Wednesday, February 28, 2018

دمشق وغوطتها




الفصل الحادي عشر من كتاب  La Syrie D'Aujourd'hui مكرّسٌ لمدينة دمشق وواحتها، كَتَبَتْهُ Anne-Marie Bianquis  في ٢٥ صفحة زاخرة بالمعلومات المفيدة. 

هناك دراسات أكثر تفصيلاً عن تطوّر دمشق في أواخر العهد العثماني (Weber مثلاً). يكفي هنا القول أنّ المدينةَ توسّعت وقتها باتّجاه الغرب، لينتقل مركزُها من داخل السور إلى ساحة المرجة الذي شُيِّدَت حولَهُ وإلى جوارِهِ الأبنيةُ الجديدة والمؤسّسات الإداريّة. تزامنت بدايات هذا التطوّر مع شقّ طريق دمشق وبيروت للعربات (١٨٦٣)، وتلاها سكّة حديد بيروت - دمشق - حوران (١٨٩٤)، فالخطّ الحديدي الحجازي في مطلع القرن العشرين. دخلت الكهرباء دمشق عام ١٩٠٥ (١)، ودخل بعدها الترام، وجُرَّت مياه عين الفيجة في عهد ناظم باشا، وتشكّلت نواةُ ما عرف لاحقاً بجامعة دمشق (الطبّ) عام ١٩٠٣.

مع العهد الفيصلي وفترة الانتداب الفرنسي اللاحقة، أُسِّسَت المكتبة الوطنيّة، والمتحف، ومجمع اللغة العربيّة (محمّد كرد علي)، وتوسّع جَرَّ مياه عين الفيجة (١٩٣٢) ممّا أدّى إلى انخفاض مستوى بردى: ازداد عددُ السكّان كما نرى في الجدول الملحق وازداد أيضاً استهلاك الفرد. 

١٩٢٠ = ١٧٠,٠٠٠ 

١٩٢٥ = ١٨٠,٠٠٠

١٩٣٠ = ١٩٧,٠٠٠

١٩٣٥ = ٢٣٠,٠٠٠

١٩٤٥ = ٢٩٦,٠٠٠

١٩٥٠ = ٣٥٣,٠٠٠

١٩٥٥ = ٤٠٨,٠٠٠

١٩٦٠ = ٥٣٠,٠٠٠

١٩٧٠ = ٨٣٦,٠٠٠


تضاعف عدد سكّان دمشق إذاً خمسَ مرّاتٍ بين الأعوام ١٩٢٠ و ١٩٧٠، مع التحفّظ أنّ الأرقام اعتباراً من ١٩٦٠ أدْخَلَت تحت "مدينة دمشق" القرى القريبةَ منها: برزة والقابون وجوبر والقدم وكفرسوسة والمزّة، التي حُسِبَت سابقاً على ريفِ دمشق. الزيادةُ الديموغرافيّةُ مع ذلك موجودةٌ وملموسة، ولم تقتَصِر يوماً على دمشق أو ريفِ دمشق. 

توزّع السكّان
 بلغ عدد الفلسطينييّن في دمشق حسب إحصاء ١٩٦٠ حوالي ٦٠٬٠٠٠ نسمة (٢). معظم سكّان المدينة سنّة، بما فيهم ٣٠٬٠٠٠ كردي و ١٢٬٠٠٠ شركسي، أمّا عن عدد المسيحييّن فقد قُدِّرَ بحوالي ١٠٠٬٠٠٠ واليهود ٢٠٠٠.  

استمرّ توسّعُ المدينةِ في عهد الاستقلال، ورأى معرض دمشق الدولي النور عام ١٩٥٤، وبنيت ملاعب رياضيّة جديدة (٣) عام ١٩٧٦، وازداد عدد طلّاب جامعة دمشق، وافتُتِحَت كليّاتٌ جديدة. لم يتغيّر عدد دور السبنما  (خمسة عشر) والمسارح (خمسة) بين الخمسينات والسبعينات. الحاجةُ ماسّةٌ لزيادة عدد المكتبات العامّة والمراكز الثقافيّة في مدينةٍ تتوسّع باستمرار. هذه النقطة الأخيرة شديدة الأهميّة: على الرغمِ من الجهودِ المبذولة، بقيت الخدمات وبشكل مزمن أقلّ ممّا تطلّبَتهُ الزيادة السريعة في عدد السكّان، بما في ذلك المشافي والسكن (٤)، وترتّبَ على ذلك تزايد "العشوائيّات" حول المدينة مع مُسْتَلزماتِها من الماء والكهرباء والصرف الصحّي التي لم تكن دوماً متوافرةً أو على المستوى المطلوب. 

أضافت المناطق الصناعيّة في ريف دمشق (٥) أعبائَها بيما في ذلك التلوّث، رغم محاولة الحكومات السوريّة المتتالية توجيه ما أمكن من هذه الصناعات بعيداً عن المدينة إلى الشمال (٦). أضِف إلى التلوّث الصناعي الصرف الصحّي على بردى وتورا، وبالنتيجة لجأ فلّاحو الغوطة إلى الآبار لترويةِ حقولِهِم مع ما يعنيه هذا من استنزاف المياه الجوفيّة. 

هناك في نهاية المطاف الكثير من السلبيّات، بيد أنّ هذا لا ينفي وجود الإيجابيّات: تحسّن الصحّة العامّة، وتناقص خطر الفيضانات والحرائق. يكمنُ التحدّي لأجيال المستقبل ليس في محاولةٍ عبثيّةٍ للعودةِ إلى ماضٍ مثالي روائي، وإنّما في احتواء وتوجيه التوسّع ليضمن لسكّانِ المدينة مقوّمات حياةٍ كريمةٍ قَدَر الإمكان. 

