Monday, July 13, 2015

الجمهورية العلمانيّة السوريّة


إذا كنتَ لا تعرف حبّ السناتور الأمريكي جون ماكين للشعب السوري وغيرته على مصالح السورييّن فأنت من الجهل بمكان. ناصَرَ السيّد ماكين الربيع العربي في سوريّا منذ عام ٢٠١١ وله صورٌ تذكاريّة مع الثوّار. علاوةً على ذلك شَجَبَ هذا المدافع الغيّور عن الحريّة والديمقراطية تردّد الرئيس أوباما وتقاعسِهِ عن نصرة الشعب السوري بعد أن ثبت بالدليل القاطع أنّ الرئيس الأسد ضَرَبَ مواطنِيه بالأسلحة الكيميائيّة الفتّاكة دونَ وازعٍ من ضمير. 

مع كلّ هذا التفاني يبقى السناتور ماكين رجلاً ديمقراطيّاً على أتمّ استعداد في أيّ زمانٍ ومكان لاستماع وجهات النظر المخالفة، كما حدث في أحد اجتماعاتِهِ عندما قامت سيّدةٌ سوريّة مغتربة بشنّ هجوم عاطفي على السياسة الأمريكيّة في سوريّا ودافعت بانفعال عن الأسد بصفَتِهِ قائداً علمانياً يحمي سوريّا ضدّ إرهاب القاعدة وداعش ومن شاكلهم من المتطرّفين. من نافل القول أنّ ماكين يعرف مصلحة سوريّا أكثر من السورييّن والنتيجة كانت أنّه - بعد أن سمح لها بعرض وجهة نظرها بكل تهذيب والحقّ يقال - لم يعر رأيها أهميّةً على الإطلاق.

للتوضيح فقط هذه السيدة مسيحيّة وتخشى كمعظم المسيحييّن (وهذا ينطبق أيضاً على معظم الأقليّات السوريّة ولربّما أيضاً على نسبةٍ لا بأس بها من السنّة) عواقب وصول التكفرييّن إلى السلطة. مخاوفها بالنسبة لي على الأقل مفهومة ومبرّرة مع كامل احترامي للسيّد ماكين وكلّ من أراد بحسن نيّة تحرير سوريّا بإلقاء المزيد من القنابل على ما تبقّى من المناطق الآمنة فيها. 

بإختصار السيّدة المذكورة تناصر الأسد لأنّه "علماني" وهذه بالنسبة لها صفةٌ حميدة. حسناً، ماذا عن الإسلامييّن؟ أو على الأقل المحافظين منهم؟ 

كلمة "علماني" مشبوهة في عرف الكثير من المتديّنين ولا تخرج في نظرِهِم عن تعبير ملطّف للإلحاد والكفر. أحد أهم إعتراضاهم على حكومة الأسد أنّهم يشكّون في حقيقةِ إسلامِهِ ويرتابون بالهويّة الدينيّة للطائفة العلويّة (أو كما يحلو لهم تسميتها النصيريّة) ناهيك عن الدرزيّة والإسماعيليّة واليزيديّة وهلمّجرّا.. إذاً العلمانيّة من منظورهم مبعثٌ للريب في أحسن الأحوال وقد تكون والكفر صنوان. 

ما ينطبق على الرئيس الأسد والعلوييّن يمكن تعميمه على البعث والحزب الشيوعي والقومي السوري وغيرهم. كلّ هذه الأحزاب "علمانيّة" ترتع فيها الأقليّات على حساب الأغلبية السنيّة.

مِن الناس مَن يعتبر العلمانيّة نعمةً منهم من يراها نقمةً.

أنصار الحكومة يباركون علمانيّتَهَا وأعداء نفس الحكومة يكرهون هذه العلمانيّة! السؤال هنا: هل سوريّا علمانية فعلاً؟ هل كانت علمانيةً في يومٍ من الأيام؟ الجواب في إعتقادي لا ولا وألف لا.

