ حمل السلاح وسبي النساء والأطفال في أكثر من مناسبة، حتّى عندما استسلم "المشركون" وفتحوا أبوابَهم. ليس مصدر هذه المآسي أعداء المسلمين، بل رواتِهِم، ومنهم البلاذري الذي يذكرها كأمرٍ مسلّمٍ بِهِ وبنظرةٍ أبعد ما تكون عن السلبيّة. عندما قَبِلَ العربُ الجزيةَ نقداً أو عيناً، لجأت بعض الشعوب التي افتقرت إلى المال إلى تسليمِ فتياتِها وفتيانِها إماءً وعبيداً للعرب الفاتحين كطريقةٍ لا مفرَّ منها لدفع "المعلوم". بالطبع عندما خسر المسلمون معركةً عامَلَهُم "العجم" و"المشركون" بالمِثْل. 

ثالثاً: رواية البلاذري أشبه ما تكون بالسجلّات المسماريّة الآشوريّة أو الفرعونيّة القديمة من عدّةِ نواحٍ، منها المبالغة الهزليّة في عددِ وعدّة الأعداء، يليها وصفُ جُبْنِ الخصم وبطولات العرب وإن خسروا بعض الشهداء، ثمّ التفصيل في محاصصة الأسلاب بين الغزاة. كَتَبَ البلاذري بمنتهى الصراحة أنّ بعض محاربيّ الفاتحين كانوا يطمعون بالشهادة، بينما انضمّ البعضُ الآخر إلى المعمعة طَمَعاً بالغنائم.

رابعاً: ما قرّرَ هدمَ المعابد "الوثنيّة" أو الإبقاء عليها، وقتلَ "المشركين" أو حقن دمائهم، عواملٌ نفعيّة وعمليّة بحتة بالدرجة الأولى. قَبِلَ الفاتحون في عدّة مناسبات الجزية من المجوس، وسمحوا لهم بالإبقاء على معابد النار، وطبّقوا نفس المنهج مع بعض البوذييّن، أي أنّهم عاملوهم كما عاملوا "أهل الذمّة" المسيحييّن واليهود. 

أخيراً الكتاب منجم ذهب لهواة اللغة العربيّة، تعلّمتُ منهُ على سبيل المثال معنى كلمة "العلوج" أو "الأعلاج"، جمع علج (من يذكر الصحّاف؟) التي ترجمها الدكتور حتّي بالرجل الأغْلَف (أي غير المختون). هناك أيضاً بعض التفاصيل الساخنة بلغةٍ شبه إباحيّة عندما اتّهم بعضُهُم المغيرة بن شعبة بالزنا، وأمَرَ عمر بِجَلْد ثلاثة شهود لأنّ الرابع لم ير الِجماعَ بأمِّ عينه. لدينا أيضاً نادرة عمر عندما صادر أموال "عدوّ الله والمسلمين أبو هريرة" متّهماً إيّاه بالاختلاس.






أصول الدولة الإسلاميّة


كتاب فتوح البلدان لأحمد ابن يحيى البلاذري (وفيّات ٨٩٢ للميلاد) أحد أهمّ وأقدم المؤلّفات التي نملكها عن العهد الإسلامي الأوّل، إذا سلّمنا أنّه بدأ مع محمّد في النصف الأوّل من القرن السابع وانتهى مع نهاية العصر العبّاسي الذهبي في منتصف القرن التاسع للميلاد. المقصود بالذهبي عصر القوّة السياسيّة وليس الازدهار الفكري والأدبي والفنّي. تُرْجِمَ هذا الكتاب إلى الإنجليزيّة في مطلع القرن العشرين على دفعتين، ونوّه المستشرق Richard Gottheil (١٨٦٢-١٩٣٦: أكاديمي أمريكي صهيوني من مواليد إنجلترا) في مقدّمة الكتاب أنّ ما نملكه حاليّاً ليس كتاب فتوح البلدان الأصلي الذي اختفى بعد القرن السابع عشر، وإنّما مختصر له. 

