Saturday, April 29, 2017

قصّة بيت العقّاد



لرّبما كان بيت العقّاد، أو بعض مكوّناتِهِ العائدة إلى القرن الخامس عشر والعهد المملوكي، أقدم بيوت دمشق على الإطلاق. هذه الدار، كما هو الحال في كثيرٍ من "البيوت" الدمشقية الكبيرة التي شُيِّدَت على عدّة مراحل، أقرب إلى القصر منها إلى منزلٍ للسكن.

نميّز في تاريخ بيت العقّاد المراحل الرئيسة الآتية:

- الأولى مملوكيّة، بين الأعوام ١٤٥٠ و ١٤٧٥.
- الثانية من ١٧٤٧ إلى ١٧٥٤.
- الثالثة أيضاً في القرن الثامن عشر، بين ١٧٥٩-١٧٦٣، أي بعد زلزال ١٧٥٩ مباشرةً.
- الرابعة حوالي عام ١٨٤٠، بعد دخول طراز الروكوكو العثماني إلى دمشق.
- الخامسة نحو ١٩٠٠، عندما جدّدَهُ عبد القادر العقّاد الذي نُسِبَ البيتُ إليه.

توفّي عبد القادر العقّاد عام ١٩٠٨، وتركت عائلته البيت عام ١٩٤٧، ليتحوّل إلى مدرسة زينب فوّاز للبنات، ويُضافُ إليها مدرسة أحمد مريود للبنين حوالي عام ١٩٧٣. هُجِرَ المبنى عام ١٩٧٦، وأصبح موطناً للنسيان ومرتعاً للجرذان.
____________________________________________________________

بَحَثَ المعهد الدنماركي عن موطنٍ له في دمشق القديمة خلال تسعينات القرن العشرين، وشاءت الطوالع الحسنة أن يقَعَ اختيارُهُ على هذا البيت العريق. أُبْرِمَ بالنتيجة اتّفاقٌ بين المعهد والجهات السوريّة المسؤولة، تكفّل الدانماركيّون بموجِبِهِ بنفقات ترميم البناء بالاشتراكِ مع خبراتٍ ومهارات محليّة ودنماركيّة، وللمعهد بالمقابل ملء الحقّ باستعمال البيت مقرّاً لَهُ ولخبرائِهِ من الأكاديمييّن والفنّانين لفترةٍ زمنيّةٍ معيّنة. وضع الترميم المهني نصبَ عينيهِ إبرازَ محاسن البيت بأمانةٍ قدر الإمكان، كما كانت تحت تقمّصاتِهِ المتعدّدة عبر العصور. نجحت العمليّة نجاحاً باهراً بحلول عام ٢٠٠٠، ونُشِرَ تقريرٌ مسهبٌ عن تاريخِ البيت وتفاصيلِ مكوّناتِهِ وأعمالِ الترميم فيه، في مجلّدٍ ضخم بلغ عددُ صفحاته من القطع الكبير ٤٤٠. صدر هذا السِفْر النفيس عام ٢٠٠٥ تحت إشراف الأستاذ Peder Mortensen، مزيّناً بمئاتٍ من الصور التاريخيّة والحديثة، مع عددٍ لا بأس به من المخطّطات والخرائط.
_____________________________________________________________

لا تتّسع هذه السطور القليلة لجولةٍ في صحن البيت، ولا لزيارة غرفِهِ الكثيرة التي تنتمي إلى أزمنةٍ وعهود مختلفة، ولا لعرض تيهورٍ من الصور الفنيّة. تكفي هنا الإشارة أنّ بيت العقّاد متحفٌ كامل بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، وإن لم يكن بالطبع المتحف الوحيد في مدينةٍ تحتضنُ قصر أسعد باشا العظم، وبيت خالد العظم، وبيت نظام، والمجلّد، وشاميّة، وكثيرٌ غيرها. نعم في دمشق كلّ هذا وأكثر، ومع ذلك تبقى لبيت العقّاد أهميّةٌ تتجاوز الدار بحدّ ذاتها كما هو آت.

الموقع داخل سور المدينة القديمة على سوق الصوف، جنوب الشارع المستقيم أو ما عرف سابقاً بسوق جقمق، ويعرف حاليّاً بسوق مدحت باشا. يحدّه شمال الشارع المستقيم خان الزيت وخان جقمق، ويجاوره غرباً بيت حورانيّة الذي يضاهيه عراقةً أو يكاد، وإن لم تقيّض الأقدار له حتّى الآن من يوفّر له حاجَتَهُ من الوقت والخبرة والمال والحبّ لنفض غبار الزمن والإهمال عن كنوزِهِ، الظاهرة منها والدفينة.
_______________________________________________________________

المسرح الروماني

ما كان للدانماركييّن، عندما وقَعَ خيارُهم على بيت العقّاد، أن يحلموا أنّهم في واقع الأمر يقفون على أنقاض المسرح الروماني في دمشق، المسرح الذي ذكره مؤرّخ القرن الأولّ للميلاد، اليهودي Flavius Josephus، ونَسَبَ الأمرَ ببنائِهِ لملك يهوذا Herod الأعظم (٣٧-٤ قبل الميلاد).

لم يكن وجود هذا المسرح مجهولاً من قِبَل المستشرقين، بما فيهم الألمانييَّن Wulzinger وWatzinger والفرنسي Sauvaget، بيد أنّ معرفَتَهم اقتصرت على روايات المؤرّخين في غياب الأدلّة الماديّة، إلى أن أسفرت تنقيبات المعهد الدنماركي في العقد الأخير من القرن العشرين، عن أطلالِهِ تحت بيتيّ العقّاد شرقاً وحورانيّة غرباً.

تمركزت دمشق الرومانيّة بطبيعة الحال حول هيكل المشتري (الجامع الأموي حاليّاً)، وانطلقت المواكب الدينيّة والرسميّة من مدخلِهِ الرئيس (باب جيرون)، شرقاً عبر الطريق المقدّسة Via Sacra (شارع القيمريّة)، ثمّ انعطَفَت جنوباً نحو الشارع المستقيم Via Recta أو decumanus، كما سُمّيَ محورُ المدينة من الشرق إلى الغرب في عهد الرومان. اتّجَهَت هذه المواكب بعد ذلك غرباً على الشارع المستقيم، حتّى وصولِها إلى المسرح الواقع جنوب هذا الشارع. قابلت المسرحَ ، على الطرف الشمالي من الشارع، حديقةٌ مربّعةٌ أو مستطيلة الشكل، محاطةٌ بأروقةٍ معمّدة، أو ما يدعى باللاتينيّة porticus post scaenam.
________________________________________________________________

قد يرى البعضُ، في تخصيص مئات الصفحات لبيتٍ واحد، إطالةً ليس لها ما يسوّغها، في مدينةٍ تزهى بكثيرٍ من القصور؛ بيد أنّ دار العقّاد ليست بالبيت العادي ولا حتّى القصر العادي. كثيرةٌ هي معالم دمشق التي لا تزال راقدةً، كالأميرةِ النائمة، تنتظرُ قبلةَ أميرٍ كي تصحى من سُبَاتِها.

Tuesday, April 25, 2017

دمشق وتدمر



كتابٌ جميلٌ موزّعٌ على مجلّدين، نُشِرَ عام ١٨٣٨. المؤّلف Charles G. Addison محامي ورحّالة إنجليزي من وفيّات ١٨٦٦، وعنوان الكتاب "دمشق وتدمر" أو "رحلة إلى المشرق". هَدَفَ Addison إلى عرض حال سوريّا في ثلاثينات القرن التاسع عشر، أي تحت حكم إبراهيم باشا المصري، وحاوَلَ رسمَ صورةٍ عن توجّهاتِها المستقبليّة كما بدت له وقتها. يمكن قراءة الكتاب بالمجّان على الرابطين الملحقين أدناه ، والاستمتاع بلوحاتِهِ الملوّنة على رابطٍ مستقلّ.