- الدولة العلمانيّة لا تدرّس التربية الدينيّة في المدارس الحكومية وإذا درّست الكتب المقدسة فكنصوصٍ أدبيّة وليس حقائق إلهيةّ أو تاريخيّة لا يرقى إليها الشكّ.
- الدولة العلمانيّة لا تعتمد في سنّ قوانينِها المدنيّة على الكتاب المقدّس بعهديه القديم أو الجديد ولا على القرآن؛ لا فيما يتعلّق بالإرث ولا الزواج ولا الطلاق.
- المسائل القانونيّة في الدولة العلمانيّة يعالجها المحامون والقضاء وليس الشيوخ أو الخوارنة أو الحاخامات.
- الدولة العلمانيّة لا ينصّ دستورُها على دين رئيس الدولة ولا تحتاج إلى موسى الصدر كي يصدر فتوى أنّ العلوييّن مسلمون.
الدولة العلمانيّة لا لزوم فيها لممارسة التقيّة ويستطيع أي مواطن فيها أن ينتمي للمعتقد الذي يريده أو أن يكون لا دينيّاً على عينك يا تاجر إذا أراد.
- تحريم أو تحليل الطعام في دولةٍ علمانيّة يتبع تحليلاً علميّاً لنفعه أو ضرره وليس كون كتب الدين قالت كيت وكيت. نفس المنطق يطبق على المشروبات الروحيّة والتبغ إلخ..
- الدولة العلمانيّة لا تعدّل دوام المدارس والموظّفين في شهر رمضان أو أي شهر. الصيام أو عدمه خيار شخصي ولا يجب أن يُعطَى ممارسوه أيّ امتياز. 

الخلاصة سوريّا ليست علمانيّة وأفضل ما يمكن أن يقال - بالنسبة لمناصريّ البعث - أنّها تعدديّة ولكن شتّان بين التعدديّة والعلمانيّة. 

حتى لا نظلم سوريّا الحبيبة، لا يوجد أي دولة علمانيّة في الشرق الأدنى لا من قريب ولا من بعيد. إسرائيل يهوديّة، لبنان يعتمد على توازن طائفي مزعوم يستمدّ شرعيته من إحصاءٍ عمره أكثر من ٨٠ سنة، إيران إسلاميّة اسماً وفعلاً، السعوديّة وهّابيّة، أمّا تركيّا أتاتورك فلم تصبح علمانيّةً إلا بعد طرد الغالبيّة الساحقة من المسيحييّن من آسيا الصغرى وليس فقط الأرمن.

تتبع تعدديّة سوريا ولبنان نظام الملّة العثماني القديم والذي بموجبه تعترف كافّة الطوائف بسيادة السلطان وتدفع له الضرائب وتدعو له بالنصر. بالمقابل يسمح الباب العالي لهذه الطوائف بالاستقلال في شؤونِها الدينيّة. يُفهم من "الملّة" طبعاً الدين والمذهب. لدينا السنّة، الشيعة (أو الأرفاض أو الرافضة أو المتاولة أو الصفوييّن المجوس حسب المصدر)، الاسماعيليّة (باطنيّة القرون الوسطى)، اليهود، المسيحييّن بكلّ طوائِفِهم، إلى آخره. هنا يحسن توضيح بعض النقاط:

- الطوائف العلويّة و الاسماعيليّة والدرزيّة تُعْتَبَر وتُعامَل رسميّاً اليوم كمسلمة بيد أنّها كانت مشبوهة العقيدة بالنسبة للسلطات السنيّة العثمانيّة (وثوّار الحاضر) وهذا يفسر إلى حدٍّ ما فرارَها أو على الأقل فرارَ بعضِها إلى الجبال (الموارنة، العلوييّن، الدروز) تحت ضغط ظروف معينة في فتراتٍ معينة.

