التاريخُ المكتوب لكلّ الشعوب في كل زمان ومكان، مجموعةٌ مختارةٌ بعنايةٍ فائقة من الأكاذيب وأنصاف الحقائق، يُقْصَدُ بها ترويج رواية، أو بالأحرى أسطورة معيّنة، وتجاهل كلّ ما يعاكسها، أو إذا اقتضى الأمر تبريره حتّى إذا نافى التسويغ العقلَ والمنطق. قبل الدخول في صلب الموضوع سأعطي مثالاً قرأته منذ سنوات بالفرنسيّة في المجلّة البلجيكيّة الشهيرة تان تان، نُشِرَ بعلى أربع صفحات في العدد ٤٢ للعام ١٩٦٩ بعنوان Le pavé des martyrs (بلاط الشهداء). وَضَعَ الكاتب Yves Duval، في هذه القصّة، على لسان عبد الرحمن الغافقي، تعليماتٍ إلى جنود المسلمين بذبح الأسرى بغية توفير نفقة إطعام "أفواه لا فائدة منها". هذا بالطبع كلام فارغ الهدف منه تمجيد Charles Martel، وإدانة همجيّة المسلمين، وأدْلَجة الشبيبة الفرنسيّة؛ لا أقول هذا لاعتقادي أنّ الغافقي كان قدّيساً، فليس هناك قدّيسون أو قدسيّة في الحرب والقتل بغضّ النظر عن المسمّيات.الموضوع بكل بساطة عملي ونفعي: النساء الشابّات والأطفال الأصحّاء على الأقلّ، غنائمُ حرب ثمينة لا يفرّط فيها حتّى هولاكو وجنكيز خان. باختصار الرواية الغربيّة لا تقلّ تنميقاً وزيفاً عن نظيرتِها الشرقيّة وإذا أردنا أن نبحث في حقيقة ما حصل فعلاً في معركة Poitiers، والأحداث التي سبقتها ولحقتها في ثلاثينات القرن الثامن الميلادي، فيتعيّن علينا أن نقارن بين الروايتين أو على الأقلّ أن نذكر كليهما.
____________
فلنقفز الآن إلى موضوع الحديث: عهد الانتداب الفرنسي وأحد أحداث الثورة السوريّة الكبرى عام ١٩٢٥. ليس هدفي هنا أن أدافع عن الفرنسييّن، بل أن أنقل بأمانة وجهة نظر المستشرق Eustache de Lorey كما نُشِرَت في حينه، أي أن أتيح للفرنسييّن رواية ما جرى في خريف الغضب هذا (استعارة من عنوان أحد كتب الراحل محمّد حسنين هيكل)، تماماً كما تترك المناهج والكتب السوريّة للسورييّن مهمّة رواية قصف فرنسا العشوائي الهمجي لسكّان دمشق المدنييّن الآمنين، دون أي تحليل يستحقّ الذكر لخلفيّات هذا القصف.
أودُّ، قبل أن أترك الكلمة للسيّد de Lorey، أن أنوّه إلى الحقائق التالية:
١. لم يستولِ الفرنسيّون على قصر العظم عنوةً، بل اشتروه بمبلغٍ كبيرٍ من المال من الورثة من آل العظم الذين بَلَغَ عددُهم ٦٨ شخصاً، وخصّصوا القسم الأصغر منه أي السلاملك (البرّاني) مقرّاً للمندوب السامي أثناء إقامَتِهِ في دمشق، بينما خُصِّصَ الحرملك (الجوّاني) الأكبر مساحةً للمعهد الفرنسي للآثار والفنون الإسلاميّة الذي أسّسه الجنرال غورو.
٢. نعلمُ باستقراء التاريخ المُدَرَّس في سوريّا، أنّ غورو وجّه إنذارَهُ الشهير لفيصل قبل أن يواجه يوسف العظمة وجندَه ومتطوّعيه في ميسلون، ومن ثمّ دخل دمشق وذهب إلى ضريح صلاح الدين وقال "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، بل تذهب بعض الروايات إلى حدّ القول أنّه ركل الضريح!
٣. غورو لم يكن فقط جنديّاً، بل كان أيضاً كاتباً وأكاديميّاً وراعياً للفنّ والتراث، وهو الذي طلب من الأب Henri Lammens تأليف كتاب عن تاريخ سوريّا لا يزال مرجعاً قيّماً إلى اليوم مهما كانت التحفّظات عليه وعلى كاتِبِهِ.
____________
أنتقل الآن إلى ترجمة ما كتبه السيّد de Lorey دون تزكيتهِ، وللقارئ أن يقارِنَهُ مع الأدبيّات السوريّة، والحكم بالنهاية له في تصديق أو تكذيب أي من الطرفين:
"قامت عصاباتٌ مسلّحة منذ بداية التمرّد في ١٨ تشرين الأوّل بمهاجمة المقرّ، اعتقاداً منهم بوجود المندوب السامي فيه. هاجم المتمرّدون الحرس بعنف، مستعملين الرمّانات اليدويّة، واستطاعوا السيطرة على السطوح بسرعة ممّا أجبر الحرس على التراجع إلى صحن الحرملك.