____________

١. تأخّر دخول الكهرباء إلى حلب حتّى عام ١٩٢٩!
٢. انخفض عددُ الفلسطينييّن عام ١٩٧٠ إلى ٥٠٬٠٠٠ مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اليرموك الذي سَكَنَهُ ٧٠٬٠٠٠ فلسطيني أُدْخِل في محافظة "ريف دمشق". 
٣. ملاعب "النسور" حسب الأغنية الشهيرة. 
٤. أُسِّسَت جمعيّاتٌ سكنيّة ولكنّها لم تكن كافيةً، بغضّ النظر عن الأخطاء الإداريّة والفساد. 
٥. الكونسروة والنسيج والإسمنت. 
٦. من أسباب هذا التوجيه حماية المعامل من اسرائيل نظراً لأنّ خطوط الهدنة تبعد ٥٠ كيلومتراً فقط عن العاصمة. 
٧. الكلام عن ١٩٨٠ عندما صدر الكتاب. 

Tuesday, February 27, 2018

ريف سوريّا قبل وبعد الإصلاح الزراعي


بإمكانِ المهتمّين الرجوع إلى دراستين مفصّلتين عن سوريّا من النواحي التاريخيّة والجغرافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، إحداهما بالإنجليزيّة بعنوان Syria, a Country Study والثانية بالفرنسيّة La Syrie d'Aujourd'hui، وكلاهما متوافرتان بالمجّان على الشبكة. الحديث اليوم عن الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب الثاني: الأوّل يتناول الريف السوري حتّى عام ١٩٥٨، والثاني من بداية الوحدة حتّى عام ١٩٧٨. 

____________

استَنَدَ الفصل الثامن بقلم Jean Hannoyer إلى درجةٍ لا بأسَ بها على دراسةِ الراحل Jacques Weulersse التي توقّفت حوالي عام ١٩٤٠ (١)، واستقى بعضَ معطياتِهِ من كتاب Richard Thoumin عن الجغرافيا البشريّة لسوريّا المركزيّة الصادر عام ١٩٣٦. أختصرُ، للحدِّ من التكرار، فأقول أنّ حالةَ الريف السوري، مع التسليم بوجودِ فوارقٍ هامّة حسب المنطقة، كانت عموماً بائسةً للغاية. تميّزت علاقةُ الريفِ بالمدينة بتَبَعيَّتِهِ لها، وتوجّهِ اقتصادِهِ لمصلحَتِها. اقتصر اهتمامُ المدينةِ بالريفِ على الاستفادةِ من موارِدِهِ، وتحسين وضعه بما يخدم مصالح ذوي النفوذ وأصحاب الأموال من أهل المدن ليس إلّا. صحّةُ الفلّاح سيّئة، ووفيّاتُ الأطفال مرتفعة؛ المياهُ ملوّثةٌ والبنيةُ التحتيّة شبه غائبة؛ الأميّةُ متفشّيةٌ... 

توسّعت الأراضي المزروعة في مَطْلعِ عهد الاستقلال، خصوصاً في منطقة الجزيرة وكان هذا إلى حدٍّ كبير بفضلِ المكننة واستثمار بعض العائلات الغنيّة رؤوس أموالِها في الحبوب، وإلى درجةٍ أكبر في القطن الذي تَجَاوَزَ مردودُهُ عائداتِ القمح. ازدهرت سوريا الشماليّة عموماً والجزيرة خصوصاً خلالَ سنواتٍ قليلة، وأصبحت حلب عاصمةَ الاقتصادِ السوري وليس فقط القطن. بلغ هذا الازدهارُ أوجَهُ في بدايةِ الخمسينات، وانعكسَ إيجاباً على ثروةِ البلاد عموماً، وأصحابِ رؤوسِ الأموال وملّاك الأراضي، دون تحسّنٍ يذكر في وضع الفلّاح.

____________

نأتي الآن إلى الفصل التاسع عن Françoise Métral:

تغيّر الوضعُ مع منتصف وأواخر الخمسينات عندما بدأت مساوئُ استغلال التربة غير المدروس (٢) بالظهور، ولزيادة الطين بلّةً، عانت سوريّا وقتها من الجفافِ لسنواتٍ متتالية ممّا كبّد المستثمرينَ في المناطق التي اعتَمَدَت على الأمطار الموسميّة خسائراً فادحةً، أدّت إلى عجز بعضِهِم عن تسديدِ ديونِهِ، فما بالكَ بالفلّاح الذي عاشَ على هامشِ المجتمع واقتصرت طموحاتُهُ غالباً على تأمينِ قوتهِ اليومي وغذاءِ أطفالِهِ وسقفٍ يقيهِ وعيالِهِ غوائلَ الطقس؟ كان لا بدّ من عملِ شيءٍ ما. 

مع الوحدة أتى الإصلاح الزراعي عام ١٩٥٨ ليحدّ ملكيّةَ الأرض: ٣٠٠ هكتار للأراضي غير المسقيّة و ٨٠ هكتار للمسقيّة؛ إصلاحٌ خجولٌ لم يغيّر الكثير على أرض الواقع وفي كلّ الأحوال لم تطل الوحدةُ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة. حاول عهد "الانفصال"، على الأقلّ في البداية، إعادَةَ عقاربِ الساعة إلى الوراء، بيدَ أنَّ الأحداثَ التالية أثبتت أنّ "الجنّي خَرَجَ من القمقم"، وأتت قوانين الإصلاح الزراعي الجديدة في حزيران ١٩٦٣ لُتْنِزل سقفَ ملكيّة الأراضي تحت ما سَمَحَ بِهِ العهدُ الناصري. 

النوايا شيءٌ، والواقعُ شيءٌ آخر. افتَعَلَت الدولة المصارفَ الزراعيّة، والمزارعَ التعاونيّة؛ خرّجت كليّةُ التجارةِ أخصّائييّن لمدّ العون للقروييّن، وإيجاد أفضل الطرق لاستثمار التربة دون استنزافِها، والسعي إلى زيادةِ الإنتاج عن طريق زيادة المردود، عوضاً عن زيادة مساحة الأراضي المزروعة. الهدف من الناحية الاقتصاديّة ثلاثي الأبعاد:

أوّلاً: تأمين الاكتفاء الغذائي.
ثانياً: تزويد الصناعة بالمواد الأوّليّة  (القطن للنسيج والشوندر للسكّر مثلاً).
ثالثاً: خلق فائض بهدف التصدير.