- ُسمِحَ للبعثات الأمريكيّة والأوروپيّة أن تُمارسَ التبشير بين الأقليّات: بعبارةٍ ثانية يمكن محاولة إقناع الكاثوليكي أن يعتنق الپروتستانتيّة مثلاً، أمّا التبشير بين المسلمين فهو خطٌّ أحمر. من البدهي أنّ هذا لم يمنع بعض المسلمين من تغيير دينِهم وأحد أشهر الأمثلة أمير لبنان بشير الشهابي الذي تناقلت الألسنة "ارتدادَه" منذ عام ١٨١٢ على الأقلّ (حسب الرحالة السويسري جهان بوركهارت)، بيد أنّ بشير لم يتجاسر على المجاهرة بدينِهِ الجديد حتّى غزا ابراهيم باشا سوريا نيابةً عن محمّد علي في مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر.

- يقول المثل الشامي "يلّلي ما بياخد من ملّتو بيموت بعلّتو" أي بالعربي الفصيح الذي لا يتزوّج من دينه ومذهبه. إن دلَّ هذا على شيء فهو أنّ التسامح الديني في سوريّا كان دوماً أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.


أختم بالقول أنّ سوريّا ليست علمانيّة لا من منظور إيجابي ولا من منظور سلبي ولم تكن علمانيةً في يومٍ من الأيام وليس هناك ما يبشّر أنّها ستصبح علمانيّةً في المستقبل المنظور. 


Saturday, July 11, 2015

Authoritarianism, Strongmen, and Dictators



The streets of Cairo erupted with riots in January 2011 as the “Arab Spring” moved with astonishing alacrity from Tunisia to Egypt. The “People of Egypt,” fed up with the corruption of their aging president and his cronies, were chanting a slogan soon to contaminate the entire Near East: “The People Want to Overthrow the Regime!”

Not everyone was happy about deposing Hosni Mubarak, certainly not US Vice President Joe Biden, who was ridiculed by many—myself included—when he opined that “Mubarak is not a dictator.” To be sure, the US had invested in and propped up the Egyptian president for three decades, and Mr. Biden's anxiety was shared by many policymakers regardless of their true opinion about the nature of Mr. Mubarak's administration.

But was Mr. Biden wrong after all? That Egypt was—and still is—not a democracy is a no-brainer, but does that necessarily mean that its ruler was a “dictator,” a most abhorrent appellation in today's climate of political correctness? Here we have to resort to the tried-and-true wealth of the English language, an infinitely valuable asset to clarify all ambiguity and dispel every doubt.

The year was 1986, well before digital technology had become ubiquitous. And I, full of curiosity, decided to tap into the Time Magazine archives, neatly bound and available from its first issue in 1923, free of charge to all visitors to Syracuse University's library in Upstate New York. How I wish Syria had comparable facilities with the resources to store its old literary heritage, but I digress...

Naturally, what interested me the most in that venerable publication was just about any mention of the Near East in general and Syria in particular. I was not to be frustrated, though, of course—and in retrospect, luckily for Syria—the Near East has not always been the focus of international media, and the articles that I had sought were therefore few and far between.

Back to the issue under consideration. The world according to the Time Magazine of the 1960s and prior was not as full of dictators as it now is, sadly and ominously the case; that infamous epithet was reserved for super-villains such as Hitler (never mind that he was named Time Magazine's “Man of the Year” in 1938), Mussolini, or Stalin (affectionately referred to by F.D. Roosevelt as “Uncle Joe,” but that's another story). The Arab world—as far as I could tell—had no dictators back then, not in today's traditional and acknowledged sense in any case.

 But authoritarianism did exist, and there surely were despots all over the Arab world back then as now; they just were called differently. For you see, Colonel Adib Shishakly, who dominated Syrian politics in the early 1950s, was a “strongman,” as were Colonel Salah Jadid in the late 1960s and President Saddam Hussein right until August 1990. Needless to say, authoritarian rulers do not necessarily have to be divided into strongmen or dictators; we also have monarchs, all sorts of them: kings, sheikhs, sultans, shahs...but somehow most—if not all—of them are tacitly treated as legitimate and “constitutional.” The implications are obvious: it is despicable when a “dictator” passes his seat to his son; that would be blatant usurpation, but it is perfectly natural and acceptable for a “legitimate” monarch to pass his throne to his son and heir. If he happens in the process to disinherit his brother and—for decades—heir apparent while agonizing, so be it! This is exactly what King Hussein of Jordan did on his deathbed back in 1999, and no one batted an eye.