يعود الفضل في ترجمة هذا السفر النفيس إلى الإنجليزيّة إلى شخصين: الأوّل العلّامة الدكتور فيليپ خوري حتّي (١٨٨٦-١٩٧٨) الذي نقل ثلثي الكتاب من العربيّة إلى الإنجليزيّة (منشورات جامعة Columbia عام ١٩١٦)، والثاني الدكتور Francis Clark Murgotten (١٨٨٠ - ١٩٦٠)، أستاذ اللغات في جامعة Nevada. نَشَرَت Columbia الجزء الثاني والأخير من الترجمة عام ١٩٢٤. 

لا ترقى ترجمة الجزء الثاني، على مهنيّتِها والجهد الكبير المبذول فيها، إلى ترجمة الجزء الأوّل ولسببٍ وجيه: ندر من الكتّاب الشرقييّن أو المستشرقين من تملّك اللغتين العربيّة والإنجليزيّة كالدكتور حتّي الذي أتقن الرواية والكتابة، وتجنّب اللغة الأكاديميّة الجافّة قدر الإمكان، بدلالةٍ كُتُبِهِ العديدة السهلة المتناول للهواة والأخصّائييّن على حدٍّ سواء. مع ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ القسم الذي ترجَمَهُ الدكتور Murgotten، على أخطائه التي يمكن تحرّيها دون عناء بالمقارنة مع الأصل، أسهل متناولاً  - ويا للأسف - من النصّ العربي. السبب هو افتقار هذا الأخير إلى الحدّ الأدنى من الهوامش الضروريّة لفهمِ نصٍّ كُتِبَ بلغة تجاوز عُمرُها ألفاً ومائةً من السنوات. المخطوطات التاريخيّة الغير محقّقة عصيّةٌ على الإنسان المعاصر، لا تقلُّ حاجتُها إلى "إخراجٍ" حديث عن حاجة القرآن أو الكتاب المقدّس إلى التفسير والتعليق والشرح اللغوي والتاريخي لوضع النصوص في سياقِها وإطارِها التاريخي. 

____________

اشترك البلاذري مع أقرانِهِ من مؤرّخي المسلمين الدينييّن والدنيوييّن في إعطاء مكان الصدارة للإسناد "عن فلان بن فلان عن فلان أبي فلان أنّ فلاناً قال"، وذَكَرَ ككثيرٍ منهم عدّةَ أوجهٍ للرواية الواحدة عندما اختلفت سلاسل الإسناد. توقّفت علميّة وموضوعيّة المؤرِّخ عند هذا الحدّ، دون أدنى محاولة للتحليل والنقد بَلْهَ التبرير والتسويغ. 

المؤلّف إيراني من بغداد. دورُ العربِ عموماً في التدوين والتأريخ وحتّى في العلوم الدينيّة واللغويّة محدود، اللهمّ إذا استثنينا قرض الشعر والخطب البليغة وما شابه. البلاذري كان عبّاسي الهوى، بدلالة استعماله مصطلح "الدولة المباركة" عندما تكلّمَ عن السلالة العبّاسية. ليس هذا التبجيل بالضرورة عن قناعة وقد تكون أسبابُهُ نفعيّةً بكلِّ بساطة. 

مصادر التاريخ العربي كما نعرفه هي التالية:
 
أوّلاً: أقاصيص وأساطير العهد السابق للإسلام أو ما يُسَمّى الجاهليّة.
ثانياً: سير النبي محمّد والصحابة.
ثالثاً: كتب التاريخ ومنها التراجم والمغازي والأنساب والطبقات

أقدم كُتُب السيرة لابن إسحاق  (وفيّات ٧٦٧ للميلاد) بعنوان "سيرة رسول الله" أو "السيرة النبويّة"، بيد أنّنا لا نملِكُهُ مباشرةً، وإنّما من خلال ابن هشام (وفيّات ٨٣٤)؛ أشهر مؤلّفات المغازي للواقدي (وفيّات٨٢٢ م)؛ فيما يتعلّق بالطبقات لدينا ما تَرَكَهُ ابن سعد (وفيّات حوالي عام ٨٤٤)، كاتب الواقدي. 

"فتوح البلدان" للبلاذري إذاً أحد أقدم المصادر الموجودة، ويستشهد بابن إسحق مباشرة (أي دون ذكر ابن هشام ). فيما يلي أسماء بعض أبرز مؤرّخي الفتوحات العربيّة:

- الطبري (وفيّات ٩٢٣ للميلاد): أوّل مؤرّخ حوليّات وأهمّ من كتب التاريخ بعد البلاذري، ولكنّه لا يستشهد بهذا الأخير ولا يذكره. 
- ابن الأثير (وفيّات ١٢٣٣). 
- أبو الفداء (وفيّات ١٣٣١). 