هذا على الصعيد الإقتصادي، أمّا على الصعيد الاجتماعي فتركّز الاهتمامُ على رَفْعِ مستوى الريف (٣)، وتزويدِهِ بالطبابةِ والمدارسِ والكهرباء، وسائر الخدمات. علّقت السلطاتُ السوريّةُ آمالها على مشروعين بالذات: تجفيف مستنقع الغاب الذي يمكن اعتبارُهُ نجاحاً على معظمِ الأصعدة، وسدّ الفرات (٤)؛ نجح هذا الأخير إلى حدٍّ ما وإن كان هذا النجاح أقلّ ممّا قَدَّرَتهُ الطموحاتُ المبدئيّة المغرقة بالتفاؤل. 

حقّقَ السوريّون تقدّماً لا بأس به على الصعيد الزراعي مع نهاية السبعينات، ونالَ الريفُ مكاسباً لا يمكن إنكارُها. كان هناك مع ذلك ما يدعوا إلى الحَذَر إن لم نقل إلى القَلَق: الاحتياجاتُ تتزايدُ بسرعةٍ تتجاوز وتيرةَ النموّ. بالإمكان إرْجاع هذهِ المعضلة إلى عواملٍ ديموغرافيّة (تزايد السكّان)، وإنسانيّة (تزايد الاستهلاك). لا داعي للتوكيد أنّ هذه العوامل لا تقتصِرُ على سوريّا والشرق الأدنى: عددُ سكّان الأرض أكثر من أيّ وقتٍ مضى ولا زال في ازدياد، واستهلاك الناس في كافّة أنحاء العالم عمليّاً (٥) أكثر من أيّ وقت مضى. 

يداعب خيالَ كلِّ جيلٍ أملُ أن يترك لأولادِهِ وأحفادِهِ عالماً أفضل من العالم الذي ورثهُ عن أسلافِهِ.  

____________

١. دراسة Weulersse متوافرة مجّاناً على هذا الرابط وقد أشرتُ إليها سابقاً هنا وهنا
٢. يتطلّب استثمارُ التربةِ السليم حدّاً أدنى من الإلمامِ بضرورةِ تغيير المحاصيل دوريّاً، واستعمال السماد، ومعالجة التمليح إلخ.
٣. الطريقة الوحيدة العمليّة للحدّ من الهجرة إلى المدينة بغضّ النظر عن الدوافع الأخلاقيّة. 
٤. بهدف زيادة رقعة الأراضي المزروعة وتأمين الكهرباء. 
٥. مع الإقرار بالتفاوت الهائل في استهلاك الفرد بين الولايات المتّحدة والهند مثلاً. 

Monday, February 26, 2018

اقتصاد سوريّا في الستينات والسبعينات



َرَسَم Michel Chatelus الخطوطَ العريضةَ لتطوّرِ الاقتصاد السوري خلال حوالي عشرين سنة، انتهت مع صدورِ La Syrie d'Aujourd'hui عام ١٩٨٠. المعلوماتُ الآتية مستقاةٌ من الفصل السابع لهذا الكتاب، وهو مجّاني على الرابط الملحق لمن يريد التوسّع. تفتقِرُ الأرقامُ السوريّةُ الرسميّةُ إلى الدقّة، ومع ذلك يمكن من خلالِها وعَبْرَ الدراساتِ والمعطيات الخارجيّة، إعطاءُ صورةٍ معقولةٍ عن الوضع آنذاك.  

تميّزت تلك الفترة بالإصلاح الزراعي، وتأميم البنوك وشركات التأمين وعدد من الصناعات، وزيادة دور القطاع العامّ. كلّ هذا بدأ تحت الوحدة مع الخطّة الخمسيّة الاولى عام ١٩٦٠، واستُؤنِفَ في عهد البعث. هناك إيجابيّاتٌ وسلبيّاتٌ بطبيعة الحال، ومن العبث مقارنة الأرقام المطلقة: الليرة السوريّة عام ١٩٦٠ شيء، وعام ١٩٨٠ شيءٌ آخر. أحد المشاكل الكبيرة التناقضُ بين الاقتصاد الاشتراكي الموجّه من الأعلى من جهة، والحاجةُ إلى رؤوس الأموال الخاصّة والأجنبيّة لتحقيق التنمية من جهةٍ ثانية. لربّما كانت التوقّعاتُ متفائلةً أكثر ممّا ينبغي، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الخطط الخمسيّة افترضت مساعدةً خارجيّةً وصَلَت إلى ٣٠٪ من الميزانيّة!  

تناقصت حصّةُ الزراعة في الاقتصاد الوطني بالتدريج على الرغمِ من زيادة عدد الفلّاحين، وحلّ النفط (الذهب الأسود) تحديداً محلَّ القطن، أو الذهب الأبيض كما تعلّمنا في المدرسة، كأهمّ الصادرات السوريّة مع عام ١٩٧٤، وشكّل ٧٢٪ من هذه الصادرات عام ١٩٧٥ ليصبح أهمّ مصادر النقد الأجنبي الداخليّة. أمّمت سوريّا التنقيب عن النفط عام ١٩٦٤، ثمّ لجأت إلى الاستعانةِ بالخبرات السوڤيتيّة، وشَهِدَ عام ١٩٧٤ بدايةَ طرحِ العروض على الشركات الغربيّة. 

أهمُّ مشاريع التنمية السوريّة وأكثرُها كلفةً بلا منازع سدّ الفرات، وما كان لهذا المشروع أن يُخَفِّفَ التوتّر بين سوريا وتركيّا والعراق بخصوص توزيع المياه. الهدفُ من سدّ الفرات مزدودجٌ: 
١. إنتاج ما يكفي الاستهلاك المحلّي من الكهرباء (بما فيه التصنيع والتنميّة) والتصدير إذا أمكن.
٢. ريّ واستصلاح ٦٤٠٬٠٠٠ هكتار للزراعة: كان هذا الرقم قرآناً منزلاً في كُتُبِ المدارس عندما كنتُ صغيراً. 
يمكن القول أنّ السدَّ نَجَحَ في مجالِ توليد الطاقةِ الكهربائيّة إلى حدٍّ كبير، وباء بالفشلِ على الأقلّ في البداية في المجال الزراعي، عندما واجهتَهُ الكثيرُ من العقباتِ الكأداء التي لم تُدْرَس بما فيهِ الكفاية قَبْلَ التنفيذ: كيفيّة جرّ المياه للحقول بقنواتٍ فرعيّة، اجتذاب الفلّاحين للأراضي المرويّة، تصريف الملح، معالجة التربة وهلمجرّا. 

