Monday, July 6, 2015

تسويق الأدوية وتسويق الحروب



صنع القرار وكتابة التاريخ

غلاء أسعار الأدوية الفاحش في أمريكا أمرٌ معروف ومألوف لكل مقيم في الولايات المتّحدة ويصعب على من يحيا خارجها أن يصدّق أو يهضم المبالغ الأسطوريّة التي يدفعها المريض أو شركة تأمينه للحصول عليها. تبّرر الشركات الصانعة هذه الأسعار بالكلفة الباهظة للبحث العلمي الضروري لتطوير الدواء. في هذا بعض الحقيقة ولكن لا يمكن أن تكتمل الصورة دون أن نأخذ بعين الإعتبار نفقات الدعاية والتسويق ناهيك عن تمويل الحملات الإنتخابية للمرشّحين الذين يدعمون السياسات النفعيّة لهذه الشركات.

تخضع جميع الأدوية الجديدة، من الناحية النظريّة، إلى دراساتٍ علميّةٍ دقيقة تعتمدُ أحدث التقنيّات وأدقّ الإحصائيّات لتمييز الدواء المفيد عن المضّر أو عديم الجدوى. تقوم الجهات الحكوميّة المعنيّة بترخيص العقار فقط عندما تثبت فعاليّتُهُ وسلامتُهُ وإلا يطرح جانباً وتخسر الشركة المبالغ الكبيرة التي استثمرتها في تطويرِهِ. من البدهي أنّ الشركة الصانعة تحتاج أن تربح لتستمرّ وتتّسع وبالتالي تحتاج إلى ابتكار عقارٍ ناجح من حينٍ لآخر وإلّا طحنتها المنافسة عاجلاً أم آجلاً. 

تستطيع الشركة طبعاً أن تختلق أرقاماً ومعطياتٍ وهميّة لتثبت نجاحَ بضائعِها بيد أنّ تزويراً فاضحاً كهذا سهل التحرّي ويترتّبُ عليهِ من الفضائح والمشاكل القضائيّة ما لا تُحْمَد عقباه بما في ذلك إفلاس المؤسّسة. هناك طرقٌ أقلّ خطراً وأكثر مردوداً، أحد أهمّها نشر الدراسات التي تظهر فعاليّة الدواء في المجلّات العلمية وتجاهل التجارب التي أظهرت فشل نفس العقار كونها لم تعطِ النتيجة المتوخّاة. يسمّى هذا  الأسلوب علميّاً "تحيّز النشر". 

ما يفعله الأطباء والصيادلة يستطيع السياسيّون بالتأكيد أن يفعلوه وطريقة تصنيع و تسويق القرار السياسي لا تختلف في جوهرها عن عمليّة تصنيع وتسويق العقار أو أي سلعة. أُدْرِج ُ لإيضاح الفكرة المثالَ التالي الذي عاشه كثيرون في الشرق الأدنى في مطلع القرن الحادي و العشرين.

مع بداية عام ٢٠٠٣ أصبح واضحاً لأي إنسان ذو إلمامٍ معقول بالمناخ السياسي المعاصر ولديه حدٌّ أدنى من حسن المحاكمة أنّ جورج بوش عازمٌ على غزو العراق بغضّ النظر عن تعاون صدّام حسين في تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة أو عدمه. الموضوع بالنسبة لبوش كان ببساطة كيفية تسويق هذا الغزو للشعب الأمريكي و إقناع ذوي النفوذ في الولايات المتحدة بدعم هذا الغزو. جنّد الرئيس الأمريكي لهذا الهدف المخابرات المركزيّة وأصدر تعليماتِهِ لهذه الوكالة بجمع الأدلة الدامغة التي تثبت بما لا يترك مجالاً للشك امتلاك الزعيم العراقي لأسلحةٍ كيميائية وحيويّة وحتّى برامج أسلحة نوويّة. 

