الكاتب المستشرق الإنجليزي David Samuel Margoliouth (١٨٥٨ - ١٩٤٠)، والكتاب "مدن سلاطين مصر الثلاثة" مجلّدٌ عددُ صفحاتِهِ ٤٧٠ ونيّف، مع العشرات من اللوحات الملوّنة الرائعة للفنّان Tyrwhitt (١٨٥٩ - ١٩٣٢)، وعام النشر ١٩٠٧ للميلاد. أهدى المؤلّفُ عَمَلَهُ لسموّ الأميرة نازلي (١٨٥٣ - ١٩١٣)، حفيدة ابراهيم باشا قاهر الوهّابييّن وابن محمد علي باشا، الذي يعتبره الكثيرون باني مصر الحديثة.
خصّص Margoliouth ثلثيّ كتابِهِ للقاهرة. لا غرابةَ في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ صعود العاصمة المصريّة تزامن مع عهود الانحطاط العباسيّة، وتراجُع مكانة بغداد على رأس العالم الإسلامي. يرجع فضل التصدّي للمغول بالدرجة الأولى لمصر والقاهرة، التي أصبحت العاصمة الغربيّة للإسلام في عهد المماليك إلى أن انتقل مركز الثقل مجدّداً إلى القسطنطينيّة في العهد العثماني.
تحتلّ المدينةُ موقعاً استراتيجيّاً على نهر النيل، قبل تفرّعِهِ إلى الدلتا. ليست القاهرة أوّل عواصم الإسلام في مصر؛ الأسبقيّةُ بالأحرى للفسطاط التي بُنِيت في القرن السابع للميلاد، ثمّ القطائع في القرن التاسع وعهد ابن طولون. بالطبع لا يبعد هذان الموقعان - شأنُهما في ذلك شأن ممفيس الفرعونيّة - عن قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي كثيراً، ويعزى الفضل لهذا الأخير وعامِلِهِ جوهر الصقلّي في وضع حجر أساس المدينة العظيمة.
للتبسيط، وزّع Margoliouth تاريخ القاهرة على خمسة عهود: الفاطمي، ثمّ الأيوبي، فالمملوكي، فالتركي (أي العثماني)، وأخيراً "الخديوي". اعتبر المؤلّف الخديوي اسماعيل (١٨٣٠ - ١٨٩٥) مؤسّس عاصمة مصر الحديثة، التي كانت لا تزال في أواخر القرن التاسع عشر، من الناحيتبن النظريّة والقانونيّة، من ممتلكات الإمبراطوريّة العثمانيّة، وإن كانت عمليّاً محميّةً لخليفَتِها البريطانيّة.
الجزء الثاني من الكتاب - أصغر الثلاثة - مخصّصٌ للقدس. تعرّض الكاتبُ بالطبع إلى داود وسليمان والهيكل، قبل أن ينتقل إلى العهود الإسلاميّة، ومن ثمّ الصليبيّة، وصولاً إلى العثمانيّة؛ وتطرّق في الختام إلى تعريفٍ سريع بالحركة الصهيونيّة والهجرة اليهوديّة فراراً من الاضطهاد الديني، والتي سمّاها "غزو أوروپي سلمي" bloodless invasion from Europe. للتذكير الكتابُ سابقٌ بعشر سنوات لتصريح بلفور خلال الحرب العظمى، والانتداب البريطاني الذي تلاه.
تحتل مدينة دمشق القسم الأخير من الكتاب. لم تُحْدِث المدينة، والحقّ يقال، في الكاتب الانطباع المأمول، على الرغم من تغنّي الرواة عبر العصور في محاسِنِها، التي عزاها Margoliouth بالدرجة الأولى إحساسٍ زائف، مبعَثُهُ التناقض الذي شاهدَهُ الرحّالة الشرقيّون بين خضرتِها ومياهِها من جهة، والبادية المجدبة حولَها من جهةٍ ثانية. من المفهوم أنّ هذا التباين لا يكفي لافتتان الأوروپيين (خصوصاً من الشمال والغرب) المعتادين، منذ نعومةِ أظفارِهِم، على تربّةٍ شديدة الخصب، وخضارٍ شبه دائم، وأنهارٍ لا تنضب، وأمطارٍ مدرارة على مدار السنة.