السماتُ العامّةُ للصناعةِ السوريّة، باستثناء التنقيب عن النفط والمواد الأوّليّة وتصفية الپترول، أنّها خفيفةٌ واستهلاكيّة. بقيت حصّة الزراعة هي الأكبر في الاقتصاد الوطني، وتزايدت حصّةُ البناء في منتصف السبعينات. 

أخيراً سَيْطَرَ القطاعُ العامّ ١٠٠٪ على النفطِ والمناجم، وبلغت حصّتُهُ في الصناعة الثلثين، وفي النقل ٥٧٪ حسب معطيات عام ١٩٧٥. تفّوقَ القطاعُ الخاصّ في الزراعةِ والبناءِ والتجارةِ والإيجار، أمّا الخدمات فتقاسمَها القطاعان بالتساوي تقريباً. يمكن إضافة "قطاعٍ مشترك" في الزراعة والبناء والنقل.

الوضعُ المالي  فيما يتعلّق بالديون الخارجيّة جيّدٌ مقارنةً مع الكثيرِ من البلدان النامية. وَصَفَ المؤلّفُ سوريّا بأنّها "زبونٌ صعب المراس، بيد أنّهُ جدّي يفي بالتزاماتِهِ"، ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد أنَّ البلاد ستنهار تحت وطأةِ ديونِها. 

التحدّياتُ كبيرةٌ، والخياراتُ الاقتصاديّةُ المثلى قد لا تكون كذلك من الناحيةِ السياسيّة. 



Sunday, February 25, 2018

فكرُ البعث


أودُّ قبل الدخولِ في الفصلِ السادس من كتاب سوريّا اليوم للأستاذ أوليڤييه كارّيه، إزالةَ أيّ التباس بالتوكيد أنّني لست بعثيّاً ولم أنْتَمِ لأي حزبٍ في حياتي. ليس ذلك فحسب، رَسَبْتُ مرّتين عندما كنت طالباً في جامعة دمشق في مادّة الثقافة القوميّة الاشتراكيّة، لا لأنّها صعبة، بل لعدم اهتمامي بها (١). كنت ولا زلت مؤمناً بعدم وجود مبرّر لإقحام السياسة والدين في مناهج المدارس الحكوميّة والمهنيّة ولكن ما علينا. والدي عطّرَ اللهُ ذِكْرَهُ قومي سوري، أوقَفَ نشاطَهُ السياسي أو كاد بعد فترةٍ قصيرةٍ أمضاها في السجن، في العهد الديموقراطي المزعوم في منتصف الخمسينات، على خلفيّة اغتيال العقيد عدنان المالكي. من نافل القول أنّ أبي كان مسؤولاً شابّاً صغير المرتبة في الحزب القومي آنذاك، لم يعرف المالكي ولم تكن له علاقةٌ بمَقْتَلِهِ لا من قريب ولا من بعيد. 

____________

تَنَاوَلَ Olivier Carré  في هذا البحث حزبَ البعثِ كفكر ،دون التعرّض إلى الصراع السياسي على السلطة إلّا بما هو ضروري لفهم الخطّ العامّ. جميعُ مؤسّسي البعث من خرّيجي السوربون في فرنسا: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي. هناك جَدَلٌ عن دور الأرسوزي في البدايات، وعن الخلافات الفكريّة بينه وبين عفلق والبيطار، وإن جَمَعَ بينَهم الكثير، خاصّة إيمانهم بالعروبة وعلمانيّتهم بالقدر الذي سمحت فيه ظروف سوريّا بالعلمانيّة. فاوض الدكتور وهيب الغانم عمليّةَ اندماج جناح عفلق - البيطار مع جناح الأرسوزي عام ١٩٤٧. 

حُلَّت الأحزابُ السوريّة عام ١٩٥٨ مع تحقّق الوحدة المصريّة السوريّة، وتلى هذا تشكّل اللجنة العسكريّة سرّاً في مصر على يدِ مجموعةٍ من الضبّاط السورييّن منهم حافظ الأسد وصلاح جديد. هذه اللجنة أقرب فكريّاً إلى الأرسوزي منها إلى عفلق والبيطار، ضبّاطُها شبابٌ انتموا إلى جيل لاحقٍ للضّباط البعثييّن الاشتراكييّن في الخمسينات (٢). أيّد البيطار والحوراني الانفصال عام ١٩٦١، وترتّب على هذا التأييد لاحقاً طَرْد الحوراني من الحزب في حزيران عام ١٩٦٢. انتهى عفلق والبيطار في سوريّا مع سقوط أمين الحافظ في شباط عام ١٩٦٦، وطُرِدَا من الحزب والقطر لينتهي المطافُ بالأوّل في العراق والثاني في فرنسا حتّى اغتيالِهِ في تمّوز ١٩٨٠. اتّخَذَ "البعث الجديد" (٣)  الأرسوزي أباً روحيّاً، وسُميَّت مدرسةٌ للفتيات في دمشق على اسمه، وتبرّأت الحكومات السوريّة "البعثيّة" المتعاقبة منذ ذلك الحين من تركة عفلق والبيطار من الناحية العمليّة.

____________

بيتُ القصيدِ هنا فكر البعث كما عَرَّفَهُ دستور عام ١٩٤٧، وعدّلَتهُ المنطلقات النظريّة التي تمخّضت عن المؤتمر القومي السادس في تشرين أوّل ١٩٦٣. لا يوجد تناقض جوهري بين هذه المنطلقات كما كتبها ياسين الحافظ (٤) وبين الدستور الأصلي. الفرق الأساسي هو تعريف الديموقراطيّة: هل هي دستوريّة؟ أم هي "شعبيّة"؟ الديموقراطيّة الشعبيّة تعني حسب المنطلقات سيطرة الطبقات الكادحة التي يمثّلها الحزب، وتشمل "الاشتراكيّة العلميّة" مع خططها الخمسيّة والتأميم و"رأسماليّة الدولة".

