الدكتور نيقولاوس ڤان دام ديپلوماسي وأكاديمي هولندي معروف، يتكلّم العربيّة بطلاقة، وخبير بشؤون الشرق الأدنى. شغل ڤان دام منصب سفير بلاده إلى العراق ومصر وأندونيسيا وغيرها، وله أكثر من كتابٍ عن سوريّا أقوم اليوم بمراجعة أحدها. يغطّي كتاب "الصراع على السلطة في سوريّا: الطائفيّة والإقليميّة والقبليّة في السياسات"، أو على الأقلّ طبعَتُهُ الأولى قيد الحديث، الفترة من ١٩٦١ إلى ١٩٧٨. صدرت طبعاتٌ إضافيّةٌ (١) مزيّدة ومنقّحة منذ ذلك الحين لم يُتَحْ لي الاطّلاع عليها، وبالتالي أقتصر على مراجعة الطبعة الأصليّة، وأملي أن بحالفني التوفيق في نقل أفكار المؤلّف كما هي مع الاحتفاظ بتعليقي للحواشي.
يسلّط الكتاب الأضواء على سياسات سوريّا الداخليّة، وأثر الولاءات العشائريّة والطائفيّة والإقليميّة في هذه السياسات. لا تتعرّض الدراسة إلى تمرّد الإخوان المسلمين في أواخر السبعينات، ولا شكّ أن السبب متعلّق بتاريخ النشر.
يعزو ڤان دام زيادة نفوذ الأقليّات في الجيش إلى عزوف أغنياء التجّار عن تشجيع أولادهم على الانخراط في صفوفِهِ لعدة أسباب، امتزجت فيها الريبة مع الازدراء. على الرغم من ذلك، جرت جميع الانقلابات العسكريّة في مطلع استقلال البلاد بقياداتٍ سنيّة، ضمناً زياد الحريري منفّذ انقلاب الثامن من آذار ١٩٦٣. الحريري لم يكن حتّى بعثيّاً وإن نجح البعث بالنتيجة في احتكار السلطة.
حرص البعثيّون باستمرار على التوكيد على علمانيّة الحزب، وإدانة الخطاب الطائفي بشكلٍ قاطع؛ بالطبع لم يمنع هذا بعضَهم عن محاولة استغلال النزعات الطائفيّة الكامنة أبداً تحت الرماد لتحقيق مآربهم، بيد أنّ الطائفيّة العلنيّة كانت من المحرّمات وألحقت الضرر بمن جاهر بها، وعلى سبيل المثال طُرِدَ محمّد عمران من سوريّا بتهمة محاولة خلق كتلة طائفيّة (علوّية) في الجيش. شارك في إدانة عمران أمين الحافظ (سنّي)، صلاح جديد (علوي)، وحافظ الأسد (علوي). تجدر الإشارة هنا إلى نقطةٍ في غاية الأهميّة: استغلال الطائفيّة للحصول على السلطة لا يعني أن الطائفيّة هي سبب الصراع على هذه السلطة.
مع مرور الوقت اتّسعت شقّة الخلاف بين أمين الحافظ وصلاح جديد. اتّهم الحافظ جديد بمحاولة بناء كتلة طائفيّة (علويّة) في الجيش. أحدث هذا الاتّهام ردّة فعل عكسية، ازداد نتيجةً لها التفاف الضبّاط العلوييّن حول صلاح جديد، بينما فشل الحافظ في بناء كتلة سنيّة، وخسر أيضاً ولاء الدروز وحتّى بعض ضبّاط السنّة (مصطفى طلاس وأحمد سويداني). حاول الحافظ أن يحتوي النفوذ المتزايد لصلاح جديد باستدعاء محمّد عمران وتنصيبه وزيراً للدفاع، بهدف شقّ صفوف العلوييّن. لم ينجح مسعى الحافظ الذي وصل إلى درجة الشكّ بكلّ ما هو علوي. أُطيحَ بأمين الحافظ في انقلاب الثالث والعشرين من شباط ١٩٦٦.