هناك من يعتقد أن المخابرات المركزيّة مؤسّسة شيطانيّة تتحكمّ بمصائر العالم وتحبك الدسائس الكونيّة ليلاً نهاراً. الحقيقة أبسط من ذلك و أقل شاعريّةً مع تقديري لمواهب جيمس بوند وهاليوود. المخابرات المركزيّة هي بكل بساطة مؤسّسة بيروقراطيّة أولاً وآخراً تتلقى تعليماتِها من الإدارة الأمريكيّة. لدى المخابرات كميّات هائلة من المعطيات، ما في ذلك من شكّ، بيد أنّها غير معنيّة بصنع القرار، وتقتصرُ مهمّتُها بالأحرى على اختيار المعلومات التي يطلبها قادة الدولة لدعم سياساتهم وتجاهل ما يمكن أن يشكّك في تبرير وجدوى هذه السياسات. للتوكيد C.I.A. ليس لديها أي نفوذ يستحق الذكر في تقرير منهج أو سياسة ويكاد دورُها أن ينحصر في تزويد السلطة التنفيذيّة بمسوّغات تبدو معقولة لقرار تمّ البتّ فيه سلفاً. كما في حالة شركات الأدوية والمؤسّسات التجاريّة عموماً، يجب التركيز هنا أنّ العمل المخابراتي الذكي يتجنب قدر الإمكان الأكاذيب التي يمكن كشفها بسرعة وسهولة ويقوم عوضاً عن ذلك بتسليط الأضواء على المعطيات "المفيدة" و"تسريب" هذه المعطيات إلى الصحافة التي يهمّها بالدرجة الأولى الأخبار المثيرة مع إرجاء الأسئلة المحرجة إلى بعد حصول الأمر الواقع أو إلى الحين الذي ينساها فيه معظم الناس اللهم إلا بعض الأكاديمييّن.

لا أقصد هنا أن أركّز على بلدٍ معين أو شخصٍ معيّن. بعض الأمثلة السريعة من تاريخنا تكفي لمنع أيّ التباس: عندما يريد المسلمون الحرب يرفعون شعار "وأعدوّا لهم ما إستطعتم من قوّة" و إذا أرادوا السلام يرفعون لواء "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، كما برّر مشايخ الأزهر حربَ السادات مع إسرائيل وسلامَهُ معها لاحقاً. بنفس المنطق يدير المسيحيّون الخدّ الآخر أو يستغيثون "بربّ الجنود". كلّ هذا موجود في الكتب المقدّسة إسلاميّةً كانت أم مسيحيّة: متى تمّ اعتماد سياسةٍ معينة أتى الفقهاء والعلماء بالتبريرات المناسبة دون تردّدٍ أو عناء. 

اعتمد معظم كتبة التاريخ منهجاً مماثلاً لتسويق سرد معين للأحداث بهدف تعظيمها أو تحقيرها حسب الظروف والمتطلّبات ويتّبعون في هذا الصدد منهجاً علميّاً قد يبدو للوهلة الأولى منطقيّاً لا غبار عليه. مرّةً ثانية سأقوم بالاستشهاد ببعض الأمثلة من التاريخ الحديث نسبياً:

- تشرين أول ١٩٢٥: قصف الفرنسيّون سيدي عامود في دمشق. دُمِّرَ الحيُّ عن بكرةِ أبيه وتحوّل اسمه إلى يومنا إلى "الحريقة". تتلخّص الرواية السوريّة التقليديّة بثورة الشعب السوري البطل ضدّ المستعمر الغاشم الذي انتقم بقصف اعتباطي للمدينة قُتِلَ فيه من قُتِل ودُمِّرَ ما دُمِّر. ليس هدفي الدفاع عن فرنسا التي احتلّت سوريّا عنوةً واستعملت العنف حسب الحاجة بغيةَ المحافظة على وجودها في الشرق الأدنى. مع ذلك لا شكّ أنّ تصرّف الفرنسييّن كان ردَّ فِعْلٍ على هجوم المتمرّدين على قصر العظم، اعتقاداً من هؤلاء بوجود المندوب السامي فيهِ، ونهبهم محتوياتِهِ و إحراقهم وتمزيقهم لوثائِقِهِ وصورِهِ التاريخيّة. طبعاً ردّ الفرنسيون عنفَ الثوّار أضعافاً مضاعفةً وقصفوا دمشق القديمة عدّة أيام.