By now it should be axiomatic that “dictators” are bad. They are corrupt; they kill their own people; they harbor ominous designs on peaceful democracies and their equally peaceful monarchical neighbors, not to mention their support of international terrorism. But what about strongmen? Are they good or bad? Don't they have the same authority as the dictators? Had they not acquired the ultimate power through similar means? Well, not necessarily…

For strongmen fulfill an extremely important task, one that is essential for the nation's peace, prosperity, and even its very survival: they keep law and order. They also form—along with their royal brethren—part and parcel of the “international community” and identify their interests with those of the “civilized world.” They are also legitimate: they hold elections (in reality referendums, but who cares?), allow parliamentary debates, participate in international organizations, open their countries to benevolent foreign investors, invest the nation's wealth in purchasing the latest military technology (to defend their countries against evil dictators, of course), and accept military assistance from disinterested foreign powers. Strongmen do not commit aggression, God forbid! They merely safeguard their homeland, as President Saddam Hussein did when he protected the “Eastern Gate of the Arab Nation” from 1980 to 1988. Only dictators attack their neighbors, as the very same Saddam Hussein—oops!—did when he invaded the little democracy that was Kuwait in 1990.

So there exist two sorts of authoritarian rulers: the first is bad by the mutual consensus of the entire humanity, and that is the dictator. The second type is what an ignorant person might call a “good dictator,” but in reality that would be an insult to the gentle and caring strongman, whose heart belongs to his people and who spares neither effort nor sacrifice to promote their welfare. Evidently what applies to strongmen is just as valid in the case of monarchs; we all know that the King of Saudi Arabia—a paragon of compassion and benevolence—has a consultative assembly, to give but one example.

Dictator is bad, a strongman is better, and an Oriental monarch is best. Not all despots are alike, not by a long shot. The same analysis could be used to study the disparities between “regimes” and “governments” or “administrations.” We all know that regimes are bad and governments are good, but still, one cannot overemphasize such a glaring difference, and we can always use friendly reminders.

I look forward to the day when academics and pundits give this important debate the interest it so desperately needs and make their conclusions public for the benefit of mankind.

Monday, July 6, 2015

تسويق الأدوية وتسويق الحروب



صنع القرار وكتابة التاريخ

غلاء أسعار الأدوية الفاحش في أمريكا أمرٌ معروف ومألوف لكل مقيم في الولايات المتّحدة ويصعب على من يحيا خارجها أن يصدّق أو يهضم المبالغ الأسطوريّة التي يدفعها المريض أو شركة تأمينه للحصول عليها. تبّرر الشركات الصانعة هذه الأسعار بالكلفة الباهظة للبحث العلمي الضروري لتطوير الدواء. في هذا بعض الحقيقة ولكن لا يمكن أن تكتمل الصورة دون أن نأخذ بعين الإعتبار نفقات الدعاية والتسويق ناهيك عن تمويل الحملات الإنتخابية للمرشّحين الذين يدعمون السياسات النفعيّة لهذه الشركات.

تخضع جميع الأدوية الجديدة، من الناحية النظريّة، إلى دراساتٍ علميّةٍ دقيقة تعتمدُ أحدث التقنيّات وأدقّ الإحصائيّات لتمييز الدواء المفيد عن المضّر أو عديم الجدوى. تقوم الجهات الحكوميّة المعنيّة بترخيص العقار فقط عندما تثبت فعاليّتُهُ وسلامتُهُ وإلا يطرح جانباً وتخسر الشركة المبالغ الكبيرة التي استثمرتها في تطويرِهِ. من البدهي أنّ الشركة الصانعة تحتاج أن تربح لتستمرّ وتتّسع وبالتالي تحتاج إلى ابتكار عقارٍ ناجح من حينٍ لآخر وإلّا طحنتها المنافسة عاجلاً أم آجلاً. 