عودةٌ على بدء، تبنّى البعث علم "الثورة العربيّة الكبرى"، واتّشح بعباءة العروبة والإسلام كما فَهِمَهُما. ادّعى الأرسوزي أنّ أوّل لغة للبشر هي العربيّة، بينما أفتى عفلق بأنّ العروبة هي الجَسَد والإسلام هو الروح، مع التمييز بين الإسلام كدين والإسلام كثقافة عربيّة وطنيّة وقوميّة. ارتأى عفلق أنّ "الاشتراكيّة العربيّة" كفيلةٌ بحلِّ مشاكل الأقليّات كالبربر والتركمان، أو بالأحرى إشكاليات اندماجِهِم في "الأمّة العربيّة". 

عَرَّفَ دستور الحزب الإنسانَ العربي مَن يتكلّم العربيّة، ويحيا على الأرض العربيّة أو يتطلّع إلى الحياةِ فيها، ويؤمِنُ بانتمائِهِ إلى الأمّةِ العربيّة. آمن البعثُ بالثورة، ونَظَرَ شزراً إلى التطوّر. الزواجُ "واجبٌ قومي" مع التشجيع على التناسل. البداوةُ "حالةُ تخلّف"، ويتعيّن على الدولة مكافحة القبليّة. التعليمُ مهمّةُ الدولة، ويتعيّن إلغاء المؤسّسات التعليميّة الأجنبيّة والخاصّة. التعليم إلزامي ومجّاني، وكذلك الحال بالنسبةِ للطبابة. العملُ واجبٌ وطني، على الدولة تأمينُهُ وضمانُهُ لكلِّ قادرٍ عليه وراغبٍ فيه. مكافحةُ البيروقراطيّةِ ضروريّةٌ وهلمّجرّا.   

كلامٌ معقول على الرغم من العديد من التحفّظات. بقي أن تثبت السنوات التالية مبلغَ نجاحِ الحزب في تطبيقِهِ على أرض الواقع. 

____________

١. بالكاد نَجَحْتُ في التربيةِ الدينيّة في الثانويّة العامّة، من مُنْطَلَق أنّها لا تؤثّر على المجموع ولا على حظوظ القبول إلى الكلّيات. 
٢. أي جماعة أكرم الحوراني.
٣. أي بعد عام ١٩٦٦.
٤. تأثّرَ ياسين الحافظ بالفكر الماركسي إلى درجةٍ لا بأس بها. 


Saturday, February 24, 2018

سوريّا ١٩٤٦ - ١٩٧٩




الفصل الخامس في كتاب La Syrie d'Aujourd'hui للدكتورة Elizabeth Picard. يبلغُ طولُ المقال أربعين صفحة يمكن قراءتها بالمجّان مع بقيّة هذا الكتاب القيّم على الرابط الفائق الملحق. يتناول هذا البحث تاريخ سوريّا الداخلي والخارجي، بدايةً من جلاء القوّات الفرنسيّة وحتّى نهاية العقد الأوّل من رئاسة حافظ الأسد.

ورثت سوريّا المستقلّة مجموعةٌ مكوّنةٌ من خمسين عائلة سيطرت مع أتباعِها ومحاسيبِها على معظم مقدّرات البلد. الطبيعةُ البشريّةُ عموماً غيّورةٌ على امتيازاتِها، وليس لنا بالتالي أن نتوقّعَ أن يتطوّع الأغنياءُ بمشاركةِ سائر الطبقات الاجتماعيّة ثرواتِهِم ونفوذِهِم عن طيبةِ خاطر لا في سوريّا ولا في غيرِها. شكّلت هذه العائلات الغنيّة أو "أعيان الحضر" كما أسماهم الأكاديمي الراحل ألبرت حوراني عمادَ الكتلةِ الوطنيّة التي تزعّمت كفاح سوريّا في سبيل الاستقلال، ومع حلول هذا الاستقلال انشقّت إلى حزبين: الحزب الوطني الذي غلبت فيه الزعامات الدمشقيّة، وحزب الشعب الذي قادَهُ أعيان حلب وحمص. هناك بالطبع فروقاتٌ بين الحزبين وبين الشخصيّات القياديّة ضمن الحزب الواحد ولكنّها ليست بالجوهريّة. البرنامجُ الحزبي غائبٌ عمليّاً في كليهما، والأحزاب مثّلت أشخاصاً ولم تجشّم نَفْسَهَا عناءَ تقديمِ أفكارٍ جديدة، باستثناء قيادة البلد في عهد الاستقلال كما فَعَلَ رجالاتُها لأجيالٍ عديدة في العهد العثماني عن طريق لعب دور الوسيط بين شعوب الأقاليم السوريّة من جهة، والباب العالي في القسطنطينيّة من جهةٍ ثانية. 

مثّل هذان الحزبان المحافظان إذاً  الرعيلَ القديم، وكما لكلِّ فعلٍ ردّ فعل ،كان لا بدّ من مجيء جيلٍ جديد يتحدّى مفاهيم وسيطرة القديم. أضِفْ إلى "صراع الأجيال" داخل دولة سوريّا، الصراع الدولي والإقليمي على سوريّا كما عرّفه الصحافي البريطاني المأسوف عليهِ Patrick Seale في دراسته الشهيرة التي رأت النور في منتصف الستّينات. قادت عدّةُ أحزابٍ هذا الجيل الجديد، وعلى عكس الأحزاب التقليديّة (الوطني والشعب)، كان لهذه الأحزاب الجديدة فكرُها وبرامجُها السياسيّة والاجتماعيّة. أبرز هذه الأحزاب هي الآتية:

- الحزب القومي السوري الاجتماعي: لم تكن نتائجُهُ في انتخابات ١٩٥٤ على المستوى المأمول، وتمّت تصفيتُهُ بعد اغتيال عدنان المالكي في نيسان ١٩٥٥.