لئن لم يستشهد الطبري بالبلاذري فكثير من المؤلّفين اللاحقين، المؤرّخين منهم والجغرافييّن، استشهدوا به كالمسعودي (مروج الذهب)، وياقوت (معجم البلدان)، والمقدسي (أحسن التقاسيم)، وابن الفقيه الهمذاني (كتاب البلدان). البلاذري باختصار مصدرٌ أساسي لا غنى عنه للمهتمّين بالغزوات والفتوحات العربيّة الإسلاميّة، مع التنويه أنّه كغيرِهِ ركّزَ على التاريخ السياسي دون سواه. 

للحديث بقيّة. 


Friday, December 1, 2017

Qaṣr al-Ḥayr al-Ġarbī: Internal Façade




Located northeast of Damascus between al-Qaryatayn and Palmyra, this 8th-century C.E. ʾUmayyād desert palace was constructed during the reign of Caliph Hišām ibn ʿAbd al-Malik. It is square-shaped, 70 x 70 meters, and made of two stories with semi-circular towers at the angles and the sides.

The excavation works started in 1936 by the General Directorate of Antiquities and Museums were completed in 1950 and crowned with restoring and reassembling a wing—the most luxurious—that had constituted the central part of the eastern side of the edifice. It includes the façade, the entrance, two apartments, a portico, and a part of the internal courtyard. This complex has found a permanent residence at the National Museum of Damascus since.

Though less elaborate than the external façade, the internal one (attached photo) still represents a milestone in the history of early Arab-Islamic art. Seen is a 16.70 x 2.75 meter wall dominated by six windows of sculpted stucco with figures in relief in-between.

Monday, November 27, 2017

طوشة الباطنيّة



من العبث إنكار مجزرة ١٨٦٠ أو ما دُعِيَ "طوشة النصارى" في دمشق، كونها حصلت في عهد التصوير الضوئي والصحافة المطبوعة وتدخّل أوروپّا في شؤون الإمبراطوريّة العثمانيّة في زمنٍ اعتمدَ فيهِ بقاؤها بالدرجة الأولى على تنازع القوى الغربيّة بعضها مع البعض الآخر. كلّ ما يمكن عمله لمن يرفض تسمية الأمور بمسمّياتها، أن يعمد للتفسير والتأويل ولوم الغرب والاستعمار وحتّى اليهود إذا لزم الأمر، في محاولةٍ بائسة لتبرير ما لا يمكن تبريره منطقيّاً أو أخلاقيّاً. 

بيت القصيد هنا أنّ هذه المذبحة لم تكن أوّل فتنة طائفيّة تشهدها المدينة، بل سبَقَها في أواخر العقد الثالث من القرن الثاني عشر للميلاد مذبحةٌ تضاهيها إن لم تتفوّق عليها وحشيّة واتّساعاً كما سنرى.

من البدهي أنّ الوجود الفاطمي في دمشق لفترة تجاوزت القرن لا بدّ أن يُتَرْجَم إلى عددٍ لا بأس به من الإسماعيلييّن في المدينة. للتذكرة تُنْسَبُ السلالة الفاطمية إلى عبيد الله المهدي من السلميّة، بيد أنّ بدايات الدولة كانت في شمال غرب إفريقيا قبل أن تمتدّ إلى مصر في عهد المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلّي بناة القاهرة. جرى نزاع على الخلافة بعد موت المستنصر بالله بين المستعلي وأخيه الأكبر نزار. خسر هذا الأخير وهرب إلى الإسكندريّة ثمّ قُتِل عام ١٠٩٥ وانشقّ الإسماعيليّون بعد هذه الأحداث إلى حزبين: الأوّل فاطميّو مصر (ومنها إلى الهند واليمن)، والثاني النزاريّون (إلى إيران وسوريّا) ومنهم من عُرِفوا بعدها بالحشّاشين

لم يجد المؤرّخ الدمشقي ابن القلانسي، على غزيرِ علمِهِ وحصافَةِ عقلِهِ، قاسماً مشتركاً بين فاطمييّ مصر (الذين كال لهم الثناء بحسابٍ ودون حساب)، وإسماعيلييّ سوريّا الذين أطلق عليهم لقب الباطنيّة واتّسمت كتاباتُهُ عنهم بالسلبيّة والعداء. 