تستطيع الشركة طبعاً أن تختلق أرقاماً ومعطياتٍ وهميّة لتثبت نجاحَ بضائعِها بيد أنّ تزويراً فاضحاً كهذا سهل التحرّي ويترتّبُ عليهِ من الفضائح والمشاكل القضائيّة ما لا تُحْمَد عقباه بما في ذلك إفلاس المؤسّسة. هناك طرقٌ أقلّ خطراً وأكثر مردوداً، أحد أهمّها نشر الدراسات التي تظهر فعاليّة الدواء في المجلّات العلمية وتجاهل التجارب التي أظهرت فشل نفس العقار كونها لم تعطِ النتيجة المتوخّاة. يسمّى هذا  الأسلوب علميّاً "تحيّز النشر". 

ما يفعله الأطباء والصيادلة يستطيع السياسيّون بالتأكيد أن يفعلوه وطريقة تصنيع و تسويق القرار السياسي لا تختلف في جوهرها عن عمليّة تصنيع وتسويق العقار أو أي سلعة. أُدْرِج ُ لإيضاح الفكرة المثالَ التالي الذي عاشه كثيرون في الشرق الأدنى في مطلع القرن الحادي و العشرين.

مع بداية عام ٢٠٠٣ أصبح واضحاً لأي إنسان ذو إلمامٍ معقول بالمناخ السياسي المعاصر ولديه حدٌّ أدنى من حسن المحاكمة أنّ جورج بوش عازمٌ على غزو العراق بغضّ النظر عن تعاون صدّام حسين في تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة أو عدمه. الموضوع بالنسبة لبوش كان ببساطة كيفية تسويق هذا الغزو للشعب الأمريكي و إقناع ذوي النفوذ في الولايات المتحدة بدعم هذا الغزو. جنّد الرئيس الأمريكي لهذا الهدف المخابرات المركزيّة وأصدر تعليماتِهِ لهذه الوكالة بجمع الأدلة الدامغة التي تثبت بما لا يترك مجالاً للشك امتلاك الزعيم العراقي لأسلحةٍ كيميائية وحيويّة وحتّى برامج أسلحة نوويّة. 

هناك من يعتقد أن المخابرات المركزيّة مؤسّسة شيطانيّة تتحكمّ بمصائر العالم وتحبك الدسائس الكونيّة ليلاً نهاراً. الحقيقة أبسط من ذلك و أقل شاعريّةً مع تقديري لمواهب جيمس بوند وهاليوود. المخابرات المركزيّة هي بكل بساطة مؤسّسة بيروقراطيّة أولاً وآخراً تتلقى تعليماتِها من الإدارة الأمريكيّة. لدى المخابرات كميّات هائلة من المعطيات، ما في ذلك من شكّ، بيد أنّها غير معنيّة بصنع القرار، وتقتصرُ مهمّتُها بالأحرى على اختيار المعلومات التي يطلبها قادة الدولة لدعم سياساتهم وتجاهل ما يمكن أن يشكّك في تبرير وجدوى هذه السياسات. للتوكيد C.I.A. ليس لديها أي نفوذ يستحق الذكر في تقرير منهج أو سياسة ويكاد دورُها أن ينحصر في تزويد السلطة التنفيذيّة بمسوّغات تبدو معقولة لقرار تمّ البتّ فيه سلفاً. كما في حالة شركات الأدوية والمؤسّسات التجاريّة عموماً، يجب التركيز هنا أنّ العمل المخابراتي الذكي يتجنب قدر الإمكان الأكاذيب التي يمكن كشفها بسرعة وسهولة ويقوم عوضاً عن ذلك بتسليط الأضواء على المعطيات "المفيدة" و"تسريب" هذه المعطيات إلى الصحافة التي يهمّها بالدرجة الأولى الأخبار المثيرة مع إرجاء الأسئلة المحرجة إلى بعد حصول الأمر الواقع أو إلى الحين الذي ينساها فيه معظم الناس اللهم إلا بعض الأكاديمييّن.