المؤّلِف بريطاني قلباً وقالباً ، فخورٌ بمجدِ الإمبراطوريّة وسؤددها، وتفوّقِها على جميع الأمم على كافّة الأصعدة، بعد أن كرّست هزيمة ناپوليون من جهة، وسطوة الأسطول البريطاني من جهةٍ ثانية، القرن التاسع عشر قرناً بريطانياً. لبس من المستغرَب، والحال كذلك، أن ينظر الغربيّون إلى المشرق، مهما افتتنوا بسِحْرِهِ، باستعلاءٍ امتزج فيه الفضول مع الشفقة مع الازدراء، وفي أحسن الأحوال الدعوة إلى تحسين أوضاع الشرقييّن المساكين سواءً عن حسن نيّةٍ أو للمتاجرة بقضيّتهم في سبيل تحقيق مآرب معيّنة.

بدأ الكاتب رِحْلَتَهُ في نيسان ١٨٣٥ من جزيرة مالطا، ميمّماً شطر اليونان التي استقلّت حديثاً عن العثمانيين، وكانت لا تزال في حالةٍ يرثى لها. محطتّهُ التالية كانت آسيا الصغرى، قلب الإمبراطوريّة العثمانيّة التي تربّع محمود الثاني على عرشِها. أجهزَ هذا السلطان المُجدِّد على الإنكشاريّة، كما هو معروف، وأدخل الطربوش بدبلاً للعمامة في محاولةٍ يائسة للحاق بركبِ التقدم عن طريق تغيير الكثير، ضمناً الأزياء. لم يتردّد الكاتب في السخرية من هذه الإصلاحات التي رأى أنّها تناولت القشور وأهملت اللباب.

المجلّد الثاني هو بيت القصيد بالنسبة لنا، تناول رحلة Addison إلى الشام انطلاقاً من لبنان، حيث قابل إبراهيم باشا والأمير بشير الشهابي. ما كان للكاتب أن يغفل التعرّض للموارنة والدروز، واعتناق الأمير بشير المسيحيّة، قبل مواصلةِ رحلتِهِ إلى دمشق التي وصلها في الثاني عشر من تشرين أول ١٨٣٥.

دمشق النصف الأول من القرن التاسع عشر مختلفةٌ عن حفيدَتِها اليوم كلّ الاختلاف. كانت المدينةُ وقْتَهَا معزولةً إلى حدٍّ كبير عن العالم الخارجي، وبالتالي شرقيّة ومحافظة إلى أبعد الحدود: دخول الجامع الاموي محظور على المسيحييّن حظراً باتّاً تحت طائلة أشنع العقوبات وبيع القرآن للأجانب من المحرّمات. حاول الكاتب شراءَ نسخةٍ من كتاب المسلمين المقدّس عندما طرده صاحب المكتبة شرّ طردة مع وابلٍ من الشتائم واللعنات استمطرها على رأس "الكلب الكافر". مع ذلك حقّق Addison بعض النجاح في اختراق المجتمع الشامي المتعصّب عندما تمكّن، بعد جهد جهيد ووساطة قرينة القنصل البريطاني، من إقناع إحدى الحسناوات من صبايا دمشق بالوقوف بثيابها الزاهية كموديل للرسم، أتاح له فرصةَ وصفِها ووصف الزيّ الذي ارتَدَته بتفصيلٍ معقول.

حرص المؤلِّف على وصف أسواق دمشق، ومتاجرها المفتقرة إلى الواجهات (الڤترينات)، وحمّاماتِها التي خُصِّصَت في أيامٍ وأوقاتٍ معينة للنساء؛ الويلُ كلّ الويل لأي رَجُل خاطر بحياتِهِ وحاول الدخول إلى الحمام في هذه الأوقات. من دورِ دمشق وصف الكاتب منزل علي آغا خزنة كاتبي (بيت نظام) الذي زاره وتعرف على صاحبه. تعرّض Addison لمعالم دمشق، خاصة المتعلّقة بالتاريخ اليهودي والمسيحي. الكاتب ذو إلمامٍ لا بأس بِهِ أبداً بتاريخ المدينة القديم والإسلامي، نوّه بهزال المصادر اليونانيّة عن فتح الشام وأنّ المعلومات المتداولة جميعها عملياً إسلاميّة المصدر، خاصةً عن طريق الواقدي. ختم Addison سردَهُ التاريخي مع حملة إبراهيم باشا، ومن ثمّ دخول القنصل البريطاني J.W.P. Farren المدينة عام ١٨٣٣.

زار صاحبنا تدمر، التي اكتشفها الإنجليز للمرّة الأولى عام ١٦٩١، وقارنَ بين عظمةِ ماضيها وجلالِ آثارها من جهة، وبؤس البلدة التي عاينها من جهةٍ ثانية. شكّك Addison في رأي البعض باشتقاق تسمية Palmyra من النخيل Palm، على اعتبار أنّ مصدرها يوناني وليس لاتينيّاً؛ أضاف أنّ كلمة "تدمر" السوريّة تقابل Thadamoura حسب المؤرّخ اليهودي الروماني يوسيفوس.

مسك الختام عدّة صفحات يمكن النظر إليها كمحاولةٍ من Addison "لتشخيص أمراض" سوريّا ووصف العلاج المناسب. أدان الكاتب الإدارة العثمانيّة المتخلّفة بطبيعة الحال، ومع ذلك تشائمَ من مستقبل سورّيا في ظل إبراهيم باشا، وعامِلِهِ في دمشق شريف باشا، وإمبراطورية محمّد علي المتمركزة في مصر. ارتأى المؤلِّف أنّ نجاح المصرييّن عسكرياً لا يُتَرْجَم بالضرورة إلى رفاه البلاد اقتصادياً، خصوصاً عندما ترزح تحت الضرائب التي امتصّتها إدارةٌ مكلفة ومجهودٌ حربي باهظ الثمن، أفقد السكّان وتحديداً الفلّاحين أي حافز لاستثمار واستصلاح الأرض في غياب الأمل بتحسين حياتِهِم وتأمين مستقبلِ أطفالِهِم.




Saturday, April 22, 2017

أرباض دمشق



لا يختلف اثنان على أهميّة دمشق داخل السور، على الأصعدة التاريخيّة والعمرانيّة والفنيّة والإنسانيّة. ماذا عن ضواحيها التاريخيّة التي عانت من الإهمال والجهل وقصر نظر (إن لم نقل جشع) سماسرة العقارات، وما يسمى تجاوزاً "تنظيم المدينة"، وما هو في الحقيقة إلّا "تعليب مبهرج" لتدمير معالمِها ونسيجِها العمراني؟! 

كثيرٌ من محبّي دمشق، وحتى الأخصائييّن من اعتقد هذه الضواحي آيلةً إلى الفناء، ومنهم السيّد Michel Écochard، الذي أسرّ إلى الدكتور سمير عبد الحقّ أنّه لشديد أسفه، لا يؤمن بإمكانيّة إنقاذ هذه الضواحي، وبالتالي اختار أن يركّز جهودَهُ على حماية المدينة داخل السور. جاءً هذا الكتاب الصادر عام ٢٠١٠ بالفرنسيّة والعربيّة عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، في محاولةٍ لإثبات العكس: أي أنّ هذه الضواحي ليست كياناتٍ جامدة، بل على العكس، كانت ولا زالت تتطوّر وتتأقلم مع الظروف المتغيرّة، وأنّ إنقاذَها كان ولا يزال في حدود الإمكان. عزّز المؤلّفون رأيّهم بدراسةٍ قدّمت مقترحاتٍ وحلولاً واقعيّةً وعمليّة، مدعومةً بعددٍ من المخطّطات والخرائط والصور المهنية العالية الدقّة.

الكتاب حوالي ٤٠٠ صفحة بقياس ٣٢ في ٢٣ من عشيرات المتر، والمؤلّفان Yves Roujon و Luc Vilan. استغرق العمل بما فيه جمع المعطيات من قِبَل ١٥٠ من طلّاب العمارة في "ورشة دمشق" في مدارس Versailles و Belleville حوالي عشر سنوات.