____________

فلنستعرض بعد هذه المقدّمة الطويلة أحداث عام ١١٢٩ في عهد تاج الملوك بوري. بدأ ابن القلانسي باستعراض خلفيّة الفتنة، وكيف نجح داعية الباطنيّة بهرام، في غواية العديد من أبناء الأقاليم الجهلة وحثالة الفلّاحين واللصوص من عديمي الضمائر الذين لا يخافون الله ولا يردّهم وازعُ عن الشرّ والأذى (صفحة ٢٢١ من "الذيل")، وأضافَ أنّ عقيدَتَهم السريّة ظهرت بكلّ نقائصِها في وضح النهار عندما مارسوا العنف وقطع الطرقات والظلم، وساعدهم في مخطّطاتِهِم المشؤومة الوزير أبو طاهر المزدقاني. عيل بالنتيجة صبر تاج الملوك، وعزم على التخلّص من الباطنيّة "أعداء الله" مرّةً وإلى الأبد؛ بالنتيجة قُتِل بهرام وانتقلت الزعامة بعده للمدعو إسماعيل العجمي الذي تعاون معه المزدقاني إلى أن قُطِعَت رأس هذا الأخير وأُحْرِقَت جثّتُهُ جزاءً وفاقاً على شروره وآثامه "وما الله بظلّامٍ للعبيد". سوّغ القرآن  - في نَظَرِ ابن القلانسي - ما جرى كعقابٍ ربّاني حقّ على المفسدين في الأرض.

أذيع خبر ذبح المزدقاني في دمشق وكانت هذه بمثابة إشارة للأحداث والرعاع للانتشار في المدينة كالنار في الهشيم، مسلّحين بالسيوف والخناجر، وقَتْل كلّ من صادفوه من الباطنيّة ومشايعيهم بما فيهم من طَلَبَ الأمان، ورغم محاولة البعض التشفّع لهم. مع حلول الصباح تمّ تنظيف الأزقّة والساحات من جثثهم التي تنازعتها الكلاب وكلّ هذا طبعاًَ "عبرة لذوي الألباب" (صفحة ٢٢٣):

"فثارت الأحداث بدمشق والغوغاء والأوباش بالسيوف والخناجر المجرّدة فقتلوا من ظفروا به من الباطنيّة وأسبابِهم وکلّ متعلّق بهم ومنتمٍ إليهم وتتتبّعوهم في أماكِنِهِم واستخرجوهم من مكانِهِم وأفنوهم جميعاً تقطيعاً بالسيوف وذبحاً بالخناجر وجعلوهم مصرعين على المزابل کالجیف الملقاة والميتة المجتواة وقُبِضَ منهم نفرٌ كثيرٌ التجأوا إلى جهاتٍ يحتمون بها وأملوا السلامة بالشفاعة منها قهراً وأُريقت دماؤهم هدراً وأصبحت النواحي والشوارع منهم خالية والكلاب على اشلائهم وجيفِهم متهاوشة عاوية إنّ في ذلك لآية لأولي الألباب." 

لا يورد ابن القلانسي أرقاماً (ولا ترجمة Le Tourneau). تفاوتت التقديرات حسب المصدر من ستّة آلاف ضحيّة (ابن الأثير) إلى عشرة آلاف (سبط ابن الجوزي)، ووصل بعضُها إلى العشرين ألفاً. لا شكّ أنّ الرقم الأخير على الأقلّ فيه الكثير من المبالغة ومع ذلك لا خلاف على حصول المجزرة ولا على هويّة ضحاياها. يزيد من مصداقيّة الرواة أنَّهُم دون استثناء من أعداء الإسماعيلييّن، وأنّهم افتقدوا إلى الحدّ الأدنى من الشعور بالذنب أو الشين، لا بل افتخروا بالقضاء على الباطنيّة كما افتخر العبّاسيون بإبادة الأموييّن. هناك كثير من الأمثلة المشابهة على هذه الظاهرة لمن يريد التوسّع. 