لا أقصد هنا أن أركّز على بلدٍ معين أو شخصٍ معيّن. بعض الأمثلة السريعة من تاريخنا تكفي لمنع أيّ التباس: عندما يريد المسلمون الحرب يرفعون شعار "وأعدوّا لهم ما إستطعتم من قوّة" و إذا أرادوا السلام يرفعون لواء "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، كما برّر مشايخ الأزهر حربَ السادات مع إسرائيل وسلامَهُ معها لاحقاً. بنفس المنطق يدير المسيحيّون الخدّ الآخر أو يستغيثون "بربّ الجنود". كلّ هذا موجود في الكتب المقدّسة إسلاميّةً كانت أم مسيحيّة: متى تمّ اعتماد سياسةٍ معينة أتى الفقهاء والعلماء بالتبريرات المناسبة دون تردّدٍ أو عناء. 

اعتمد معظم كتبة التاريخ منهجاً مماثلاً لتسويق سرد معين للأحداث بهدف تعظيمها أو تحقيرها حسب الظروف والمتطلّبات ويتّبعون في هذا الصدد منهجاً علميّاً قد يبدو للوهلة الأولى منطقيّاً لا غبار عليه. مرّةً ثانية سأقوم بالاستشهاد ببعض الأمثلة من التاريخ الحديث نسبياً:

- تشرين أول ١٩٢٥: قصف الفرنسيّون سيدي عامود في دمشق. دُمِّرَ الحيُّ عن بكرةِ أبيه وتحوّل اسمه إلى يومنا إلى "الحريقة". تتلخّص الرواية السوريّة التقليديّة بثورة الشعب السوري البطل ضدّ المستعمر الغاشم الذي انتقم بقصف اعتباطي للمدينة قُتِلَ فيه من قُتِل ودُمِّرَ ما دُمِّر. ليس هدفي الدفاع عن فرنسا التي احتلّت سوريّا عنوةً واستعملت العنف حسب الحاجة بغيةَ المحافظة على وجودها في الشرق الأدنى. مع ذلك لا شكّ أنّ تصرّف الفرنسييّن كان ردَّ فِعْلٍ على هجوم المتمرّدين على قصر العظم، اعتقاداً من هؤلاء بوجود المندوب السامي فيهِ، ونهبهم محتوياتِهِ و إحراقهم وتمزيقهم لوثائِقِهِ وصورِهِ التاريخيّة. طبعاً ردّ الفرنسيون عنفَ الثوّار أضعافاً مضاعفةً وقصفوا دمشق القديمة عدّة أيام.

- حصلت قصة مشابهة على تطاق أضيق عام ١٩٤٥ عندما قصفَ الفرنسيّون الپرلمان. بعض الرواة السورييّن يزعمون أنّ الفرنسييّن الأشرار قاموا بجريمتهم النكراء بعد أن رفض الوطنيّون الأُباة تحيّة علم المستعمر. هذا طبعاً كلام فارغ من ألِفِهِ إلى ياءِهِ. فرنسا الأربعينات كانت مرهقة وضعيفة ومختلفة إلى حدٍّ بعيد عن فرنسا العشرينات أو حتّى الثلاثينات. ما كانت تسعى إليه في هذه المرحلة بكل بساطة هو إنقاذ بقايا نفوذها في المشرق عن طريق إتفاقيّة ثقافيّة (وإذا أمكن عسكريّة) تعقدها مع سوريّا قبل انسحابها ومن غير المنطقي، في سبيل تحقيق هذا الهدف، أن تقوم باستفزاز السورييّن بطلبٍ أخرق من هذا النوع لا يقدّم في تعزيز مكانتِها ولا يؤخّر. ما حصل فعلاً هو اعتصام بعض القّناصين السورييّن في مبنى الپرلمان ولجوئهم إلى تسديدِ نيرانٍِ بنادِقِهم صوب مقرّ مندوب فرنسا الجنرال Oliva-Roget . ردّ الفرنسيّون بقصف المبنى بالمدافع وقام طيرانُهُم بضرب القلعة التي جعلها الثوار مقرّاً لقيادتهم. قصف الفرنسيّون دمشق طوال التاسع والعشرين والثلاثين من أيّار مايو إلى أن أرغمهم تدخّل القّوات البريطانيّة على التوقّف و العودة إلى ثكناتهم. كان هذا آخر إسفين في نعش الوجود الفرنسي في سوريّا. 