المقصود بضواحي دمشق هنا أرباضُها التاريخيّة، أي الصالحية وسوق ساروجة (بما فيه العقيبة) والعمارة والقنوات والسويقة والميدان والشاغور. أضاف المؤلّفان، بهدف التنظيم والتبويب، "ضاحيةً ثامنة"، هي "أحياء بردى" الواقعة شمال المدينة القديمة داخل السور والمتاخمة للعمارة وساروجة. 

تناولَ المؤلّفان الأحياء، أو بالأحرى الضواحي، الواحد بعد الآخر بشكل منهجي، انطلاقاً من خريطة المسح العقاري التي صُمِّمَت في ثلاثينات القرن العشرين وعهد الانتداب الفرنسي. تمثّلت الخطوة الثانية بتقصّي الطرق والمقاسم والآثار وبعض البيوت، مع التركيز على بيوتٍ عاديّة، نمطيّة للشام القديمة، وليس القصور التي تُسمّى بالبيوت تجاوزاً ، مثل دور نظام والسباعي والمجلّد وهلمّ جرّا. نأتي بعد البيوت إلى الأماكن العامّة، كالساحات والمقابر. هناك العديد من الصور البديعة الملونّة التي ساهمت في وضع النفاط على الحروف.

خَتَمَ الكاتبان كل فصل بعرضٍ لوضعِهِ الراهن (أي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين)، ومن ثمّ تقديم مقترحات لما يتوجّب الحفاظ عليه، وما يمكن التضحية به، وما بالإمكان تطويره. منهجٌ رائع وطرحٌ منطقي يمكن تعميمه على الكثير من المدن السوريّة وحواضر الدول المجاورة.
 
بعض الملاحظات السريعة:
- ليست جميع الضواحي مهددّة إلى نفس الدرجة. سوق ساروجة، على سبيل المثال، عانى أكثر من غيره من "غزوات وفتوحات" تجّار العقارات و"منظّمي" المدينة.
- هناك خصائص مشتركة تجمع هذه الأحياء، وسمات معيّنة تميّز بعضها عن البعض الآخر. من الأحياء ما يغلب عليه الطابع التجاري ومنها ما هو سكني بالدرجة الأولى. الصالحيّة تقع على سفح قاسيون وتتبع أبنيتُها تضاريسَ انحدارِهِ وتكثر فيها المعالم الأيوبيّة، بينما يمتدّ الميدان على أرضٍ مستوية ويزخر بالآثار المملوكيّة، علاوة على بوايكِهِ (جمع بايكة) المشهورة.

ختمَ المؤلّفان بجمع المعطيات من مختلف الضواحي لتركيب مخطّط، وتطوير رؤية مستقبليّة شاملة ومتفائلة، تميّز بين المدينة داخل السور وضواحيها التاريخية موضوع البحث من جهة، ودمشق الحديثة من جهةٍ ثانية.

بدت الأمور هكذا أو كادت عام ٢٠١٠، ولا حاجة للتذكير بالأحداث الأليمة التي اندلعت بعد نشر الكتاب بعامٍ ليس غير، بَلْهَ الدخول فيها.

الكتاب متوافر للقراءة بالمجّان على موقع IFPO.

Friday, April 21, 2017

القاهرة والقدس ودمشق



الكاتب المستشرق الإنجليزي David Samuel Margoliouth (١٨٥٨ - ١٩٤٠)، والكتاب "مدن سلاطين مصر الثلاثة" مجلّدٌ عددُ صفحاتِهِ ٤٧٠ ونيّف، مع العشرات من اللوحات الملوّنة الرائعة للفنّان Tyrwhitt (١٨٥٩ - ١٩٣٢)، وعام النشر ١٩٠٧ للميلاد. أهدى المؤلّفُ عَمَلَهُ لسموّ الأميرة نازلي (١٨٥٣ - ١٩١٣)، حفيدة ابراهيم باشا قاهر الوهّابييّن وابن محمد علي باشا، الذي يعتبره الكثيرون باني مصر الحديثة.

خصّص Margoliouth ثلثيّ كتابِهِ للقاهرة. لا غرابةَ في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ صعود العاصمة المصريّة تزامن مع عهود الانحطاط العباسيّة، وتراجُع مكانة بغداد على رأس العالم الإسلامي. يرجع فضل التصدّي للمغول بالدرجة الأولى لمصر والقاهرة، التي أصبحت العاصمة الغربيّة للإسلام في عهد المماليك إلى أن انتقل مركز الثقل مجدّداً إلى القسطنطينيّة في العهد العثماني.

تحتلّ المدينةُ موقعاً استراتيجيّاً على نهر النيل، قبل تفرّعِهِ إلى الدلتا. ليست القاهرة أوّل عواصم الإسلام في مصر؛ الأسبقيّةُ بالأحرى للفسطاط التي بُنِيت في القرن السابع للميلاد، ثمّ القطائع في القرن التاسع وعهد ابن طولون. بالطبع لا يبعد هذان الموقعان - شأنُهما في ذلك شأن ممفيس الفرعونيّة - عن قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي كثيراً، ويعزى الفضل لهذا الأخير وعامِلِهِ جوهر الصقلّي في وضع حجر أساس المدينة العظيمة.

للتبسيط، وزّع Margoliouth تاريخ القاهرة على خمسة عهود: الفاطمي، ثمّ الأيوبي، فالمملوكي، فالتركي (أي العثماني)، وأخيراً "الخديوي". اعتبر المؤلّف الخديوي اسماعيل (١٨٣٠ - ١٨٩٥) مؤسّس عاصمة مصر الحديثة، التي كانت لا تزال في أواخر القرن التاسع عشر، من الناحيتبن النظريّة والقانونيّة، من ممتلكات الإمبراطوريّة العثمانيّة، وإن كانت عمليّاً محميّةً لخليفَتِها البريطانيّة.

الجزء الثاني من الكتاب - أصغر الثلاثة - مخصّصٌ للقدس. تعرّض الكاتبُ بالطبع إلى داود وسليمان والهيكل، قبل أن ينتقل إلى العهود الإسلاميّة، ومن ثمّ الصليبيّة، وصولاً إلى العثمانيّة؛ وتطرّق في الختام إلى تعريفٍ سريع بالحركة الصهيونيّة والهجرة اليهوديّة فراراً من الاضطهاد الديني، والتي سمّاها "غزو أوروپي سلمي" bloodless invasion from Europe. للتذكير الكتابُ سابقٌ بعشر سنوات لتصريح بلفور خلال الحرب العظمى، والانتداب البريطاني الذي تلاه.

تحتل مدينة دمشق القسم الأخير من الكتاب. لم تُحْدِث المدينة، والحقّ يقال، في الكاتب الانطباع المأمول، على الرغم من تغنّي الرواة عبر العصور في محاسِنِها، التي عزاها Margoliouth بالدرجة الأولى إحساسٍ زائف، مبعَثُهُ التناقض الذي شاهدَهُ الرحّالة الشرقيّون بين خضرتِها ومياهِها من جهة، والبادية المجدبة حولَها من جهةٍ ثانية. من المفهوم أنّ هذا التباين لا يكفي لافتتان الأوروپيين (خصوصاً من الشمال والغرب) المعتادين، منذ نعومةِ أظفارِهِم، على تربّةٍ شديدة الخصب، وخضارٍ شبه دائم، وأنهارٍ لا تنضب، وأمطارٍ مدرارة على مدار السنة.

لم يجد الكاتب من أوابد المدينة ما شدّ انتباهَهُ باستثناء الجامع الأموي، الذي كان لا يزال في "طور النقاهة"، إذا جاز هذا التعبير، من حريق عام ١٨٩٣ المدمّر. لاحظ Margoliouth أنّ القلعةَ - ليس من المبالغة القول أنّها ثاني أهمّ مباني المدينة بعد جامعها الكبير - مهيبةٌ عن بعد، بيد أنّها متداعية من الداخل. تلى ذلك وصفٌ مبتسر لأنهارِ المدينةِ ومعابِدِها ومدافِنِها وخاناتِها وحمّاماتِها. انتقل المؤلّف بعد ذلك إلى ما يمكن اعتباره بيت القصيد في هذا السرد، أو ما أسماه "بمشاهد من تاريخ دمشق"، التي اختار منها أربعة أحداث:

المشهد الأول إبّان الفتح الإسلامي عام ٦٣٤ (أو ٦٣٥) للميلاد، على يد خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح، استناداً إلى الواقدي والطبري، وكيف نهب جنود خالد المدينة وذبحوا أهاليها عندما أخذوها عنوةً من الشرق، بينما أخذها أبو عبيدة سلماً من الغرب.