ادّعى البعض (ومنهم ابن الأثير)، في محاولةٍ لتسويغ المذبحة أنّ المزدقاني اتّفق مع الباطنيّة على تسليم دمشق للصليبييّن، بيدَ أنّ ابن القلانسي صامتٌ عن هذه النقطة قبل المذبحة، وإن أضاف كمسك الختام أنّ إسماعيل العجمي "أنفذ إلى الإفرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم" (صفحة ٢٢٤)، ومات لاحقاً في بانياس (الجولان) وتخلّصت المنطقة من الباطنيّة و"رجسهم". في كلّ الأحوال حتّى إذا سلّمنا أنّ بعض الإسماعلييّن تعاون مع الصليبييّن فلا يمكن أن يبرّر هذا ذبح جميع الإسماعيلييّن ولا يعقل أنّ الآلاف منهم تعاونوا مع الصليبييّن.

من نافل القول أنّ التعصّب الديني في العصور الوسطى لم يكن وقفاً على دمشق ولا سوريّا ولا أي بلد إسلامي أو غير إسلامي. تاريخ أوروپّا يطفح بالمجازر والفتن الدينيّة، ولربّما كان سجلّ العالم الإسلامي في الماضي أفضل من نظيرِهِ المسيحي. الفرق أنّ العرب اليوم، مقارنة مع الغرب العلماني، يتّبعون إحدى سياستين في الأمور المتعلّقة بما لا يشرّف في ماضيهم: الأولى إلقاء اللوم على الغير (مجزرة ١٨٦٠)، والثانية تجاهل الموضوع بالكليّة كما في مأساة ١١٢٩. 

دمشق من أتسز إلى نور الدين


نعود إلى ابن القلانسي وذيل تاريخ دمشق. اعتمد المؤلِّفُ كما سبقت الإشارة نَهْجَ التسلسل الزمني للأحداث حسب السنة الهجريّة. سألجأ بهدف الإيجاز من جهة، وجعل المعلومات أسهل وأسلس مُتَنَاوَلاً من جهةٍ ثاني، إلى تبويبٍ يتمركز حول من تولّى دمشق في هذه الفترة التي قاربت ثمانين عاماً. 

ألحقَ السلاجقة بقيادة ألپ أرسلان عام ١٠٧١ للميلاد بالبيزنطييّن هزيمةً نكراء في موقعة منزيكرت أو ملاذكرد، التي غيّرت خارطة الشرق الأدنى وبدأت عمليّة تتريك وأسلمة آسيا الصغرى التي أنجزت في أعقاب الحرب العظمى (العالميّة الأولى) عندما قايضت تركيّا واليونان أقليّاتِهِما المسيحيّة والمسلمة. 

فلنستعرض في الأسطر التالية أحداثَ دمشق ومحيطِها، عَبْرَ من حَكَمَها، نفلاً عن ابن القلانسي مع الإيضاح والروابط الفائقة عند اللزوم.

* انتهى العهد الفاطمي في دمشق عام ١٠٧٦ للميلاد على يد أتسز بن أوق الخوارزمي (من عمّال ملك شاه بن ألپ أرسلان السلجوقي). لم يَعْنِ هذا بالطبع نهاية الوجود الفاطمي الذي دام أكثر من قرن في سوريّا، خاصّة على الساحل وفي الجنوب، ولكنّه عَنَى بروز العناصر التركيّة ومعها المذهب السنّي، وتمدّدها بالنتيجة إلى مصر في عهودٍ لاحقة.

* تولّى تاج الدولة تتش بن ألپ أرسلان دمشق عام ١٠٧٨، واستهلّ عَهْدَه بأن أمر بأستز فخُنِق، ثمّ (عام ١٠٩٥) بقسيم الدولة آق سنقر (أبو عماد الدين زنكي) الذي قُطِعَت رأسُهُ. قُتِلَ تتش بالنتيجة في صراعٍ على السلطة بينه وبين بركياروق بن ملكشاه (أي ابن أخ تتش) في نفس العام (١٠٩٥)، وأُرْسِلَت رأسُهُ إلى بغداد. قطعُ الرؤوس، وجمعها كغنائم حرب، ورفعها على أسنّة الحراب، وعرضها ليتملّى بمنظرها دهماء ذلك الوقت، كان القاعدة وليس الاستثناء.

