لا يختلف اثنان على أهميّة دمشق داخل السور، على الأصعدة التاريخيّة والعمرانيّة والفنيّة والإنسانيّة. ماذا عن ضواحيها التاريخيّة التي عانت من الإهمال والجهل وقصر نظر (إن لم نقل جشع) سماسرة العقارات، وما يسمى تجاوزاً "تنظيم المدينة"، وما هو في الحقيقة إلّا "تعليب مبهرج" لتدمير معالمِها ونسيجِها العمراني؟!
كثيرٌ من محبّي دمشق، وحتى الأخصائييّن من اعتقد هذه الضواحي آيلةً إلى الفناء، ومنهم السيّد Michel Écochard، الذي أسرّ إلى الدكتور سمير عبد الحقّ أنّه لشديد أسفه، لا يؤمن بإمكانيّة إنقاذ هذه الضواحي، وبالتالي اختار أن يركّز جهودَهُ على حماية المدينة داخل السور. جاءً هذا الكتاب الصادر عام ٢٠١٠ بالفرنسيّة والعربيّة عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، في محاولةٍ لإثبات العكس: أي أنّ هذه الضواحي ليست كياناتٍ جامدة، بل على العكس، كانت ولا زالت تتطوّر وتتأقلم مع الظروف المتغيرّة، وأنّ إنقاذَها كان ولا يزال في حدود الإمكان. عزّز المؤلّفون رأيّهم بدراسةٍ قدّمت مقترحاتٍ وحلولاً واقعيّةً وعمليّة، مدعومةً بعددٍ من المخطّطات والخرائط والصور المهنية العالية الدقّة.
الكتاب حوالي ٤٠٠ صفحة بقياس ٣٢ في ٢٣ من عشيرات المتر، والمؤلّفان Yves Roujon و Luc Vilan. استغرق العمل بما فيه جمع المعطيات من قِبَل ١٥٠ من طلّاب العمارة في "ورشة دمشق" في مدارس Versailles و Belleville حوالي عشر سنوات.
المقصود بضواحي دمشق هنا أرباضُها التاريخيّة، أي الصالحية وسوق ساروجة (بما فيه العقيبة) والعمارة والقنوات والسويقة والميدان والشاغور. أضاف المؤلّفان، بهدف التنظيم والتبويب، "ضاحيةً ثامنة"، هي "أحياء بردى" الواقعة شمال المدينة القديمة داخل السور والمتاخمة للعمارة وساروجة.
تناولَ المؤلّفان الأحياء، أو بالأحرى الضواحي، الواحد بعد الآخر بشكل منهجي، انطلاقاً من خريطة المسح العقاري التي صُمِّمَت في ثلاثينات القرن العشرين وعهد الانتداب الفرنسي. تمثّلت الخطوة الثانية بتقصّي الطرق والمقاسم والآثار وبعض البيوت، مع التركيز على بيوتٍ عاديّة، نمطيّة للشام القديمة، وليس القصور التي تُسمّى بالبيوت تجاوزاً ، مثل دور نظام والسباعي والمجلّد وهلمّ جرّا. نأتي بعد البيوت إلى الأماكن العامّة، كالساحات والمقابر. هناك العديد من الصور البديعة الملونّة التي ساهمت في وضع النفاط على الحروف.
خَتَمَ الكاتبان كل فصل بعرضٍ لوضعِهِ الراهن (أي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين)، ومن ثمّ تقديم مقترحات لما يتوجّب الحفاظ عليه، وما يمكن التضحية به، وما بالإمكان تطويره. منهجٌ رائع وطرحٌ منطقي يمكن تعميمه على الكثير من المدن السوريّة وحواضر الدول المجاورة.
بعض الملاحظات السريعة:
- ليست جميع الضواحي مهددّة إلى نفس الدرجة. سوق ساروجة، على سبيل المثال، عانى أكثر من غيره من "غزوات وفتوحات" تجّار العقارات و"منظّمي" المدينة.
- هناك خصائص مشتركة تجمع هذه الأحياء، وسمات معيّنة تميّز بعضها عن البعض الآخر. من الأحياء ما يغلب عليه الطابع التجاري ومنها ما هو سكني بالدرجة الأولى. الصالحيّة تقع على سفح قاسيون وتتبع أبنيتُها تضاريسَ انحدارِهِ وتكثر فيها المعالم الأيوبيّة، بينما يمتدّ الميدان على أرضٍ مستوية ويزخر بالآثار المملوكيّة، علاوة على بوايكِهِ (جمع بايكة) المشهورة.
ختمَ المؤلّفان بجمع المعطيات من مختلف الضواحي لتركيب مخطّط، وتطوير رؤية مستقبليّة شاملة ومتفائلة، تميّز بين المدينة داخل السور وضواحيها التاريخية موضوع البحث من جهة، ودمشق الحديثة من جهةٍ ثانية.
بدت الأمور هكذا أو كادت عام ٢٠١٠، ولا حاجة للتذكير بالأحداث الأليمة التي اندلعت بعد نشر الكتاب بعامٍ ليس غير، بَلْهَ الدخول فيها.
الكتاب متوافر للقراءة بالمجّان على موقع IFPO.

No comments:
Post a Comment