المشهد الثاني عن دخول هولاكو إلى المدينة عام ١٢٦٠، وكيف منح المسيحييّن فيها حمايتَهُ التي ترتّب عليها - حسب المؤرّخين المسلمين - تجاسرُ النصارى على شرب الخمور علانيةً، بما في ذلك شهر رمضان الفضيل، لا بل وصلت صفاقتُهم إلى صبِّها على ثيابِ المسلمين وأبوابِ مساجدهم، وهلمّجرّا. اضطرّ المغول بعد هزيمتهم في عين جالوت إلى الانسحاب من دمشق، بعد احتلالٍ دامَ سبعةَ أشهر. صبّ مسلمو المدينة آنذاك جام غضبِهِم على مسيحييّها ونهبوا وقتلوا، ودمّروا الكنيسة المريميّة، وطال انتقامُهُم أيضاً يهودَ دمشق.

المشهد الثالث عن استباحة دمشق على يد تيمور الأعرج أو تيمورلنك ١٤٠٠ - ١٤٠١. كان الفيلسوف ابن خلدون أحد شهود عيان هذه المأساة.

المشهد الرابع وخاتمة الكتاب عن مجزرة ١٨٦٠. لم يتردّد المؤلّف في إلقاء المسؤوليّة كاملةً على الوالي أحمد باشا، الذي "لم يشهد تاريخ تركيّا نذلاً أحقر وأخبث وأمكر منه". ادّعى Margoliouth أنّ الوالي سبَّبَ المذبحة عمداً وعن سبق الإصرار، عندما أبرَمَ أمرَهُ بتوقيف ثلاثةٍ من شبّان المسلمين بعد أن أهانوا الصليبَ علانية، وكيف كبّلَهم بالأصفاد وقام رجالُهُ بسوقِهِم مخفورين إلى الحيّ المسيحي؛ وفي نفس الوقت، أوعز لأزلامِهِ بنشر الشائعات بين المسلمين تحذّرهم أنّ الفتيةَ سيصبحون عبيداً للمسيحييّن جزاءً وفاقاً على أفعالِهِم. انتشرت هذه الأقاويل المغرِضة بين الدهماء انتشار النار في الهشيم، وتصاعدت الصيحات الغاضبة تطالبُ "بالدفاع عن دينِ محمّد ضدّ النصارى الكفّار" وجرى ما جرى.

دورُ الأمير عبد القادر الجزائري في هذه المأساة معروفٌ وتتّفق جميع الأطراف أنّه كانَ مشرِّفاً ونبيلاً، بيد أنّ الكلمات التي وضعها Margoliouth في فم البطل عندما جابَهَ الحشودَ التي مسّها السعار غريبةٌ، إن لم نقل أنّها منافيةٌ للعقل "اذهبوا من هنا يا كلاب المسلمين ويا حثالة البشريّة! أهكذا تعزّون نبيّكم وتنفّذون تعاليمَهُ يا أخسّ الكفار؟....اذهبوا وإلّا ما أعدتُ سيفي إلى غمدِهِ قبل أن أشبعَهُ من دمائِكُم....ستندمون عندما يأتي الإفرنج للانتقام من الأذى الذي ألحقتموه بهؤلاء المسيحييّن، وعندما يحوّلون جوامِعَكم إلى كنائس، ويجعلونَكُم عبرةً لمن اعتبر..."

لا داعي للدخول في مصداقيّة الكاتب الذي يتّهمُهُ كثيرون بالتحيّز ضدّ الإسلام، ومع ذلك (أو لربّما بسبب ذلك) بقيت مؤلّفاتُهُ عن الإسلام، ولفترةٍ طويلة (على الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين)، المعيار والمرجع الأساسي في الغرب. كان Margoliouth ضليعاً بعدّة لغات: العربيّة والعبريّة والسريانيّة والفارسيّة والتركيّة والأرمنيّة. لا حاجة للقارئ إلى الموافقة على آراء المؤلف كي يستمتع بالصور والنصّ. الكتابُ متوافرٌ للقراءة والتحميل بالمجّان.


Wednesday, April 19, 2017

عندما كانت دمشق عاصمة الإقليم الشمالي



صدر كتاب "مصور الإقليم السوري" عن المديريّة العامّة للدعاية والأنباء في دمشق، وتولّى السيّد سليم ديراني إخراجَهُ من الناحية الفنّية. عدد الصفحات ٢٢٠ من القطع الكبير (٣٣ في ٢٥ من عشيرات المتر)، ونوعيّة الورق - شأنها شأن غلاف الكتاب - جيّدة جدّاً. من الولضح أنّ الناشر توخّى إظهار سوريّا الوحدة في أبهى حلّة. تكفي أمسيةٌ لقراءة هذا الكتاب الذي لا يتجاوز مقدّمةً عربيّة وثانية إنجليزيّة،  ومن ثمّ مئات الصور، معظمها بالأبيض والأسود، تذيّلها شروحاتٌ مختصرة باللغتين. 

يعرّفُ الفصلُ الأوّل القرّاءَ بالمدن السورية. بلغ إجمالي عدد سكان الإقليم الشمالي أربعة ملايين ونصف المليون. أكبر المدن حلب (٧٠٠٠٠٠ نسمة)، ثمّ دمشق (نصف مليون)، فحمص (١٣٥٠٠٠)، فحماة (مائة ألف)، فدير الزور (٧٤٠٠٠) فاللاذقيّة (٥٢٠٠٠)، فالحسكة (٢١٠٠٠)، فدرعا (١٨٠٠٠)، فالسويداء (١٦٠٠٠). هناك تقديم سريع لكل مدينة مع بعض الصور الجميلة عن معالمِها ومبانيها.

استعرض المؤلّف أو المؤلّفون الاقتصاد السوري، وتطوّره السريع منذ الاستقلال حتّى الوحدة على مختلف الأصعدة: زراعيّاً وصناعيّاً وتجاريّاً. بلغ عدد بنوك سوريّا العربيّة والأجنبيّة، على سبيل المثال، ٢٠ مصرفاً، برأس مال مقدارُهُ ٤٩٥ مليون ليرة. توزّعت هذه المصارف على ٧٥ فرعاً في مختلف المدن السوريّة. خُصِّصَ حيّزٌ لا بأس بهِ لمعرض دمشق الدولي وأماكن السياحة ذات الطبيعة الخلّابة، والمعالم الأثريّة  في سوريا وما أكثرها. ركّز الكتاب أيضاً على النهضة العمرانيّة. 

بالنسبة للتعليم، بلغ عدد طلّاب جامعة دمشق ١٠٢٢٠، وتلاميذ المرحلة الثانويّة ٦٦١٩٦. تولّى ٣٤٦٢ من المعلّمين والمعلّمات التدريس في الثانويّات. هناك أيضاً المدارس الصناعيّة والتجاريّة. على الصعيد الفنّي لم يغفل المؤلّفون ذكر الحرف السوريّة، والصناعات اليدويّة، والمتاحف. يتخلّل الكتاب عددٌ من لوحات الفنّ التشكيلي السوري في منتصف القرن العشرين.

بلغ عدد المشافي السوريّة العامّة آنذاك ٢٦، والخاصّة ٤٨، وعددُ الأطبّاء ٩٦٦. أشكّ في دقّة هذه الأرقام وأنّ أقّل من ألف طبيب تولّو الرعاية الصحيّة في إقليمٍ وصل عددُ سكّانِهِ إلى أربعة ملايين ونصف المليون. للإنصاف لا تقتصر هذه الرعاية على الأطباء والمشافي،  ويتعيّن ذكر دور المستوصفات والتمريض والوقاية. 