شَهِدت المرحلة التالية تصفية النفوذ الدرزي في الجيش: حمد عبيد كان يطمح بمنصب وزير الدفاع الذي نالَهُ حافظ الأسد، وبالنتيجة عُزِل عبيد وأوقف. لعب سليم حاطوم دوراً أساسياً في إنقلاب ٢٣ شباط ضد الحافظ بيد أنّه لم يقطف ثمار تعاونِهِ ولجأ بالتالي إلى محاولة تشكيل قاعدة درزيّة. أوفدت الحكومة نور الدين الأتاسي وصلاح جديد لتقصّي الوضع في السويداء، عندما اعتقل حاطوم المبعوثين في محاولة انقلاب في الثامن من أيلول ١٩٦٦. اتّصل حاطوم هاتفياً مع حافظ الأسد محاولاً فرضَ شروطه التي رفضها الأسد جملةً وتفصيلاً. أدرك حاطوم فشلَ مقامرته، ولجأ إلى الأردنّ حيث مارس بثّ الدعاية الطائفيّة من إذاعة عمّان.
الخلاصة حاولَ ضبّاطٌ، من كافّة الطوائف، بشكلٍ أو بآخر استغلال النعرات الطائفيّة: السنّي الحافظ، العلوي عمران، والدرزي حاطوم على سبيل المثال وليس الحصر. ما ينطبق على الطوائف ينطبق على الأقاليم (مثلاً السويداني كان أحد ضبّاط حوران المتنفّذين قبلَ عزلِهِ من الأركان عام ١٩٦٨).
ارتسمت خطوطٌ جديدة للصراع على السلطة في هذه المرحلة، بين تيّاريّ صلاح جديد وحافظ الأسد. كان أنصار جديد أكثر راديكاليّةً وطالبوا بإعطاء الأولويّة "للتحويل الاشتراكي" (٢)، بينما تمثّلت أولوية الأسد في الإعداد للحرب مع إسرائيل، و إن تطلّب هذا التعاون مع "أنظمةٍ رجعيّة".
عمل حافظ الأسد على فصل الجهاز العسكري عن القيادة المدنيّة التي سيطر عليها صلاح جديد. انتهت "ازدواجيّة السلطة" مع تشرين ثاني عام ١٩٧٠ و"الحركة التصحيحيّة". أصبح الأسد رئِيساً لسوريّا في شباط ١٩٧١ دون منافسةٍ جديّة، اللهم إلّا من ضمن الطائفة العلويّة وبقايا أنصار صلاح جديد الذين اعُتِقلَ بعضُهُم في حزيران ١٩٧١ وكانون أول ١٩٧٢ (٣).
حاول الأسد جهدَه إنهاء عزلة سوريّا عربيّاً ودوليّاً وشارك مصر السادات في حرب تشرين أول ١٩٧٣ ضدّ إسرائيل. اختار الزعيم المصري لاحقاً سبيل الصلح المنفرد، ممّا أدّى إلى تبادل حملاتٍ إعلاميّة شديدة اللهجة بين القاهرة ودمشق (٤).
(١) الطبعة الثانية متوافرة إلكترونيّاً ومعرّبة وتتابع الرواية حتّى منتصف التسعينات.
(٢) لا زلت أذكر "الإشتراكيّة العلميّة" التي صدّعوا دماغَنَا بها في دروس التربية الوطنيّة.
(٣) اغتيل محمّد عمران في لبنان آذار ١٩٧٢.
(٤) لم يتورّع السادات و إذاعة القاهرة عن اللجوء إلى اللغة الطائفيّة: "بعث دمشق العلوي"، "المؤامرة البعثيّة الحمراء" في لبنان. قال السادات في إحدى خطبه "النظام السوري علوي ثمّ بعثي ثمّ سوري". من سخرية الأقدار أنّ مصرع السادات عام ١٩٨١ جاء على يد نفس الإسلامييّن المتطرّفين الذين حاول "الرئِيس المؤمن" استمالتهم.
No comments:
Post a Comment