عادت جماعةٌ من العصاة حوالي الساعة السادسة يوم الإثنين إلى مهاجمة المقرّ، ونجحت باقتحام باب القصر ونهبت المقرّ، ثمّ رشّ المتمرّدون المكان بالپترول وأحرقوه، كما ذكر ابن زعيم العصابة حسن الخرّاط الذي اشترك في الهجوم. ساعد على استشراء الحريق الخشبيّات الملوّنة التي زيّنت القاعات، ورِقّة الجدران التي وصلت الأخشابُ عناصرَ بنائِها مع بعضها بعضاً. انتشرت النار حثيثاً إلى الباب والجناح الخشبي قرب المدخل، حيث يقطن مدير المعهد.
تمّ تخليص الحرس يوم الثلاثاء في العشرين من تشرين الأوّل، وكانت جميع غرف القصر لا تزال سالمةً لدى الإخلاء مع استثناء المقرّ والجناح. بقيت أغلب هذه الغرف مغلقةً، بيد أنّ إخلاء الحرس تركها دون حماية، وبالتالي استؤنف النهب بعد الظهر، وفي ليلة تشرين أوّل ٢١-٢٢ سَرَت النار إلى قاعة الاحتفالات في الحرملك.
بدأ النهب بعد ظهر ٢٠ تشرين أوّل بعد إخلاء القصر، بيد أنّ معظَمَهُ كان صباح ٢١ تشرين أوّل، بعد أن سمح احتراق الباب بالدخول إلى المعهد دون عوائق ونهبه واقتحام أبوابه.
أُلْقِيَت المصنّفات في المكاتب على الأرض، ودُهِسَت بالأقدام، ومُزِّقَت. ُضِبَط بعضُها لاحقاً مع اللصوص الذين أخذوها اعتقاداً منهم أنّها وثائقٌ ثمينة. لاقت المعاينات الأثريّة والرسوم ومجموعات القوالب نفس المصير، أمّا أثاث الصالونات والسجّاد الثمين والأعمال الفنيّة فقد سُرِقَت. ذهب المتمرّدون إلى حدّ اقتلاع الأسلاك الكهربائيّة.
كان الأذى الذي لحق بالمكتبة بالغاً، خاصّةً المجلّدات الحاوية على الصور والمؤلَّفات المتعلّقة بالآثار. كثيرةٌ هي اللوحات والأوراق التي مُزِّقَت عمداً أو أُلْقيَت بالأحواض المائيّة إزدراءً لقيمتها.
اختفى الزجاج الملوّن، والنحاس المنحوت، والنقود من المتحف، والكأس المقدّسة من طفس، والحرير الأثري، وأجمل قطع مجموعات الخزف الدمشقيّة التي عُثِرَ عليها خلال التنقيب في حنانيا والباب الشرقي. أُسْقِطَ مذبح الإله مناف (علّ المقصود الربّة مناة) عن قاعدتِهِ، وكُسِرَ النحت الجصّي البارز من ريّ، أهمّ تمثيل بشري معروف لفنّانٍ مسلم. كان هذا النحت بارتفاع ٧٥ من عشيرات المتر، وجسّدَ شخصاً مستدير الوجه، منتصب القامة، يحمل هراوةً إيرانيّة الطراز. تألّفَ رداءُ هذا الشخص من عمامةٍ وقفطان مخطّطين، وحملَ على الذراع اليمنى كتاباتٍ كوفيّة. كُسِيَ التمثالُ بصدريّةٍ طويلة بالغة الأهميّة لدراسة نسيج الأقمشة في بدايات العصور الإسلاميّة، ويُعْتَقَد أنّه يعود إلى القرن التاسع أو العاشر الميلادي.
يتعيّن علينا أيضاً التنويه بخسارة أجهزة التصوير الضوئي، ومجموعة الصفائح التي انتظم فيها أكثر من ألفيّ صورة للآثار الإسلاميّة من دمشق وحلب وحماة وبلاد ما بين النهرين".
يظهر de Lorey معتمراً برنيطة وسط طلّابِهِ في اللقطة الأولى العائدة للعام ١٩٢٢، وعلى يمينِهِ عبد الوهاب أبو السعود وعلى يسارِهِ خالد معاذ. اللقطة الثانية للسلاملك بعد حريق ١٩٢٥.
Eustache de Lorey. L'état actuel du palais Azem. Syria. Archéologie, Art et histoire. Année 1925 (6-4) pp. 367-372.
Renaud Avez. L’Institut français de Damas au Palais Azem (1922-1946) à travers les archives. Damas 1993.

No comments:
Post a Comment