* خَلَفَ تتش في دمشق عام ١٠٩٥ ابنُهُ شمس الملوك دقاق، باني البيمارستان الدقاقي المندثر. شهدَ عهدُ دقاق الحملة الصليبيّة الأولى واستيلاء الإفرنج على القدس صيف ١٠٩٩. تزوّج الأتابك ظهير الدين طغتكين صفوة الملك (أمّ دقاق)، ومات دقاق عام ١١٠٤ (ادّعى ابن عساكر - صفحة ٢٣٣ - أنَّهُ قُتِلَ بأمرٍ من أمّه التي أوعزت إلى جواريها بِدَسّ السمّ في طعامِهِ، بيد أنّ ابن القلانسي صامتٌ عن هذه المؤامرة المزعومة). دُفِنَ دقاق خارج سور المدينة، ولاحقاً أمُّهُ (ماتت ١١١٩) في ضريح صفوة الملك (الخانقاه الطواوسيّة) الذي صوّره (نُشِرَت اللقطة أعلاهُ في الكرّاس الأوّل من "أوابد دمشق الأيّوبيّة" عام ١٩٣٨) ووَصَفَهُ Sauvaget قبل هَدْمِهِ بقليل. هذا البناء هو الوحيد الذي تبقّى من دمشق السلجوقيّة حتّى القرن العشرين (باستثناء القلعة التي أعاد العادل بنائها ووسّعها وعزّزها في مطلع القرن الثالث عشر)، ولم يتجشّم أحدٌ عناءَ تصويرِهِ ناهيك عن دراستِهِ باستثناء المستشرق الفرنسي الشهير.  

* أصبح ظهير الدين طغتكين، مؤسّس السلالة البوريّة، الحاكم الفعلي لدمشق بعد موت (أو اغتيال إذا قبلنا رواية ابن عساكر) دقاق عام ١١٠٤، وكان عهده ميموناً على المدينة في نظر ابن القلانسي وإن تزامن مع توسّع الوجود الصليبي على الساحل السوري إلى طرابلس وجبلة وبانياس (١١٠٩)، حصن الأكراد (أي قلعة الحصن) وبيروت وصيدا (١١١٠)، وأخيراً صور (١١٢٤). 

* مات طغتكين عام ١١٢٨ وخلفه ابنه تاج الملوك بوري الذي أُبِيدَ إسماعيليّو دمشق في عهده (١١٢٩). سأخصّص لهذه المأساة مقالاً خاصّاً. 

* مات بوري عام ١١٣٢ وخلفه على أمر دمشق ولدهُ شمس الملوك إسماعيل. أمرت صفوة الملك زمرّد خاتون (أخت دقاق وزوج بوري وهي غير صفوة الملك أمّ دقاق) عبيدَهَا بقتل ابنها شمس الملوك في مطلع عام ١١٣٥، وإذا قبلنا بعض الروايات (نقلها المعلوف) فالدافع للجريمة كان التستّر على فضيحةٍ تتلخّص بوجود عشيق لزمرّد خاتون، هو الحاجب يوسف ابن فيروز الذي دبّرت فرارَهُ من ابنها إلى تدمر قبل أن تُجْهِز على هذا الأخير.   

* نأتي الآن إلى عهد شهاب الدين محمود (ابن آخر لزمرّد خاتون). تميّزت هذه الفترة بصعود نجم الأتابك عماد الدين زنكي سيّد الموصل وقاهر الصليبييّن (طردهم من أورفة - الرها أو Edessa عام ١١٤٤). توسّع زنكي إلى حلب وغيرها وإن بقيت جائزة دمشق مبتغاهُ، وفي هذا السبيل تزوّج زمرّد خاتون عام ١١٣٨ أملاً أن يفتح له الدمشقيّون أبوابَ المدينة طواعيةً، لم يكتف سكّان المدينة بالرفض بل طلبوا معونةَ الصليبييّن ضدَّهُ. 

* اغتيل شهاب الدين محمود عام ١١٣٩، وآلت الولاية إلى أخيه جمال الدين محمّد، الذي مات ١١٤٠.

