لربّما كان العنوان الأصحّ لهذا المقال "الطائفيّة التي سَقَطَ القناعُ عنها". موضوعُ حديثِ اليوم المقالُ الرابع في كتاب
سوريا اليوم بقلم
Michel Seurat، وبعنوان "
الشعوب، الدولة، والمجتمع". البحثُ شديدُ الغنى بالمعلومات، يتجاوز الخمسين صفحة، ويصْعُبُ بالتالي إعطائَهُ حقَّهُ في منشورٍ واحد؛ من هنا لجوئي إلى توزيعِهِ على مقالين مع مقدّمةٍ قصيرة قبل التعرّض لفحواه.
الخطابُ السوري عموماً والبعثي خصوصاً عروبيٌّ بامتياز، يشجب الإقليميّة والعشائريّة والطائفيّة إلى درجةِ إنكارِ هويّة الغير، أو على الأقلّ تجاهلِها. كلّ من درس مناهج المدارس السوريّة يعلم أنّها تخلو من أي إشارة إلى الأقليّاتِ الدينيّة وتاريخِها ومعتقداتِها. طلّابُنا يدرسون تاريخ "الوطن العربي"، ولكنّهم لا يعرفون عن الطوائف الدرزيّة والعلويّة والإسماعيليّة والمسيحيّة في سوريّا إلّا ما يتلقّونه في دروس "التربية الدينيّة"، وما يتعلّمونَهُ من أهلِهِم وفي دور عبادتِهِم، وما يتهامسُ بِهِ الكثيرون منهم عن بقيّةِ الطوائف، ومِنْهُ ما هو سلبيٌّ إلى أبعد الحدود. النتيجةُ المحتومة فتحُ الباب على مصراعيه للجهلةِ في الداخل والمُغْرِضين من الخارج ليقولوا ما يشاؤون، ويبذروا الفتنةَ الطائفيّة التي اعتَقَدَ الإعلامُ السوري القاصر والمناهج المدرسيّة المتخلّفة أنّ عدمَ الكلامِ فيها يكفي لإلغائها.
____________
تعود بي الذاكرة إلى أواخر عام ١٩٨٣، ومدرسة المشاة في حلب. طالت إقامتي في هذه المدرسة كطالب ضابط حوالي ثلاثة أشهر، وُزِّعَ الطلّابُ خلالَها على مهاجِعٍ بمعدّل ثمانية شباب في الغرفة. لا تترك طريقةُ الفَرْزِ مجالاً للشكّ أنَّ المقصودَ بها "خلط" الطلاّب قدر الإمكان. كان نصيبُ غرفتي ٥ من السنّة، و اثنان من المسيحييّن (أحدهما آشوري)، وعلوي واحد. هذا عن التوزيع الطائفي، أمّا الإقليمي فهناك اثنان من دمشق، وحلبي، وحمصي، وثلاثةٌ من اللاذقيّة (أحدهم من المدينة)، والأخير من الحسكة. لم يتطوّع أحدُ بذكْرِ دينِهِ بطبيعةِ الحال، بيدَ أنّ المرءَ لا يحتاجُ لمواهب الأنبياء والعرّافين لتحديد منشأ اللهجة، ومن التبست لهجُتُه يمكن الاستدلال عليه من سلوكِهِ (الصلاة مثلاً)، أو لباسِهِ (١)، أو اسمِهِ (٢). ليس هذا فحسب، أذكر خلال خدمتي اللاحقة في لبنان كيف وبَّخَ ضابطٌ جنديّاً عندما عرّف الأخير نفسه "كدرزي"، وكأنّ في ذلك ما يعيب، أو أنّ فيهِ إثارةٌ "للنعرة الطائفيّة"!
على الهامش، الأشخاصُ في الصورةِ الملحقة من يمين الناظر إلى يسارِهِ:
- النسق الخلفي: فاروق كرّوم (اللاذقيّة)، ؟ (ريف اللاذقيّة)، خالد سلطان (دمشق)، عبد الله محسون (حلب).
- النسق الأمامي: هيثم فرح (ريف اللاذقيّة)، فريد كوركيس (الحسكة)، هيثم قدح (دمشق)، تامر كحيل (حمص).
ليس المقصودُ هنا التشكيكَ في حسنِ نوايا العروبييّن؛ الاعتراضُ بالأحرى على الأسلوب الأخرق: حلُّ المشاكل العشائريّة والطائفيّة لا يكون بتجاهُلِها كضربٍ من المحرّمات، بل بالاعترافِ بالفوارق واحترامِها علناً وعلى رؤوس الأشهاد، لا بل بفرضِ هذا الاحترام بقوّةِ القانون إذا دَعَتِ الحاجة.
