Wednesday, May 3, 2017

مجلّة الدراسات الشرقيّة



صدر العدد الأوّل من مجلّة الدراسات الشرقيّة عن معهد دمشق الفرنسي عام ١٩٣١، وتضمّن سبع مقالات تعرّضت لمواضيع متباينة، جميعُها بالفرنسيّة. أحدُ هذه المقالات دراسةٌ عن اثنين من مكوّنات دمشق: حيّ الأكراد والحيّ المسيحي في باب مصلّى، للمستشرق والمؤرّخ Richard Thoumin، الحائز على وسام جوقة الشرف. لا تزال هذه المجلة حيّةً، تُنْشَر سنويّاً أو كل عامين. كتب الكثيرون من الباحثين الأجانب والمحلييّن في صفحاتِها سابقاً ولاحقاً، منهم Sauvaget و Écochard وElisséeff و Bianquis وعبد الكريم رافق وعبد القادر الريحاوي وألبرت حوراني وغيرهم. كانت جميع المقالات في البداية فرنسيّة اللغة، ومع مرور السنوات أُضيفت أعمالٌ بالإنجليزيّة والعربيّة وغيرها من اللغات الحيّة. أبحاثُ المجلّة واسعة النطاق، من علوم الآثار، إلى الفنّ، والموسيقى، والأدب، والشِعر، والتراث الإسلامي والعربي. باختصار كان هذا المنشور ولا يزال، منجماً من الذهب للمهتمّين بالدراسات الشرقية من هواةٍ ومحترفين.

خُصِّص العدد الحادي والستّون، الصادر عام ٢٠١٢، بالكامل لمدينة دمشق في القرون الوسطى والعهد العثماني. جميعُ مقالاتِهِ بالفرنسيّة والإنجليزيّة، توزّعت على قرابة ستمائة من الصفحات. ذُيِّلَ هذا العدد بملخّصات abstracts لكل مقال بالعربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة. تناولات الدراسات مواضيعاً متعدّدةً ومتباينة، منها تنقيب ومعالم سور المدينة وقلعتها وفسيفساء جامعها الكبير، ومنها ما بَحَثَ في نسيج دمشق العمراني في العهدين المملوكي والعثماني، ومنها ما تحدّثَ عن حدائقِها ومقاصِفِها ومنتزهاتِها ومقاهيها، ومنها ما عالج فقهَ توزيع مياهِها، وهلمّجرّا. تفاوتت لغة المقالات بين تقنيّة صعبة، إلى سلسةٍ سهلة المتناول. ليست الفرنسيّة أو الإنجليزيّة بالضرورة اللغة الأمّ لجميع المساهمين، ولنا بالتالي أن نتوقّع تفاوتاً في جودة الترجمة.

كثيرةٌ هي الصفحات التي مزجت المعرفة مع المتعة. لست في معرض تفضيل أي مقال عن غيره، وحسبي التنويه بإحدى الدراسات التي شدّتني للباحث Torsten Wollina (صفحة ٢٧١-٢٩٥) عن يوميّات كاتب المحكمة الدمشقي شهاب الدين أحمد ابن طوق (١٤٤٣-١٥١٠)، العائدة إلى أواخر القرن الخامس عشر وعهد المماليك.

هذه اليوميّات هي الوحيدة التي نملكها من عهد المماليك، وأكثر اليوميّات التي وصَلَتْنا إسهاباً (١٩١٦ صفحة!!)؛ نعلمُ باستقرائها أنّ صاحِبَها أقام شمال وخارج سور دمشق، في جوار جامع الأقصاب، وأنّه انتمى إلى الطبقة الوسطى (ملَكَ بيتاً وبستاناً بيد أنّه لم يكن من الثراء بما يكفي لأكل اللحم يومياً)، وعمِلَ قرب الجامع الأموي، وأنّه كان متزوّجاً حَلَفَ بالطلاق مرّةً وطّلق فعلاً، وأنّه امتلك بعض الجواري. من أطرف ما قرأته في هذا المقال نوم ابن طوق في سرير أحد العرسان قبل الدخلة، بموجبِ عادات ذاك الزمان التي اقتضت أن يبيت شخصٌ معروفٌ بالتقوى في فراش الزوجيّة مدّة ثلاث ليالٍ قبل الزفاف. امتزج العامُّ مع الخاصّ في يوميات ابن طوق الذي دوّنَ الأموَر كما قدّرها دون أن يكبّد نفسَهُ عناءَ تفسيرِها. ليس من الواضح إذا رام الكاتب الحفاظَ على خصوصيّةِ يوميّاتِهِ، أم أنّه اْعَتزَمَ مشاركتها مع آخرين في عهدٍ لم يعرف الطباعة.

وَصَفَ ابن طوق دمشق كما رآها، معتمداً كنقاط علّام الجوامع وبعض الدور المميّزة والأبواب. ارتبطت طبوغرافيا المدينة بالنسبة إليه بمعالِمِها المقدّسةُ، أي المساجد والمدارس والمدافن، دون التعرّض لطريق الوصول إليها. بالنسبة للأسواق، انصبَّ اهتمامُهُ على أسعار السلع دون غيرها من التفاصيل. ركّز، فيما يتعلق بالأشخاص، على علماء الدين، خصوصاً شيخ الإسلام.

النصّ الكامل لمقال Wollina عن إبن طوق متوافرٌ بالمجّان مع سائر مقالات العدد الصادر عام ٢٠١٢. يمكن أيضاً، بقليلٍ من البحث، تحميل أو قراءة الكثير من دراسات هذه المجلّة العريقة التي غدا بعضُها مراجعاً كلاسيكيّة استشهدَ بها الطلّاب والأساتذة والباحثين على مرّ الأجيال.

No comments:

Post a Comment