* مجير الدين أبق (ابن جمال الدين محمّد) آخر حكّام دمشق البورييّن، بيد أنّ الحاكم الفعلي للمدينة من ١١٤٠ إلى ١١٤٩ كان معين الدين أنر الذي حالفه الحظ عندما اغتيل عماد الدين زنكي عام ١١٤٦، وإن استأنف ابن هذا الأخير نور الدين محمود (أو نور الدين زنكي أو نور الدين الشهيد) سياسةَ أبيه ومحاولاتِه لضمّ دمشق، ولم يتردّد في هذا الصدد في الزواج بابنة أنر عصمة الدين خاتون (١١٤٧)، كما تزوّج زنكي زمرّد خاتون قَبْلَهُ، وأيضاً دون جدوى. حاول الصليبيّون الاستيلاء على دمشق صيف ١١٤٨ في الحملة الصليبيّة الثانية بقيادة Louis VII ملك فرنسا و Conrad III أوّل ملوك أسرة Hohenstaufen في ألمانيا. بائت هذه المحاولة الخرقاء بالفشل، وأقول الخرقاء لأنّ علاقة أنر مع الصليبييّن - على الرغمِ من مدِّها وجَزْرِها - كانت وديّةً عموماً، ولم يتردّد الأتابك في التحالف مع الإفرنج ضدّ إخوته المسلمين عندما ارتأى أنّ مصلحته تقتضي ذلك. 

* مات أنر صيف ١١٤٩ وأصبح مجير الدين أبق حاكماً إسماً وفعلاً. حاصر نور الدين دمشق واستغاث أبق بالصليبييّن الذين هرعوا لإسعافه عام ١١٥١ (نخوةً منهم ما في ذلك من شكّ)، وبعد أخذٍ وردٍّ ومساومة نجح نور الدين في دخول المدينة ربيع ١١٥٤ وسط مشاهد البهجة والحبور (أو على الأقلّ تنفّس الصعداء) بين أهاليها. 

Tell ʾum Ḥōrān



Two 24-25 cm bronze helmets from the beginning of the second century C.E. were illicitly dug at the site of Tell ʾum Ḥōrān (Darʿā Governorate, north of Nawā) back in 1955. They were promptly seized by the General Directory of Antiquities and Museums to be transferred to the National Museum of Damascus, where they've resided ever since. Further excavations—this time legally and professionally—have subsequently taken place and yielded a substantial number of valuable artifacts. 

Seen at the center of the first helmet is a Roman warrior surrounded on both sides with an eagle, a symbol of the solar god. Posteriorly on the lateral view are two identical groups representing horses pulling a chariot on their way to heaven. The mask itself is that of a bearded face. 

The second helmet has a gorgon occupying its summit. Below is an eagle dominating a sacrificial scene with its stretched wings. The occipital cover features a battle between the Romans and the Parthians. Finally, the artist—a certain Mactorius Barbarus—was kind enough to leave his name inscribed on the right temple. 

Sunday, November 26, 2017

تاريخ دمشق ١٠٧٥ - ١١٥٤


يغطّي كتاب ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي (١٠٧٣-١١٦٠) قرابةَ مائتيّ عام تبدأ بسنة ٣٦٠ للهجرة (٩٧٠ - ٩٧١ للميلاد) وتنتهي بسنةِ وفاتهِ، اختارَ المستشرق الفرنسي الدكتور Roger Le Tourneau (تلميذ Sauvaget) منها الفترة التي تبدأ مع نهاية الهيمنة الفاطميّة وبداية تسلّط الأتراك السلاجقة، وتنتهي بدوال الدولة البوريّة عندما تقلّد الأتابك نور الدين زنكي زمام الأمور في دمشق. لهذه الفترة أهميّة خاصّة كونها شهدت بداية العهد الصليبي في سورّيا (الحملتين الأولى والثانية) واصطدام الغرب والشرق. 

وُلِدَ Le Tourneau عام ١٩٠٧ ومات فجأةً إثر تداخلٍ جراحي "روتيني" عام ١٩٧١. اختصّ لوتورنو في الدراسات العربيّة والإسلاميّة مع اهتمام خاصّ بالمغرب وشمال إفريقيا. تزوّج من Jeanne Largarde (١٩٠٩ - ٢٠١١) عام ١٩٣٠، التي عاشت أربعين عاماً بَعْدَهٌ وماتت عن عمر ١٠١ من الأعوام. الصورة الملحقة لجان وروجيه عام ١٩٣٠. 