نأتي، بعد استعراض النشاطات الرياضيّة والكشفيّة والموسيقيّة والحياة الليليّة، إلى القوات المسلّحة. تصدّر بطل ميسلون يوسف العظمة هذا الفصل، ثمّ عدنان المالكي الذي "برز بشجاعتِهِ الفائقة في حرب فلسطين" و"استشهد في الملعب البلدي بدمشق عام ١٩٥٥ على يدِ بعض عملاء حلف بغداد". يلي ذلك عدد من الصور عن الجيش السوري بفروعه البريّة والجويّة والبحريّة. 

تشغلُ آخرَ صفحات الكتاب صورةٌ لمبنى التلڤزيون المطلّ على دمشق من قاسيون. ذكر التعليق أنّ بثَّهُ بدأ في عيد الثورة، أي الثالث والعشرين من تمّوز يوليو، عام ١٩٦٠. غطّت البرامج المرئيّة يوميّاً قرابة الخمس ساعات. 

Saturday, April 15, 2017

لؤلؤة المشرق



أصبح الضعف المتزايد للإمراطورية العثمانيّة جليّاً مع نهاية القرن الثامن عشر وحملة ناپوليون على مصر وسوريّا. تسارع التدخّل الأوروپّي في القرن التاسع عشر، وأخذ أشكالاً متعدّدةً، اقتصاديّةً وثقافيّةً ودينيّةً وسياسيّة. مِنَ الأوروپييّن من قَصَدَ الشرق الأدنى كتّجار ومستثمرين وعسكر، ومنهم من أتى إليه مبشّراً ومعلّماً. تفاوتت نوايا الغرب بين نفعيّةٍ بحتة إلى مثاليّةٍ خالصة، وعلّ مآرِب الأغلبيّة كانت خليطاً بنسبةٍ متفاوتة بين النقيضين.

عدد صفحات الكتيّب موضوع الحديث ٩٠، أضِف إليها ٢١ صورة تاريخّية، بعضها للمؤلِّفة، وبعضها الآخر من مصادر مختلفة. الناشر هو البعثة التبشيرّية البريطانية وسنة النشر ١٩٢٠ للميلاد. الكاتبة، السيّدة Jessie Edith Hutcheon رحّالة بريطانيّة وزميلة في الجمعيّة الجغرافيّة الملكيّة، ولم أنجح في الحصول على المزيد من المعلومات عنها. 

يحسن هنا التنويه أنّ هذا العمل كُتِبَ، ليس فقط من وجهة نظرمسيحيّة تبشيريّة، وإنّما أيضاً أوروپيّة وتحديداً بريطانيّة، واثقة كلّ الوثوق من تفوّق الغرب وحضارتِه وقيمِهِ على الشرق عموماً والإسلام خصوصاً. هذا الغرب المنتصر مع ذلك مفتونٌ بغموض الشرق، يسلِّمُ بأسبقيتِهِ الدينيّة، ومكانَتِهِ كمهدٍ للديانات التوحيديّة، وعراقتِهِ التاريخيّة. يمكن في هذا لصدد الاستشهاد بالمحترم Reverend J. Kelman مؤلِّف كتاب "من دمشق إلى تدمر" الصادر عام ١٩٠٨( الذي سيأتي ذِكْرُهُ)، وقولِهِ "بإمكان حجارة دمشق، لو استطاعت الكلام أن تروي قصّة العالم أكثر من أيّ مكانٍ آخر". 

قدّمت المؤلّفة لمحةً تاريخيّةً وجيزة عن المدينة، ركّزت على تراثِها المسيحي؛ وأكّدت نقلاً عن المستشرق Margoliouth (١٨٥٨ - ١٩٤٠)، أنّه عندما دخل المسلمون دمشق في القرن السابع للميلاد، وجدوا أهلَها متمسّكين بديانةِ آبائِهِم (المسيحيّة)، ولم يعتنق أيٌّ منهم دين الإسلام باستثناءِ عائلةٍ واحدة ليس إلّا. تطرّقت هتشيون بعد ذلك إلى موضوعين عزيزين على قلوب الغربييّن: الأوّل اضطهاد المسيحييّن في الشرق على مرّ العصور (في هذا على الأقلّ بعضٌ من الصِحّة)، والثاني المكانة المتدنّية للمرأة في العالم الإسلامي، وكيف مُنِعَت من المشاركة بصلاة الجماعة في الأموي، وكيف حُرِمَت التعليم، والإسفار عن وجهِها، وهلمّجرّا. 

عكست أغلبيّةُ فصولِ الكتاب، وضعَ دمشق قبيل الحرب العالميّة الأولى (عُرِفَت آنذاك بالحرب العظمى).  قّدرت الكاتبة عدد سكّان المدينة بحوالي ٤٠٠٠٠٠ نسمة، معظمهم من المسلمين، وإن بشّرت "الأرض العذراء" بحصادٍ واعد للرسالة المسيحيّة. عددُ اليهود - حسب المؤلِّفة - قرابةّ ١٠٠٠٠، و"مسيحيّي الكنائس الشرقيّة" ٢٠٠٠٠، أضف إلى الإجمالي بضع مئات من الدروز. 

لم تغفل الكاتبة التعليقَ على البيوت الشاميّة المتواضعة المظهر من الخارج، والتي تبهر الزائرَ بداخِلِها الأشبه بألف ليلة وليلة. شدّ انتباهَهَا بالذات أطفال دمشق، المتلهّفين لتعلّم الإنجيل الذي مَنَعَهُم عنهُ أهلُهم. 

لا شكّ أنّ دمشق - شأنها شأن أي بلد في حالة حرب - عانت خلال ما سمّي وقتها بالسفر برلك، بيد أنّ مزاعم المؤلِّفة مبالغٌ فيها إلى أقصى الحدود، إذ ادّعت أنّ ١٢٠٠٠٠ إنسان من سكّان المدينة ماتوا خلال عامين من المجاعة والحروب والوباء. تباكت هتشيون حصول هذه المآسي في أرضٍ غنيّة، ومن نافل القول أنّها  حمّلت العثمانييّن وحلفائهم الألمان المسؤوليّة الكاملة، وتخيّلت عظام الشهداء من نساء وأطفال سوريّا، تستصرخ السماء، وتهيب بإنجلترا "حامية الضعفاء"، التي تحارب نيابةّ عن "الحضارة والإنسانيّة"، أن تأتي لنجدة الدمشقييّن المنكوبين. 

ما كان للجنرال Allenby أن يتقاعسَ عن تلبية نداء السورييّن كما تصوّرته السيّدة Hutcheon، وبالنتيجة نجح هذا القائد العبقري، رغم محدوديّة إمكانياته - أو هكذا زعمت المؤلِّفة - في طرد الأتراك والألمان المكروهين من دمشق في خريف عام ١٩١٨، واستقبل أهلُ المدينة، إذ غَمَرَهُم الفرح إلى درجةِ النشوة،  الجنودَ البريطانيّين استقبال الأبطال، وهرعت الوفود زرافاتٍ زرافات، لتهنئة الفاتح الإنجليزي والتسبيح بحمده والتنويه بمآثرِهِ ومناقِبِهِ.

تختم المؤلفة الشديدة الورع كتَابها بالقول أنّ هذا الإنجاز، الذي حقّقه البريطانيّون في ساحات الوغى، نفض غبارَ الأزمنة عن المدينة، وفتح إمكانيّاتٍ جديدة للمبشّرين. ختمت هتشيون باقتباس شهيرعن المزمور ١٤٥ كُتِبَ باليونانيّة على الجدار القبلي للجامع الأموي، وتحديداً على ساكف بوّابة هيكل المشتري بعد أن استحال إلى كنيسة:

"ملكك أيّها المسيح ملك كل الدهور، وسلطانُك في كلّ دور فدور".