- حزب البعث العربي الذي اندمج مع حزب أكرم الحوراني العربي الاشتراكي عام ١٩٥٣. عزّزَ هذا الاندماج تغلْغُلَهُ في الجيش والأرياف عن طريق معارف ومحاسيب الحوراني، ولا ننس أنّ عفلق والبيطار من بورجوازيّة دمشق.

- الحزب الشيوعي السوري: تمتّعَ بنفوذ لا بأس به في النقابات، بيد أنّ أنصارَهُ في الجيش (أحدهم عفيف البزري) قلائل.

- حزب الإخوان المسلمين. لا يمكن نعتُهُ "بالتقدّمي" ولا ينفي هذا امتلاكَهُ لبرامج سياسي واجتماعي معيّن. لهذا الحزب عددٌ لا بأس بِهِ أبداً من المريدين والأتباع.

لا داعي للدخول في تفاصيل الأحداث التي تمخّضت عن الوحدة السوريّة المصريّة ١٩٥٨-١٩٦١. جميعُنا نعلم أنّ "عهد الانفصال" الذي تلاها (١٩٦١ - ١٩٦٣) كان آخرَ حشرجةٍ للقيادات السوريّة التقليديّة من أعيان المدن، وعلى اعتبار أنّ الحزب الوطني وحزب الشعب (ورثة الكتلة الوطنيّة) لم يتجاوزا الزعاماتِ الفرديّة، كان سقوطُ الأشخاص كافياً لاندثارهما، بينما لا تزال أحزابُ البعث والقومي السوري والشيوعي والإخوان المسلمين موجودةً إلى اليوم، بغضّ النظر عن الفروق الشاسعة بينها فكريّاً وعدديّاً وطائفيّاً. 

متاهاتُ الصراع على السلطة بين أجنحة البعث (١٩٦٣-١٩٧٠)، وقصّة سقوط "البعث اليميني" في شباط ١٩٦٦، وصعود "البعث الجديد" مع "القطرييّن" واليسار و"الاشتراكيّة العلميّة" و"حرب التحرير الشعبيّة"، مطروقةٌ في أكثر من مرجع ممتاز. حاولَ الرئيس حافظ الأسد إنهاءَ عزلة سوريا الإقليميّة والدوليّة باتّخاذِ عدّةِ إجراءات، منها الانفتاح الاقتصادي (المحدود) في مطلع السبعينات، والتقارب مع مصر الذي تُوِّجَ بحرب تشرين عام ١٩٧٣ (تدفّقت الأموال الخليجيّة على سوريا في منتصف السبعينات)، والتوسّط (الذي تلاهُ التدخّل العسكري) في الأزمة اللبنانيّة، ومحاولة خطب ودّ الأردن.

فشلت الجهودُ الهادفة إلى التقارب مع العراق لأكثر من سبب، منها النزاع على مياه الفرات (مشروع سدّ الطبقة)، وتخلّي العراق عن خطّ أنابيب النفط المارّ في سوريّا والاستعاضة عنه بخطٍّ يمرّ عبر الأراضي التركيّة. تجدّدت محاولاتُ رأبِ الصدع بين سوريّا والعراق عام ١٩٧٨ كردِّ فعلٍ على الصلح المصري - الإسرائيلي، إلى أن اكتشفت السلطات العراقيّة "مؤامرةً" سوريّةً ضدّ صدّام حسين وتدهور الوضعُ أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وانتهى الأمرُ بالقيادةِ العراقيّة إلى دَعْمِ التمرّد ضدّ الحكومة السوريّة. ترافق النصف الثاني من السبعينات مع أعمالِ عنف داخل سوريّا: رهائن فندق سميراميس تشرين أوّل ١٩٧٦، مجزرة مدرسة المدفعيّة حزيران ١٩٧٩، واغتيالات بعض الأشخاص (محمّد الفاضل، الطبيب يوسف صائغ وغيرهم). هناك أيضاً اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان عام ١٩٧٨. 

خَتَمَت المؤلِّفةُ المقالَ بانطباعٍ إيجابي: حقّقت سوريّا خلال ثلاثين عاماً من الاستقلال، على الرغمِ من التحدّيات والنكسات، تقدّماً ملموساً في نموِّها الاقتصادي وتطوّرِها الاجتماعي ووعيها السياسي.

للحديث بقيّة.     


Friday, February 23, 2018

المسألة الكرديّة



أمضيتُ مرحلةَ الدراسةِ منذ التحضيري وحتّى الكفاءة في مدرسة الإخوة المريمييّن الخاصّة في دمشق، والمرحلة الثانويّة في ما عُرِفَ آنذاك باسم معهد الحريّة الذي أسّسته بعثةٌ علمانيّةٌ فرنسيّة في عهد الانتداب. كانت معظم الطوائف السوريّة ممثّلةً بين الطالبات والطلّاب والمعلّمات والمعلّمين؛ جميعهم شاركوا في تحيّة العلم، وردّدوا شعار البعث الشهير "أمّةٌ عربيّةٌ واحدة....ذاتُ رسالةٍ خالدة"! بما فيهم الأرمن. لماذا التركيز على الأرمن؟ الجواب بكل بساطة أنّه، مع اعتقادي الراسخ أنّ الأرمن سوريّون بامتياز، من المستبعد أنّهم يعتَبِرون أنفسَهُم عرباً. لكل إنسان مُطْلَق الحقّ في تحديد هويّته، ولست هنا في صددِ الكلام نيابةً عن الأرمن وليسوا بالتأكيد بحاجة لي أو لغيري لتمثيلِهِم. ما أقولُهُ بكل بساطة أنّ أرمن سوريّا شعبٌ نشيط ومثقّف وفخورٌ بتراثِهِ، حاولَ جَهْدَهُ الحفاظَ على لغتِهِ وسمّى بناتَهَ وأبنائَهُ أسماءً ليس فيها من العروبة الشيء الكثير، وإن سايرَ الجوَّ السياسي العامّ مكرهٌ أخاك لا بطل. 