لم يجد الكاتب من أوابد المدينة ما شدّ انتباهَهُ باستثناء الجامع الأموي، الذي كان لا يزال في "طور النقاهة"، إذا جاز هذا التعبير، من حريق عام ١٨٩٣ المدمّر. لاحظ Margoliouth أنّ القلعةَ - ليس من المبالغة القول أنّها ثاني أهمّ مباني المدينة بعد جامعها الكبير - مهيبةٌ عن بعد، بيد أنّها متداعية من الداخل. تلى ذلك وصفٌ مبتسر لأنهارِ المدينةِ ومعابِدِها ومدافِنِها وخاناتِها وحمّاماتِها. انتقل المؤلّف بعد ذلك إلى ما يمكن اعتباره بيت القصيد في هذا السرد، أو ما أسماه "بمشاهد من تاريخ دمشق"، التي اختار منها أربعة أحداث:
المشهد الأول إبّان الفتح الإسلامي عام ٦٣٤ (أو ٦٣٥) للميلاد، على يد خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح، استناداً إلى الواقدي والطبري، وكيف نهب جنود خالد المدينة وذبحوا أهاليها عندما أخذوها عنوةً من الشرق، بينما أخذها أبو عبيدة سلماً من الغرب.
المشهد الثاني عن دخول هولاكو إلى المدينة عام ١٢٦٠، وكيف منح المسيحييّن فيها حمايتَهُ التي ترتّب عليها - حسب المؤرّخين المسلمين - تجاسرُ النصارى على شرب الخمور علانيةً، بما في ذلك شهر رمضان الفضيل، لا بل وصلت صفاقتُهم إلى صبِّها على ثيابِ المسلمين وأبوابِ مساجدهم، وهلمّجرّا. اضطرّ المغول بعد هزيمتهم في عين جالوت إلى الانسحاب من دمشق، بعد احتلالٍ دامَ سبعةَ أشهر. صبّ مسلمو المدينة آنذاك جام غضبِهِم على مسيحييّها ونهبوا وقتلوا، ودمّروا الكنيسة المريميّة، وطال انتقامُهُم أيضاً يهودَ دمشق.
المشهد الثالث عن استباحة دمشق على يد تيمور الأعرج أو تيمورلنك ١٤٠٠ - ١٤٠١. كان الفيلسوف ابن خلدون أحد شهود عيان هذه المأساة.
المشهد الرابع وخاتمة الكتاب عن مجزرة ١٨٦٠. لم يتردّد المؤلّف في إلقاء المسؤوليّة كاملةً على الوالي أحمد باشا، الذي "لم يشهد تاريخ تركيّا نذلاً أحقر وأخبث وأمكر منه". ادّعى Margoliouth أنّ الوالي سبَّبَ المذبحة عمداً وعن سبق الإصرار، عندما أبرَمَ أمرَهُ بتوقيف ثلاثةٍ من شبّان المسلمين بعد أن أهانوا الصليبَ علانية، وكيف كبّلَهم بالأصفاد وقام رجالُهُ بسوقِهِم مخفورين إلى الحيّ المسيحي؛ وفي نفس الوقت، أوعز لأزلامِهِ بنشر الشائعات بين المسلمين تحذّرهم أنّ الفتيةَ سيصبحون عبيداً للمسيحييّن جزاءً وفاقاً على أفعالِهِم. انتشرت هذه الأقاويل المغرِضة بين الدهماء انتشار النار في الهشيم، وتصاعدت الصيحات الغاضبة تطالبُ "بالدفاع عن دينِ محمّد ضدّ النصارى الكفّار" وجرى ما جرى.
دورُ الأمير عبد القادر الجزائري في هذه المأساة معروفٌ وتتّفق جميع الأطراف أنّه كانَ مشرِّفاً ونبيلاً، بيد أنّ الكلمات التي وضعها Margoliouth في فم البطل عندما جابَهَ الحشودَ التي مسّها السعار غريبةٌ، إن لم نقل أنّها منافيةٌ للعقل "اذهبوا من هنا يا كلاب المسلمين ويا حثالة البشريّة! أهكذا تعزّون نبيّكم وتنفّذون تعاليمَهُ يا أخسّ الكفار؟....اذهبوا وإلّا ما أعدتُ سيفي إلى غمدِهِ قبل أن أشبعَهُ من دمائِكُم....ستندمون عندما يأتي الإفرنج للانتقام من الأذى الذي ألحقتموه بهؤلاء المسيحييّن، وعندما يحوّلون جوامِعَكم إلى كنائس، ويجعلونَكُم عبرةً لمن اعتبر..."
لا داعي للدخول في مصداقيّة الكاتب الذي يتّهمُهُ كثيرون بالتحيّز ضدّ الإسلام، ومع ذلك (أو لربّما بسبب ذلك) بقيت مؤلّفاتُهُ عن الإسلام، ولفترةٍ طويلة (على الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين)، المعيار والمرجع الأساسي في الغرب. كان Margoliouth ضليعاً بعدّة لغات: العربيّة والعبريّة والسريانيّة والفارسيّة والتركيّة والأرمنيّة. لا حاجة للقارئ إلى الموافقة على آراء المؤلف كي يستمتع بالصور والنصّ. الكتابُ متوافرٌ للقراءة والتحميل بالمجّان.

No comments:
Post a Comment