Tuesday, April 11, 2017

دمشق في مرآةٍ بريطانيّة



العديد من أجمل المؤلَّفات عن دمشق وأكثرها طلاوةً كَتَبَها أجانبٌ تعلّقوا بالمدينة كأهلِها أو كادوا.  Colin Thubron روائي ورحّالة إنجليزي من مواليد ١٩٣٩، شائت الأقدار أن يكون كتابُهُ عن دمشق أوّلَ أعمالِهِ. حاز هذا الكتاب على جائزة، وعلّهُ الأوّل من نوعِهِ عن عاصمة سوريّا بعد انقطاعٍ تجاوز نصف القرن . 

زار السيد Thubron دمشق للمرة الأولى عام ١٩٦٢، وأقام فيها حتّى ١٩٦٦، ليرى الكتاب النور سنة ١٩٦٧. المؤلّفُ ملمٌّ بتاريخ المدينة، اطّلع على الكثير ممّا كُتِبَ عنها في الأدب الأوروپي عموماً، والإنجليزيّة والفرنسيّة خصوصاً. مع ذلك، أكّدَ ثبرن في منتهى التواضع والدماثة في مقدّمة كتابِهِ  - الذي لا يخلوا والحقّ يُقال، من الأخطاء والهنات - أنّه لا يهدف إلى إضافةِ معلوماتٍ جديدة أو سدّ ثغرات، وأنّ عَمَلَهُ بالأحرى بدأ كوصفٍ وتأريخ، قبل أن يتّخِذَ طابعاً شخصياً، وأنّه بكل بساطة "a work of love" يعكسُ حبَّهُ للمدينة. 

لم يزر الكاتب دمشق كملكٍ أو أمير، أو حتّى كدارس ممتهن، بل كيافعٍ دون الثلاثين من عمره، اعتمدَ في تنقّلاتِهِ على قدميهِ أو درّاجتِهِ مع الاستعانة ببعض الأدلّة المحلييّن. أقام ثبرن لدى عائلةٍ مسيحيّةٍ سكنت في جوار الشارع المستقيم: الياس وأم طوني. نجح الكاتب، على الرغم من تواضعِ وسائِلِه، في زيارة العديد من معالم المدينة ومحيطها. جابه ثبرن تحدّياً مزدوجاً، تمثّلً في معرفته المتواضعة باللغة العربيّة من جهة، وجهل الدمشقييّن ممّن احتكّ بهم باللغات الأجنبيّة من جهةٍ ثانية. لا عجب في ذلك إذ اقتصر اختلاطُهُ  على الطبقة الوسطى من ذوي الدخل المحدود، في مدينةٍ محافظة، لا زالت معزولةً نسبيّاً عن العالم الخارجي. 

تعرّضَ الكاتبُ بتفصيلٍ لا بأس به أبداً إلى تاريخ المدينة، من أقدم العهود وصولاً إلى المشهد المعاصر، والانقلاب الذي أطاح بأمين الحافظ في شباط ١٩٦٦. تميّز وصفُهُ لمعالم دمشق بالإيجاز، ودقّةٍ معقولة نسبةً لحجم الكتاب. لا مبالغة في وصفِ أسلوبِهِ بالمختصر المفيد أوالسهل الممتنع. رَبَطَ ثبرن الأوابد بالأحداث والأشخاص، معتمداً على المراجع التي قرأها والمواقع التي زارها وعاينها. لاحظ أحد الظرفاء اهتمامَهُ بالأضرحة فسأله: "أراك تتأمّل القبور على الدوام، ألا يموت الناس في لندن؟" يحتوي الكتاب على مجموعةٍ صغيرةٍ من الصور الجميلة بالأبيض والأسود. 

عني ثبرن أيضاً بوصف أهالي دمشق، وكأديب، كان لا مناص له من إطراء جمال نسائِها، خصوصاً اليهوديات منهنّ؛ أمّا بالنسبة للملثّمات، فقد ارتأى أنّ الحجاب يزيد في إغرائهنّ. عن التوزيع الطائفي، قدّر المؤلّف عددّ يهود دمشق بحوالي أربعة آلاف (بلغ عددّهم أربعة عشر ألفاً عام١٩٤٧)، والمسيحييّن ٦٥٠٠٠ أو عُشْر سكّان المدينة. بلغ عدد الدروز١٦٠٠٠ وهم، في زعم الكاتب، "أجمل أهل دمشق". أضاف ثبرن بعض "المعلومات" التي استقاها من الشائعات المحليّة من نوع أنّهم يعبدون العجل الذهبي، ويصلّون للأبقار، ولم يفته أن يذكر بعض الأساطير عن أصولهم ومنها جدّهم الأكبر المزعوم Comte de Dreux.

الكتاب ممتعٌ للغاية، لغته يسيرة المتناول، أقرب إلى السرد القصصي، وأبعد ما تكون عن المصطلحات والتعابير الأكاديميّة الجافّة والتقعّر والحذلقة. يعكس هذا العمل صورةً جذابةً لدمشق منتصف الستّينات في مرآةٍ بريطانيّة. 

Saturday, April 8, 2017

دمشق حتّى سقوطها بيد الآشورييّن



المؤلّف Wayne T. Pitard حائزٌ على دكتوراه من جامعة هارڤارد، وكان أستاذاً للدراسات الدينيّة في جامعة Illinois لدى صدور الكتاب عام ١٩٨٧. ركّز البحثُ على المصادر الكتابيّة عن دمشق حتّى سقوطها بيد الآشورييّن في القرن الثامن قبل الميلاد. هذه المصادر، كما سنرى، محدودةٌ للغاية. 

يبدأ پتارد بتعريف جغرافي لدمشق والمنطقة المحيطة بها. التنقيب تحت المدينة الحاليّة شديد الصعوبة وباهظ الكلفة، ومنه لجوء علماء الآثار إلى سبر التلال الاصطناعيّة المحيطة بها كتلّ الصالحية، وتلّ أسود، وغيرها؛ في محاولةٍ منهم لرسم الخطوط العريضة لملامح دمشق عن طريق استقراء معطيات هذه التلال، ومقارنتها وإسقاطِها على المدينة في حدود الإمكان.

فيما يتعلق بالمدينة القديمة نفسها، لاحظ المستشرقان الألمانيّان Watzinger وWulzinger، وجود تلّ اصطناعي قرب مركزها، حوالي ٢٠٠ متر جنوب الجامع الأموي. قام هذا التلّ فوق أنقاض قصر الملك أنطيوخوس التاسع (١١٦ - ٩٦ قبل الميلاد) حسب Sauvaget؛ أضاف هذا الأخير أنّ هذا المكان يوافق "البريص"، وأنّ القصر الهلنستي حلّ محلّ آخر فارسي قَبْلَهُ، والذي بُنِيَ بدورِهِ على بقايا قصور الملوك الآرامييّن. 

المصادر الرئيسة للكتاب ثلاثة: مصريّة، وآشوريّة، وكتاب العهد القديم. هذه المصادر، بطبيعة الحال، محدودةٌ ومتقطّعة، وأحياناً متناقضة. عُرِفَت المنطقة المحيطة بدمشق في الألف الثاني قبل الميلاد باسم Apu أو Apum . تحوّلت التسمية في الألف الأوّل إلى آرام. يعود اهتمام الكثير من المؤلّفات السابقة عن مدينة دمشق، إلى المكان البارز لها في الكتب المقدّسة، اليهوديّة منها والمسيحيّة، ومن هنا الخلط بين التاريخ الموثّق وسير الرواة. بذلَ  پتارد جهدَهُ في محاولةٍ للتفريق بين الإثنين، وعلى الرغم من ذلك، اضطرّ في عدّة مواضع إلى الاعتماد على نصوص الكتاب المقدّس، ومقارنتها مع سائر المصادرالمتوافرة، التي لم تخل بدورِها من المبالغات والمغالطات. تجدر هنا الإشارة أنّ Pettinato نوّه بذكر دمشق في لوحات إبلا (تلّ مرديخ)، من الألف الثالث قبل الميلاد، بيد أنّ هذه اللوحات لم تكن معروفةً لدى نشر كتاب  پتارد. 