____________

ليس هذا المقال عن أرمن سوريّا الذين لم يطالبوا يوماً باستقلالٍ ولا بحكم ذاتي؛ الفقرةُ السابقة ما هي إلّا تمهيد للدخول في صلب الموضوع: ما ينطبق على الأرمن ينطبق إلى حدٍّ ما على الأكراد مع فرق أنّ أكراد سوريا، أو على الأقلّ بعضهم في الشمال والشرق،  يسيرون على خطى أكراد العراق في محاولةٍ لخلقِ كيانٍ ما، "وطن قومي" إذا شئنا. 

لا داعي للتذكير بأنّ وجودَ الأكرادِ في سوريّا قديمٌ للغاية، وأنّ كثيرين منهم انصهر في المجتمع السوري واتّخذَ العربيّة لغةً منذ مئات السنوات. الكلام هنا عن الأكراد الذين لا يتكلّمون العربيّة، أو يتكلّمونها كلغةٍ ثانية، وهم مع ذلك سوريّون شأنهم في ذلك شأن الأرمن. من المحزن أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه بتضافر عدّة عوامل منها "جرعة العروبة" الزائدة عن الحدّ (من العدل أن يقال أنّها سبقت البعث بعقود) ومنها التدخّل الأجنبي الانتهازي. 

لفت نظري من خلال قراءة الكتاب الأخير للدكتور Nikolaos Van Dam (صفحة ١٥) ما ذَكَرَهُ عن تجريد العديد من الأكراد السورييّن من جنسيّتهم عام ١٩٦٢ دون ذكر مصدر. حاولت إجراء بحث google للتحقّق من الموضوع ووجدْتُهُ بالفعل على الويكيبيديا وغيرها، بيدَ أنّ المراجع المذكورة كرديّة إن لم نقل انفصاليّة، أو ردّدت أقوال الانفصالييّن، وليست بالتالي منزّهةً عن الأهواءِ والأغراض. لا ذكر لهذا الموضوع في دراسة حنّا بطاطو عن قرويّي سوريا ولا في كتاب Patrick Seale عن الراحل حافظ الأسد وإن نجحتُ بالعثورِ عَلَيهِ مؤخّراً في كتاب الأمريكيّة Tabitha Petran "سوريّا" (١٩٧٢)، التي نوّهَت (صفحة ٢٣٦) أنّ البعثَ شنَّ حَمْلَةً عام ١٩٦٣ "لإنقاذ الجزيرة من مخطّط كردي لخلق إسرائيل ثانية"، وأنّ إحصاءً أُجْرِيَ في تشرين الثاني ١٩٦٢ (أي زمن الانفصال)، اعْتَبَر كثيراً من الأكراد أجانب رغم حيازَتِهِم على الهويّةِ السوريّة؛ تلى ذلك تجريدُهُم من الجنسيّة وطردُهم من المناطق المتاخمة للحدود التركيّة. 

____________

قدّم Michel Seurat في كتاب La Syrie d'Aujoud'hui (١٩٨٠) مزيداً من المعلومات. ذَكَرَ (صفحة ١٠٣ - ١٠٥) أنّ الأكراد مثّلوا ٧٪ من سكّان سوريّا، توزّعوا شمالاً من الغرب إلى الشرق كما يلي: ١٥٠٬٠٠٠ في منطقة جبل الأكراد، ٣٠٬٠٠٠ في منطقة عين العرب، ٣٠٠٬٠٠٠ في الجزيرة العليا حيث شكّلوا ثلثي السكّان. أضاف Seurat أنّ إحصاءً استثنائيّاً تحتَ الانفصال أسقَطَ حقوقَ ١٢٠٬٠٠٠ كردي كأجانب جُرِّدوا من الجنسيّة السوريّة. أرجَعَ المؤلّفُ أصلَ هذه السياسة إلى الملازم أوّل محمّد طلب هلال، رئيس الشعبة السياسيّة في محافظة الجزيرة، الذي نَشَرَ دراسةً في تشرين الثاني ١٩٦٣ (مطلع عهد البعث)،  أفتى فيها أنّ الأكرادَ شعبٌ لا تاريخ لَهُ ولا حضارة ولا لغة، ولا صفة لَهُ إلّا القوّة والبطش. اقترح هلال في سبيل "حلّ المشكلة الكرديّة" إقامة "حزام عربي" بطول ٣٥٠ كيلومتر وعرض ١٥ كيلومتر، يُطْرَدُ مِنْهٌ الأكراد ليحلّ محلَّهُم عربٌ قوميّون أقحاح. تمخّضت المرحلة التالية عن ترحيلِ ٣٠٬٠٠٠ كردي إلى الداخل، ومن ثمّ نقل ٢٥٬٠٠٠ فلّاح عربي ممّن غمرت مياهُ الفراتِ أراضيهم بعد بناء السدّ إلى الجزيرة العليا، وتزويدِهِم بالكهرباء والمشافي والمدارس وسائر الخدمات التي استُثْنِيَت منها قرى الأكراد. حتّى الأسماء الطبوغرافيّة الكرديّة استُبْدِلَت بأسماءٍ عربيّة.   

زَوَّدّنا Seurat للمزيد من القراءة بثلاثة عشر مرجعاً في نهاية الفصل، ذكرتُ بعضَهَا أعلاهُ. كافّة هذه المصادر فرنسيّة أو إنجليزيّة (أحدها إسرائيلي)، بما فيها دراسة فرنسيّة لبرهان غليون. من المُلْفِت للنظر غياب أي مصدر رسمي أو شبه رسمي سوري لإعطاء منظور مختلف. لربّما كانت هذه المصادر موجودةً، بيد أنّ محاولة العثور عليها كمحاولة العثور على إبرة في كومةٍ من القشّ. الإعلام السوري، كان ولا يزال، مُفْتَقِراً إلى التمويل والكفاءات المهنيّة كلّ الافتقار. 