____________
ارتأى Seurat وبحقّ أنّ تعريفَ "
المجتمع السوري" صعبٌ للغاية، وذَهَبَ إلى حدّ القول أنّ هذا المفهوم عديمُ المعنى إذا أخذنا بعينِ الاعتبار الخلط بين "
الشعب" و"
الأمّة". الأمّةُ في الشرق الأدنى "أمّةُ الإسلام" بغضّ النظر عمّا يُدَرَّس في كتب التربية الوطنيّة، وتكافئ "
الملّة" في العهد العثماني، ومن هنا القول الشامي المأثور "
يللّي ما بياخد من ملّتو بيموت بعلّتو". الملّةُ إذاً هي الدين، بينما "
الدولة" جهازٌ بيروقراطي وعسكري يتعيّن التمييز بينها وبين "الأمّة الدولة" أو "
الدولة القوميّة"
Nation-State في الغرب. يترتّبُ على ذلك أنّ تحقيقَ الوحدةِ على المستوى الاجتماعي الخالص أمرٌ غير وارد، وأنّ الطريقةَ العمليّة الوحيدة فرضُها من الأعلى من قِبَل السلطة الحاكمة.
أعطى المؤلّفُ نَبْذَةً عن الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة مع التركيز على طابعها التاريخي. تحديد التوزّع الديموغرافي الديني صعبٌ للغاية: أجْرِيَ آخرُ إحصاء طائفي في سوريّا عام ١٩٦٠، ليتوقّف بعدها إلى إشعارٍ آخر. يمكن مع ذلك القول أنّ نسبةَ المسيحييّن تناقصت في الستين عاماً الأخيرة (٣) ولأكثر من سبب. المعلوماتُ عن الطائفة العلويّة (٤) إلى أمدٍ قريب قليلةٌ للغاية، ومستقاةٌ في معظمِها من أعدائها. اعتَبَرَت الدولةُ السوريّة المرشديّة في مطلع عهد الاستقلال (٥) حركةً انفصاليّة وأعدَمَت زعيمَها كما هو معروف.
نأتي بعد العلوييّن إلى الدروز، فالمسيحييّن (بكلّ طوائِفِهِم)، فالأكراد، فاليهود، فالشركس، فالإسماعيلييّن، فاليزيدييّن. بالنسبة لسكّان الفيافي هناك الشوايا (٦) والبدو (٧) الذين قلَّ عددُهم كثيراً مع تناقصِ الحاجة إلى الجمالِ من ناحية، وسعي الدولة لتوطينِهِم بشتّى الوسائل من ناحيةٍ ثانية. تغيّرت علاقةُ الريفِ مع المدينة، إذ أدّت الهجرةُ المتزايدة والمُتَسارِعة نَحْوَ المدن، بهدف العمل أو الدراسة وهلمّجرّا، إلى ما اعتبره البعضُ "قرونة المدن"، عوضاً عن "تمدين أهل الريف".
الطائفيّةُ كامنةٌ أبداً تحت الرماد حتّى على مستوى الأحزاب "العلمانيّة": الحزب الشيوعي السوري كردي - مسيحي (٨)؛ الحزب القومي السوري علوي - مسيحي؛ البعث مُخْتَلِف التركيب حسب المنطقة والأشخاص.
أفتى
الدستور السوري عام ١٩٥٣ بالإسلام ديانةً للرئيس. اعتبر الكثيرون مع شديد الأسف فرضَ سيطرة الأغلبيّة طريقةً مثلى للقضاء على النعرة الطائفيّة.
للحديث بقيّة.
____________
١. خصوصاً بالنسبة للنساء في الحياة المدنيّة .
٢. من غير المحتمل أن يسمّي المسلم ابنَهُ "جورج"، أو الشيعي "معاوية".
٣. ازدادت نسبةُ المسيحييّن في عهد الانتداب، خصوصاً في حلب بعد لجوء الأرمن الذين استعان بهم الفرنسيّون مع الشركس لإخماد الثورة السوريّة حسب المؤلّف.
٤. دُعِيَت الطائفةُ العلويّة نصيريّة قبل الانتداب، ثمّ اختفت هذه التسمية أو كادت إلى أن أحياها طائفيّو القرن الحادي والعشرين بمعنى سلبي.
٦. أنصاف البدو من رعاة الأغنام في الجزيرة.
٧. رعاة الجمال.
٨. للشيوعييّن تواجدٌ معيّن في حيّ القصّاع في دمشق.