- في عهد الإستقلال و تحديداً شباط ١٩٨٢ حصلت أحداث حماة التي يعرفها جميع السورييّن وإن كان هناك خلافٌ على خلفيّتِها وتفاصيلِها. بالنسبة لعصاة الربيع العربي - أو ثوّاره حسب القناعة الشخصيّة - ومن يدعمهم في الغرب والخليج، قَتَلَ الشرّير حافظ الأسد الحموييّن لأهداف سلطويّة ساديّة ودَمَّرَ مدينةً آمنة مسالمة وهلك في المجزرة عدد يتراوح بين ٢٠٠٠ إلى ٥٠٠٠٠ إنسان حسب المصدر المُعْتَمَد.

رواية "ليلى والأسد" هذه ناقصة إن لم نقل كاذبة. ما حصل فعلاً أنّ "ثوّار" حماة ألقوا القبض على العديد من موالين ومحاسيب الحكومة وقتلوهم ليعْلِنوا الجهاد من المساجد ويباشِروا بإنشاء دولةٍ داخل دولة بدعم مادي ولوجستي من ملك الأردنّ الحسين ورئيس العراق صدّام حسين. هذا أصبح تاريخاً موثقاً يسلّم بِهِ كلّ من يمتلك حدّاً أدنى من الموضوعية. لا زلت أذكر على سبيل المثال "صوت سوريا العربيّة" من بغداد وتحريضه الطائفي.

 نستطيع، من منظور مأساة اليوم، أن نتفهّم أبعاد ما جرى في مطلع الثمانينات بشكلٍ أفضل. هل كانَ ردّ الأسد العنيف على عصيان ١٩٨٢ مبرراً؟ اختلاف وجهات النظر وارد قطعاً، إن لم يكن على وجوب الردّ، فعلى الأقل على كيفيّتِهِ ومداه. لا أنوي الدخول في هذا الموضوع وغاية ما أريد قولَهُ أنّ رواية الطاغوت في مواجهةٍ مع الشعب المغلوب على أمره منحازة وناقصة تماماً كرواية حريق سيدي عامود وقصف الپرلمان ودون محاولة تبييض صفحة فرنسا أو الأسد. الرباط الأهمّ بين الحالتين مبالغاتٌ الهدفُ منها تسويق سرد محدّد لهدف معيّن. 

أفضل مصدر للمعلومات هو المراقب المحايد والمطّلع ولكن قليل منّا من يملك ما يكفي من الموضوعية والحياديّة ويطرح عواطِفَهُ جانباً في قضيّةٍ حيويّةٍ تمسّهُ مباشرة أو بشكلٍ غير مباشر. علّ البديل الأمثل محاولة استقراء وجهات نظر متناقضة وتحليلها وتصفيتها عقلانيّاً قبل اعتماد وجهة نظر طرف واحد. 

التفريق بين الحقيقة ووجهة النظر واجبٌ. اجتياح العراق عام  ٢٠٠٣، مأساة حماة عام ١٩٨٢, قصف البرلمان عام ١٩٤٥، قصف سيدي عامود ١٩٢٥ أحداثٌ تاريخيّةٌ حقيقيّة يكمن الخلاف عليها في كيف ولماذا ومَنْ؛ هذه التفاصيل تختلف جذريّاً حسب الراوي تماماً كاختلاف رواية الطليق عن الطليقة عندما ينهار الزواج.