ظهرت دمشق للمرّة الأولى بهذا الاسم على مسرح التاريخ، في لائحة المدن التي غزاها الفرعون تحوتمس الثالث (١٤٧٩ - ١٤٢٥ قبل الميلاد)، ودُوّنَت على جدران معبد الكرنك في الأقصر، بعد أن هزم هذا الملك ائتلافاً آسيوياً في معركة مجدو عام ١٤٥٧. الظهور الثاني كان في عهد أمنحتب الثالث (١٣٩١ - ١٣٥٣)، في مدفنٍ ومعبدٍ له في طيبة، كإحدى المدن ضمن منطقة نفوذ مصر. هناك أيضاً  ذكرٌ للمدينة في بعض رسائل العمارنة. علاوةً على ما سبق اكتُشِفَت رسالةٌ من أحد الفراعنة خلال حفريّات جنوب وادي البقاع في لبنان عام ١٩٦٩ للميلاد، يأمر فيها العاهل المصري ملك دمشق زلايا أن يرسل عدداً من الناس إلى مصر بهدف توطينهم في النوبة.

باختصار كانت دمشق محدودة الأهميّة في الألف الثاني قبل الميلاد وعصر البرونز، وكلّ ما نعرفه عنها لا يتجاوز وجودَها ككيانٍ على رأسِهِ "ملك"، وأنّ ولائَها كان لمصر، وأنّها كانت حقلاً للصراع بين الإمبراطوريّات المجاورة كالمصريّة والحثيّة. 

مرّت فترةٌ انتقاليّةٌ طويلةُ نسبيّاً قبل بزوغ دمشق مجدّداً مع الآرامييّن في عهد الملك داود (حوالي العام ١٠٠٠ قبل الميلاد). لا يوجد هنا مصادر باستثناء الكتاب المقدّس، وتحديداً أسفار الملوك وأخبار الأّيام. استولى داود على المدينة - إذا قبلنا رواية العهد القديم - إلى أن تمرّدت في عهد سليمان؛ الانطباع هنا أنّ إسرائيل قويّة مقارنةً مع آرام الضعيفة. تغيّر هذا الوضع  بعد موت سليمان وبدأ صعود المملكة الآراميّة، إلى أن أصبحت عاصمة أقوى دول غرب سوريّا في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد. هنا تتقاطع المصادر الدينيّة مع الكتابات الآشوريّة مع التحفّظ أن كافّة هذه المصادر دون استثناء خارجيّة. 

شهد القرن التاسع حملاتٍ آشوريّةً متكرّرة ضدّ سوريّا، تصدّى لها ائتلافُ دويلاتٍ عديدةٍ أهمُّها دمشق (آرام دمشق)، وحماة، وإسرائيل؛ بيد أن هذا الحلف تفكّك بالنتيجة، وتدهورت العلاقة بين دمشق وملكها حزائيل من جهة، وإسرائيل من جهةٍ ثانية؛ أضف إلى ذاك المصالحة بين حماة وآشور، ممّا اضطرّ دمشق إلى مجابهة الآشورييّن وشلمنصر الثالث (٨٥٨ - ٨٢٣) وحيدةً، وبالفعل قام هذا الأخير في إحدى حملاتِهِ بتطويق المدينة وقطع الأشجار المحيطة بها. شنّ شلمنصر الثالث آخر حملاتِهِ على دمشق عام ٨٣٧. شهد عهد حزائيل (٨٤٢ - ٧٩٦)، على الرغم من التهديد الآشوري، أوج قوّة آرام دمشق وتوسّعها على حساب إسرائيل، التي أصبحت تابعةً لها. 

نجح أداد نيراري الثالث (٨١٠ - ٧٨٣)  بفرض الجزية على دمشق عام ٧٩٦، واستمرّ الآشوريّون بالضغط باتّجاه الغرب. حاولت دمشق التصدّي لهم بمشاركة إسرائيل، بينما مالت يهوذا للتعاون مع غزاة المشرق. نصّت النصوص الآشوريّة على سقوط المدينة على يد تغلات فلاصر الثالث عام ٧٣٢ قبل الميلاد.

Tuesday, April 4, 2017

كرزول، كنيسة دمشق، وجامع بني أميّة الكبير


يعزو المؤرّخون إلى الإمبراطور ثيودوسيوس (٣٧٩ - ٣٩٥ للميلاد) تحويل هيكل المشتري الدمشقي إلى كنيسةٍ مسيحيّة، ويجمعُ الرواةُ العرب أنّ الوليد بن عبد الملك، سادس خلفاء بني أميّة، أمر بهدم هذه الكنيسة عام ٧٠٥، وبناء الجامع الأموي مكانها. أُنْجِزَ الجامع عام ٧١٥،  ومن المتعارف عليهِ أنّ فتح دمشق كان عام ٦٣٤ أو ٦٣٥. يحقّ لنا هنا أن نطرح السؤال الآتي: ماذا عن المعبد خلال العقود السبعة  بين التاريخين؟

تفيدنا الرواية الأكثر تداولاً، استناداً إلى تفسير معيّن لابن عساكر (١١٠٥ - ١١٧٦)، بإبرام اتّفاقٍ بين الفاتحين العرب وأهل المدينة، تمّ بموجِبِهِ تقسيم الكنيسة إلى شطرين، شرقي للمسلمين سُمّيَ مسجد الصحابة، وغربي للمسيحييّن، بحيث يدخل المصلّون إلى الحرم من الجنوب، ومن ثمّ يتّجه المسلمون إلى اليمين والمسيحيوّن إلى اليسار.

طرح  المؤرّخ البريطاني كرزول (١٨٧٩ - ١٩٧٤)، أخصّائي العمارة الإسلاميّة، وصاحب أهمّ مراجع بواكير هذه العمارة ( نُشر على مرحلتين عام ١٩٣٢ ثم ١٩٤٠، وصدر موجزٌ له لا يتجاوز٣٣٠ صفحة عام ١٩٥٨، ثمّ طبعة ثانية مفصّلة ومزيّدة عام ١٩٦٩، أُعيدَ طبعُها في ثلاثة مجلّدات عام ١٩٧٩). يتناول هذا الكتاب العمارة الإسلاميّة من منتصف القرن السابع إلى أواخر القرن التاسع للميلاد.

يتلخّص منهج كرزول في مقدّمةٍ تاريخيّةٍ سريعة، يليها وصفٌ مفصّلٌ للبناء من الناحيتين الهندسيّة والفنيّة مع مراعاة تمييز الأصل عن الإضافات اللاحقة، ومن ثمّ مراجعة وصف الرواة للآبدة قيد البحث، ومقارنته مع الموجودات الملموسة. دَرَسَ الكثيرُ من الآثار التي تعرّض لها العالِم البريطاني، ومعظم ما تبقّى تغيَّر كثيراً منذ إنشائِهِ نتيجةً للترميم أو التوسيع أو التغيير المُتَعَمَّد.

تبدو رواية اقتسام الجامع للوهلةِ الأولى منطقيّةً، إذ كانت سوريا وقتها غنيّةً بالأوابد التي شارك فيها المسلمون أو استحوذوا عليها بالكامل. تجدرُ هنا الإشارة أنّهم لم يجشّموا أنفسَهُم عناءَ بناءِ مدنٍ جديدة في بلاد الشام، على عكس ما حدث في العراق، الذي شهد نشأةَ عددٍ من الحواضر الإسلاميّة، بدايةً من البصرة والكوفة وواسط، إلى بغداد وسامرّاء.مع ذلك رفض الأب هنري لامنس الزعم باقتسام الكنيسة، وشكّك فيه جان  سوڤاجيه كأسطورةٍ من تأليف ابن عساكر أو مصادِرِهِ. بالمقابل سلّم دوسّو على سبيل المثال بالتقسيم كحقيقةٍ تاريخيّة.