صَدَرَ كتاب "دمشق من  ١٠٧٥ إلى ١١٥٤" عام ١٩٥٢ عن المعهد الفرنسي بدمشق في حوالي ٤٠٠ صفحة، وللمهتمّين بالفترة السابقة (الفاطميّة) هناك كتاب Bianquis عن نفس المعهد على جزأين (الأوّل ١٩٨٦ والثاني ١٩٨٩). المعلومات عن العهود اللاحقة (نور الدين والأيّوبييّن والمماليك إلى آخِرِهِ) أكثر غزارة تردّدت في العديد من المصادر المحليّة والأجنبيّة. 

ابن القلانسي عالم دمشقيّ أرستقراطي ومتديّن. قد يؤخَذ عليهِ رأيُهُ في "الباطنيّة" وأهل الأرياف وعلّه مع ذلك أكثر موضوعيّة من غيره بمقاييس عَصْرِهِ (اعتمدت دمشق في إمدادها الغذائي آنذاك على حبوب حوران والبقاع رغم غوطتها الغنّاء ومواردها المائيّة). اقتَصَرَ سردُ المؤلّف على الأحداث السياسيّة ودسائس البلاط ووفيّات الأعيان وذكر الفيضانات والزلازل والأوبئة وغيرها من الكوارث. التركيز بالطبع على دمشق وإن امتدَّ مسرحُ الأحداث إلى سوريّا بأسْرِها وآسيا الصغرى والعراق وحتّى إيران وخراسان بدرجاتٍ تتناسب عكساً مع بعد هذه الأقاليم عن المدينة. لا يوجد في "الذيل" عن وصف المدينة ما يشفي الغليل، باستثناء ذكر قلعتها (أُعِيدَ بناءُ القلعة لتأخذ شكلها الحالي في عهد الأيّوبي الملك العادل) وهناك إشارات عابرة لبعض مواضعها ودورِ عبادتِها وأبوابِها.

اتّبع ابن القلانسي نَهْجَ التسلسل الزمني حسب السنة الهجريّة، واختار Le Tourneau العام ٤٦٨ (١٠٧٥ أي الانتقال من العهد الفاطمي إلى السلجوقي) منطلقاً لكتابِهِ الذي خَتَمَهُ ٥٤٩ (١١٥٤ م)، سنة دخول نور الدين إلى المدينة، قبل موت المؤلّف الدمشقي بست سنوات. 

للحديث بقيّة.  
  

A Mosaic from Philippopolis


Šahbā's golden age is closely associated with the Roman Empire and Emperor Philip the Arab, hence its Classical name: Philippopolis. Gracing the National Museum of Damascus is a giant (337 cm x 276 cm) Šahbā mosaic from the 3rd century C.E. This piece features brightly colored themes and allegories from Greco-Roman mythology. Mortals and divinities are designated by their names. Let's analyze this heavenly beauty in detail: 

Occupying the bottom center is a woman personifying Gaia, the Mother Earth Goddess, surrounded by four kids. Identified above her shoulders are Georgia (meaning agriculture) and Triptolemus (inventor of agriculture), familiar figures in Greek fables.

Seen in the bottom right is a bearded man sitting artist-like before a painting. He is none other than Prometheus, about to create the first man out of clay. Right above him is Hermes, the messenger god, who, among other tasks, commutes between the world of the divine and that of the mortals. He is surrounded by three women: the topless one is, of course, Aphrodite, goddess of beauty; another one would be Psyche, symbolizing the soul.

In the bottom left is Aion, god of time, carrying a ring in his right hand. Above and behind him are four winged ladies personifying the Four Seasons.

At the topmost on both sides are four heads emerging from the clouds and representing the Four Winds as follows:

Boreas: the north wind brings forth the cold winter air.
Zephyrus: the west wind and harbinger of spring and early summer breezes.
Notos: south wind announcing storms of late summer and fall.
Eurus: the southeast wind is not associated with any of the Greek seasons.


Photography: Nicholas Randall



J. Charbonneaux. Aiōn et Philippe l'Arabe. Mélanges de l'école française de Rome. Année 1960 (72)  pp. 253-272. 

Highlights of the National Museum of Damascus. Media Minds LLC, [Lebanon], 2006.