حاولَ الدكتور فيليپ حتّي (١٨٨٦ - ١٩٧٨) في هذا الكتاب الصغير (١٧٠ صفحة) الصادر عن جامعة Minnesota عام ١٩٧٣، أن يعرّف الطلّاب والهواة بتاريخ العرب عَبْرَ ستّة مدن. الدكتور حتّي أكثر من مؤهّل لهذه المهمّة، فهو علاوة على ضلوعِهِ في الإسلام وتاريخ الشرق الأدنى عموماً والعرب خصوصاً، متمكّن من اللغتين العربيّة والإنجليزيّة؛ لا عجب فهو أحد أعضاء المجمع العلمي العربي في دمشق. امتدّت موهبة إتقان اللغات إلى أخيه الطبيب يوسف حتّي، صاحب قاموس المصطلحات الطبيّة الإنجليزي - العربي المعروف. كتاب عواصم الإسلام العربي متوافرٌ للقراءة والتحميل بالمجّان.
المدن الستّ هي مكّة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة. خصّص المؤلّف لكلٍّ منها حوالي ٢٥ صفحة. ليس الكتاب موجّهاً للأخصائيّين، ومع ذلك وجدتُ فيه بعض المعلومات التي كنتُ أجهلُها، إضافة إلى خضمٍّ من النوادر الطريفة. الصورة الملحقة عن المركز العربي للمعلومات في نيويورك لدمشق طبعاً، تبدو في مقدّمتها ساحة النجمة ثمّ مدرسة الفرنسيسكان وكنيسة اللاتين باتّجاه الشرق، ونرى في العمق بساتين الغوطة.
____________
مكّة العاصمة الدينيّة
أوّل ذكر معروف لمكّة كان تحت إسم Macoraba في جغرافية المؤلّف اليوناني - المصري بطليموس في منتصف القرن الثاني للميلاد. أبرهة الحبشي ما هو إلّا أبراهام أو إبراهيم. قصّة مكّة في العهد الإسلامي معروفة ولكن أكثر ما أثار اهتمامي مغامرات الأوروپييّن المسيحييّن الذين نجحوا في دخول مكّة مخاطرين بحياتهم، وجمعوا بعض المعلومات المتفاوتة الدقّة. أوّل هؤلاء الرحّالة الإيطالي Ludovico di Varthema الذي "اعتنق" الإسلام، واعتمد إسم يونس، ونجح في زيارة المدينة المقدّسة عام ١٥٠٣. تلاه الإسپاني المعروف تحت اسم علي بك العبّاسي (اسمه الأصلي Badia y Leblich) عام ١٨٠٧، ومن ثمّ السويسري Johann Lewis Burckhardt عام ١٨١٤؛ أكبر إنجاز لهذا الأخير اكتشاف البتراء.
المدينة عاصمة الخلافة
يثرب أيضاً مذكورةٌ في جغرافية بطليموس تحت إسم Iathripa، بيد أنّها، كما هو حال مكّة، مجهولةٌ عمليّاً قبل الإسلام، باستثناء ما ذُكِرَ عنها في الروايات الإسلاميّة اللاحقة. كثيرٌ من صفحات هذا الفصل مخصّص للفتوحات العربيّة التي وجد الدكتور حتّي بعض أوجه التشابه بينها وبين دخول العبرانييّن إلى أرض الميعاد قبل ظهور الإسلام بثمانية عشر قرناً، على الأقلّ من ناحية التفسير الديني.
دمشق عاصمة الإمبراطوريّة
تاريخ دمشق بالطبع أقدم بكثير من العرب والإسلام. بدأ المؤلّف بأوّل ذكرٍ لها على لائحة غزوات الفرعون تحوتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، مروراً بدولة آرام - دمشق وتوسّعها على حساب الممالك المجاورة ومنها إسرائيل، قبل سقوطِها على يد الآشورييّن عام ٧٣٢ ق.م. احتكر الآراميّون تجارةَ الداخل كما احتكر الفينيقيّون تجارة السواحل والبحار. أسدَلَ التاريخُ ستارتَهُ على دمشق في العهود اللاحقة تحت الفُرْس وخلفاء الإسكندر، عندما صعد نجم أنطاكيا كمدينة سوريّا الأولى. ازدادت أهميّة دمشق في العهد الروماني وتوسّع هيكَلُها الهائل. تبقى الفترةُ الأمويّة عهدَها الذهبي بامتياز.
بغداد عاصمة الفكر
تحوّلت الخلافة في العهد العبّاسي إلى مَلَكيّة على غرار أباطرة الفرس، وظهر منصبُ الوزير للمرّة الأولى في الإسلام. رَوَى الدكتور حتّي قصّة البرامكة وغناهم وحظوتهم إل أنّ قلب لهم هارون الملقّب بالرشيد ظهر المجنّ ونكّل فيهم أشنع تنكيل. بُنِيَت بغداد في عهد أبي جعفر المنصور، وأصبحت تحت المأمون خصوصاً مركزاً للعلم والتأليف والتعريب، سواءً فيما يتعلّق بالعلوم الدينيّة (أبو حنيفة والشافعي والغزالي إلخ)، أو الدنيويّة (الخوارزمي والرازي والفارابي والكندي وثابت بن قرّة وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وغيرهم). لربّما كان أهمّ إنجازات ذلك العصر اقتباس "الأرقام العربيّة" من الهند ولربّما كان الصفر ابتكاراً عربيّاً.
القاهرة العاصمة المنشقّة
من المعروف أنّ بُناة القاهرة هم الإسماعيليّون في عهد المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلّي. مؤسّس الدولة الإسماعيليّة عبيد الله المهدي سوريّ الأصل من السلميّة، نجح في بناء إمبراطوريّة في شمال غرب إفريقية امتدّت إلى مصر التي أصبحت مركزَها. كانت بداية الحكم الفاطمي مشرقةً، ولم يحاول الحكّام الأوائل إكراه مسلمي مصر على تغيير دينهم ومذهبهم وظلّت الأغلبيّةُ سنيّةً. تحسّنَ أيضاً وضعُ الأقلّيات المسيحيّة واليهوديّة على الاقلّ حتّى عهد الحاكم بأمر الله. كسف بهاءُ القاهرة الفاطميّة شمسَ بغداد. انتهى العهدُ الفاطمي على يد صلاح الدين.
قرطبة العاصمة الأوروپيّة
اسم قرطبة مشتقٌّ من أصل فينيقي "قرية توب"، تحوّل تحت الرومان إلى Corduba وفي العهد الإسپاني إلى Cordoba، قَبْلَ أن يحوّله العرب إلى قرطبة دون معرفة أصلِهِ الذي يعني "البلدة الطيّبة". دمّر يوليوس قيصر المدينةَ في القرن الأوّل قبل الميلاد، بعد أن أيّدت أولاد پومپي ضدّه، وذبح عشرين ألفاً من سكّانِها. عهد قرطبة الذهبي كان بالطبع تحت الأموييّن الذين بنوا الجامع الكبير على عدّة مراحل، وقصر الزهراء والمدينة الزاهرة. لا يزال جامع قرطبة موجوداً أمّا الزهراء فقد اندثرت. علماء الأندلس الذين زاع صيتُهُم كثيرون، منهم الزهراوي وابن رشد وابن حزم وابن ميمون. سقطت الخلافة الأمويّة عام ١٠٣١ للميلاد وسقطت المدينة بيد ملك قشتالة عام ١٢٣٦.

No comments:
Post a Comment