أثار كرزول اعتراضين على نظريّة تقسيم الكنيسة: الأوّل أنّ كلّ من يعرف دمشق يعلم أنّ المسيحييّن واليهود يقطنون الأحياء الشرقيّة بينما يقطن المسلمون الغربيّة. علام - والحال كذلك - تخصيص قسم الكنيسة الشرقي للمسلمين (مسجد الصحابة) والغربي للمسيحييّن؟ الثاني أن الواقدي (٧٤٨ - ٨٢٣)، الذي ادّعى رؤية معاهدة تسليم المدينة بأمّ عينهِ، لا يذكر شيئاً عن هذا التقسيم المزعوم، لا بل وينكره من أساسِهِ. بمزيد من التدقيق فيما كتبه ابن عساكر نرى أنّه عندما تعرض لاستيلاء الوليد على الكنيسة بهدف بناء الجامع، تكلّم عن كنيسةٍ وليس النصف الباقي منها. النتيجة المنطقيّة أنّ الكنيسة المذكورة شغلت قسماً (الغربي) من هيكل المشتري الروماني وليس كامل المعبد، ويترتّب على ذلك أنّ مسجد الصحابة بُنِيَ في القسم الشرقي الجنوبي من هذا المعبد temenos، مستقلّاً عن الكنيسة وليس على حسابها. بعبارة ثانية ما جرى اقتسامه كان المعبد الروماني وليس الكنيسة المسيحيّة، إلى أن قرر الوليد هَدْمَها بعد سبعين سنة بهدف توسيع الجامع واستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين.  

من البدهي أنّ مصداقيّة ابن عساكر، هي بالنتيجة مصداقيّة مصادِرِهِ الدارسة. إذ أخذنا - على سبيل المثال - روايتَهُ عن الأسلوب الذي اتّبَعَهُ الوليد في طلب مساعدة "ملك الروم في القسطنطينيّة" لبناء الجامع، نَجِدُها منافيةً للعقل إلى أبعد الحدود: لئن لم يرسل (إمبراطور بيزنطة) العمّال والحرفييّن (الذين طلبهم الخليفة)، فليغزوّن الوليد بلادَهُ بالجيوش اللهام وليخربّن كلّ كنيسةٍ في بلادِهِ حتّى كنيسة القيامة في القدس وكنيسة الرها وجميع كنائس الروم.

ليست كلمة كرزول، بالطبع، القول الفصل في هذا الموضوع الشائك الذي دار عليه ولا يزال الكثير من الجدل (لامنس مثلاً ردّ على اعتراض كرزول الأوّل بالتذكير أنّ المدينة، وليس فقط أحيائها الشرقيّة، كانت عمليّاً مسيحيّةً بالكامل في القرن السابع الهجري)، ولكنّها تبقى بعد قرابة مائة عام من أفضل ما كُتِبَ في هذا الصدد استناداً إلى البقايا الماديّة، ومدوّنات الرواة، ومحاكمةٍ عقلانيّةٍ متجرّدة لأحد ألمع أكاديميّي القرن الماضي.

Saturday, April 1, 2017

كتاب الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء



موضوع البحث هنا ليس بالضبط كتاب نعمان القساطلي الشهير "الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء"، وإنّما الجزء الثاني منه كما شرَحَه وعلّق عليه بالفرنسيّة السيّد غريغوار باليڤيه (السيرة الملحقة أدناه)، في كتيّب من ثمانين صفحة صدر عام ٢٠١٤.

عَنْوَن باليڤيه كتابَهُ "دمشق في نهاية عهد الإمبراطورية العثمانية حوالي ١٨٧٥". قبل الدخول في فحواه يحسن أن نتعرّف بسرعة على المؤلّف نعمان أفندي (١٨٥٤ - ١٩٢٠). ولد نعمان ابن عبده ابن يوسف البيروتي القساطلي في دمشق لعائلة مسيحيّة مثقّفة، ونجا بالكاد من الموت في عمرٍ لا يتجاوز ست سنوات إبّان مذبحة ١٨٦٠، عندما اختبأ في أحد الأفران. درس نعمان العربيّة والرياضيّات، ونشر رواياتٍ في مجلّة "الجنان" لبطرس البستاني، ومقالاتٍ في "لسان الحال" لخليل سركيس، أمّا عن كتابه الشهير "الروضة الغناء"، فقد نشرته المطبعة الأمريكيّة في بيروت عام ١٨٧٩. تجدر الإشارة هنا أنّ شقيقَتَهُ سلمى كانت طبيبةً درست في بيروت، وحصلت على شهادة اختصاص بالنسائيّة من القصر العيني في مصر.

يتوزّع كتاب الروضة الغنّاء على ثلاثةِ أجزاء: الأوّل عن تاريخ المدينة، والثاني عن وصفِها، والثالث وفيّات وتراجم أشخاص تركوا أثرَهُم فيها بشكلٍ أو بآخر. تناول السيد باليڤيه الجزء الثاني ليس غير، وعلّه الأهمّ، على الأقلّ من وجهة نظر معاصرة. 

تميّز أسلوب القساطلي بسلاستِهِ وسهولتِهِ، على غرار الأدلّة الموجّهة للسيّاح الأجانب بلغاتِهِم في ذلك الحين، مع فارقٍ هامّ: ركّزت هذه الأدلّة أوّلاً وآخراً على ما يهمّ الزائر الغربي، أي المعالم التي تتّصل بالتاريخ كما رواه الكتاب المقدّس، والآثار اليونانيّة والرومانيّة. بالمقابل زوّدنا نعمان أفندي برؤيا محليّة صرفة لمدينةٍ عرفها جيّداً وأحبّها. 

وصَفَ الكتاب، في جملةِ ما وصَفَهُ، أسواقَ دمشق، وكنائسَها، وأهمَّ جوامِعِها (لا يكفي كتابٌ بهذا الحجم لتغطية جميعِ دور العبادة الإسلاميّة)، وحمّاماتِها، ومقاهيها، وخاناتِها، وفندقَها الوحيد (دميتري)، وتوزيعَ أحيائِها، وأبوابَها، وقلعتَها، ومنتزهاتِها، ومدارِسِها، ومكتباتٍها، وتجارتَها، وحرفَها؛ قبل أن ينتقلَ إلى عادات الدمشقييّن، وأزيائِهم، ومراسم الخطبة والزواج حسب طوائِفِهم، ومآتِمِهم، وأخيراً - وباختصار شديد- حكومتِهم.

لا مجال هنا للدخول في التفاصيل. حسبنا التوكيد أنّ الصورة التي رسمها نعمان أفندي لمدينتِهِ مشرقةٌ إلى حدٍ كبير. فلنأخذ على سبيل المثال التعليم: كان في المدارس المسيحيّة وقتها ١١٤٥ طالب و٤١ معلّم، و١٠٧٠ طالبة و٣٢ معلّمة. سلّم نعمان بأنّ الأرقام المتعلّقة بمدارس المسلمبن أقلّ دقّةً، كون التعليم هنا موزّع بين ديني - سواءً كان في الجوامع أو المنازل على يد العلماء والمشايخ، وحكومي. بخصوصِ هذا الأخير ذكر نعمان أنّ الإحصائيّات الرسميّة قدّرت عدد الطلّاب بحوالي ١٣٠٠، والطالبات ٢٤٩، وأضاف إلى هذين الرقمين ٢٥٠ طالباً في المدارس الرشديّة (مدارس ثانويّة تحضر تلاميذها للاحتراف بالجيش)، و ١٠٠ طالب في الكلية الحربيّة. بالنسبة لليهود، ذكر القساطلي أنّ عددَ طلّابِهِم بلغ ٣٥٠، بيد أنّهُ تحفّظَ بالقول أنّ مستوى تعليمِهِم ضعيف، رغم ثراء هذه الطائفة. 

أكّدَ القساطلي أنّ سوريّا بلدٌ غنيّ، وأنّ مستقبَلَها يدعو إلى التفاؤل، وأنّ عائداتِها أكبر بكثير من نفقاتِها، شريطةَ القضاء على الفساد؛ تأمّل نعمان أفندي خيراً بولاية مدحت باشا التي بدأت سنة ١٨٧٨. شهد هذا العام مؤتمر برلين، ومرحلةً جديدةً في تقسيم، أو بالأحرى تقاسُم، القوى الأوروپيّة لما تبقّى من أراضي الدولة العثمانيّة.