- حصلت قصة مشابهة على تطاق أضيق عام ١٩٤٥ عندما قصفَ الفرنسيّون الپرلمان. بعض الرواة السورييّن يزعمون أنّ الفرنسييّن الأشرار قاموا بجريمتهم النكراء بعد أن رفض الوطنيّون الأُباة تحيّة علم المستعمر. هذا طبعاً كلام فارغ من ألِفِهِ إلى ياءِهِ. فرنسا الأربعينات كانت مرهقة وضعيفة ومختلفة إلى حدٍّ بعيد عن فرنسا العشرينات أو حتّى الثلاثينات. ما كانت تسعى إليه في هذه المرحلة بكل بساطة هو إنقاذ بقايا نفوذها في المشرق عن طريق إتفاقيّة ثقافيّة (وإذا أمكن عسكريّة) تعقدها مع سوريّا قبل انسحابها ومن غير المنطقي، في سبيل تحقيق هذا الهدف، أن تقوم باستفزاز السورييّن بطلبٍ أخرق من هذا النوع لا يقدّم في تعزيز مكانتِها ولا يؤخّر. ما حصل فعلاً هو اعتصام بعض القّناصين السورييّن في مبنى الپرلمان ولجوئهم إلى تسديدِ نيرانٍِ بنادِقِهم صوب مقرّ مندوب فرنسا الجنرال Oliva-Roget . ردّ الفرنسيّون بقصف المبنى بالمدافع وقام طيرانُهُم بضرب القلعة التي جعلها الثوار مقرّاً لقيادتهم. قصف الفرنسيّون دمشق طوال التاسع والعشرين والثلاثين من أيّار مايو إلى أن أرغمهم تدخّل القّوات البريطانيّة على التوقّف و العودة إلى ثكناتهم. كان هذا آخر إسفين في نعش الوجود الفرنسي في سوريّا. 

- في عهد الإستقلال و تحديداً شباط ١٩٨٢ حصلت أحداث حماة التي يعرفها جميع السورييّن وإن كان هناك خلافٌ على خلفيّتِها وتفاصيلِها. بالنسبة لعصاة الربيع العربي - أو ثوّاره حسب القناعة الشخصيّة - ومن يدعمهم في الغرب والخليج، قَتَلَ الشرّير حافظ الأسد الحموييّن لأهداف سلطويّة ساديّة ودَمَّرَ مدينةً آمنة مسالمة وهلك في المجزرة عدد يتراوح بين ٢٠٠٠ إلى ٥٠٠٠٠ إنسان حسب المصدر المُعْتَمَد.

رواية "ليلى والأسد" هذه ناقصة إن لم نقل كاذبة. ما حصل فعلاً أنّ "ثوّار" حماة ألقوا القبض على العديد من موالين ومحاسيب الحكومة وقتلوهم ليعْلِنوا الجهاد من المساجد ويباشِروا بإنشاء دولةٍ داخل دولة بدعم مادي ولوجستي من ملك الأردنّ الحسين ورئيس العراق صدّام حسين. هذا أصبح تاريخاً موثقاً يسلّم بِهِ كلّ من يمتلك حدّاً أدنى من الموضوعية. لا زلت أذكر على سبيل المثال "صوت سوريا العربيّة" من بغداد وتحريضه الطائفي.

 نستطيع، من منظور مأساة اليوم، أن نتفهّم أبعاد ما جرى في مطلع الثمانينات بشكلٍ أفضل. هل كانَ ردّ الأسد العنيف على عصيان ١٩٨٢ مبرراً؟ اختلاف وجهات النظر وارد قطعاً، إن لم يكن على وجوب الردّ، فعلى الأقل على كيفيّتِهِ ومداه. لا أنوي الدخول في هذا الموضوع وغاية ما أريد قولَهُ أنّ رواية الطاغوت في مواجهةٍ مع الشعب المغلوب على أمره منحازة وناقصة تماماً كرواية حريق سيدي عامود وقصف الپرلمان ودون محاولة تبييض صفحة فرنسا أو الأسد. الرباط الأهمّ بين الحالتين مبالغاتٌ الهدفُ منها تسويق سرد محدّد لهدف معيّن. 

أفضل مصدر للمعلومات هو المراقب المحايد والمطّلع ولكن قليل منّا من يملك ما يكفي من الموضوعية والحياديّة ويطرح عواطِفَهُ جانباً في قضيّةٍ حيويّةٍ تمسّهُ مباشرة أو بشكلٍ غير مباشر. علّ البديل الأمثل محاولة استقراء وجهات نظر متناقضة وتحليلها وتصفيتها عقلانيّاً قبل اعتماد وجهة نظر طرف واحد. 

التفريق بين الحقيقة ووجهة النظر واجبٌ. اجتياح العراق عام  ٢٠٠٣، مأساة حماة عام ١٩٨٢, قصف البرلمان عام ١٩٤٥، قصف سيدي عامود ١٩٢٥ أحداثٌ تاريخيّةٌ حقيقيّة يكمن الخلاف عليها في كيف ولماذا ومَنْ؛ هذه التفاصيل تختلف جذريّاً حسب الراوي تماماً كاختلاف رواية الطليق عن الطليقة عندما ينهار الزواج. 

No comments:

Post a Comment