هل جُرِّدَ بالفعل ١٢٠٬٠٠٠ كردي من الهويّة والجنسيّة السوريّة في مطلع الستينات، في عهدٍ لم يتجاوز عدد سكّان القطر فيهِ الخمسة ملايين؟ هل طُرِدَ عشرات الآلاف منهم من أراضيهِم ليحلَّ محلّهم "مستوطنون عرب"؟  لا يوجد لديّ أدنى شكّ أنّ الخطاب العروبي أخطأ في حقّ الأقلّيات السوريّة التي لا يمكن وصفُها بالعربيّة، ولكن هذا لا يعني بالضرورة دقّة الأرقام أعلاه في غياب ما يسمّى في القضاء الغربي cross examination من السجلّات السوريّة الحكوميّة. الأكرادُ في النهاية رفاقُ دربٍ وإخوةٌ وأهلٌ بربطنا مَعَهُم تاريخٌ يعود على الأقلّ إلى العهد الأيّوبي والناصر صلاح الدين، الذي شاءت الأقدار أن يكونَ مثواهُ الأخير في عاصمتِهِ الثانية دمشق.  

Thursday, February 22, 2018

الطائفيّةُ المقنّعة


لربّما كان العنوان الأصحّ لهذا المقال "الطائفيّة التي سَقَطَ القناعُ عنها". موضوعُ حديثِ اليوم المقالُ الرابع في كتاب سوريا اليوم بقلم Michel Seurat، وبعنوان "الشعوب، الدولة، والمجتمع". البحثُ شديدُ الغنى بالمعلومات، يتجاوز الخمسين صفحة، ويصْعُبُ بالتالي إعطائَهُ حقَّهُ في منشورٍ واحد؛ من هنا لجوئي إلى توزيعِهِ على مقالين مع مقدّمةٍ قصيرة قبل التعرّض لفحواه.

الخطابُ السوري عموماً والبعثي خصوصاً عروبيٌّ بامتياز، يشجب الإقليميّة والعشائريّة والطائفيّة إلى درجةِ إنكارِ هويّة الغير، أو على الأقلّ تجاهلِها. كلّ من درس مناهج المدارس السوريّة يعلم أنّها تخلو من أي إشارة إلى الأقليّاتِ الدينيّة وتاريخِها ومعتقداتِها. طلّابُنا يدرسون تاريخ "الوطن العربي"، ولكنّهم لا يعرفون عن الطوائف الدرزيّة والعلويّة والإسماعيليّة والمسيحيّة في سوريّا إلّا ما يتلقّونه في دروس "التربية الدينيّة"، وما يتعلّمونَهُ من أهلِهِم وفي دور عبادتِهِم، وما يتهامسُ بِهِ الكثيرون منهم عن بقيّةِ الطوائف، ومِنْهُ ما هو سلبيٌّ إلى أبعد الحدود. النتيجةُ المحتومة فتحُ الباب على مصراعيه للجهلةِ في الداخل والمُغْرِضين من الخارج ليقولوا ما يشاؤون، ويبذروا الفتنةَ الطائفيّة التي اعتَقَدَ الإعلامُ السوري القاصر والمناهج المدرسيّة المتخلّفة أنّ عدمَ الكلامِ فيها يكفي لإلغائها. 

____________     

تعود بي الذاكرة إلى أواخر عام ١٩٨٣، ومدرسة المشاة في حلب. طالت إقامتي في هذه المدرسة كطالب ضابط حوالي ثلاثة أشهر، وُزِّعَ الطلّابُ خلالَها على مهاجِعٍ بمعدّل ثمانية شباب في الغرفة. لا تترك طريقةُ الفَرْزِ مجالاً للشكّ أنَّ المقصودَ بها "خلط" الطلاّب قدر الإمكان. كان نصيبُ غرفتي ٥ من السنّة، و اثنان من المسيحييّن (أحدهما آشوري)، وعلوي واحد. هذا عن التوزيع الطائفي، أمّا الإقليمي فهناك اثنان من دمشق، وحلبي، وحمصي، وثلاثةٌ من اللاذقيّة (أحدهم من المدينة)، والأخير من الحسكة. لم يتطوّع أحدُ بذكْرِ دينِهِ بطبيعةِ الحال، بيدَ أنّ المرءَ لا يحتاجُ لمواهب الأنبياء والعرّافين لتحديد منشأ اللهجة، ومن التبست لهجُتُه يمكن الاستدلال عليه من سلوكِهِ (الصلاة مثلاً)، أو لباسِهِ (١)، أو اسمِهِ (٢). ليس هذا فحسب، أذكر خلال خدمتي اللاحقة في لبنان كيف وبَّخَ ضابطٌ جنديّاً عندما عرّف الأخير نفسه "كدرزي"، وكأنّ في ذلك ما يعيب، أو أنّ فيهِ إثارةٌ "للنعرة الطائفيّة"!

على الهامش، الأشخاصُ في الصورةِ الملحقة من يمين الناظر إلى يسارِهِ:

- النسق الخلفي: فاروق كرّوم (اللاذقيّة)، ؟ (ريف اللاذقيّة)، خالد سلطان (دمشق)، عبد الله محسون (حلب). 
- النسق الأمامي: هيثم فرح (ريف اللاذقيّة)، فريد كوركيس (الحسكة)، هيثم قدح (دمشق)، تامر كحيل (حمص). 

ليس المقصودُ هنا التشكيكَ في حسنِ نوايا العروبييّن؛ الاعتراضُ بالأحرى على الأسلوب الأخرق: حلُّ المشاكل العشائريّة والطائفيّة لا يكون بتجاهُلِها كضربٍ من المحرّمات، بل بالاعترافِ بالفوارق واحترامِها علناً وعلى رؤوس الأشهاد، لا بل بفرضِ هذا الاحترام بقوّةِ القانون إذا دَعَتِ الحاجة. 

____________

ارتأى Seurat وبحقّ أنّ تعريفَ "المجتمع السوري" صعبٌ للغاية، وذَهَبَ إلى حدّ القول أنّ هذا المفهوم عديمُ المعنى إذا أخذنا بعينِ الاعتبار الخلط بين "الشعب" و"الأمّة". الأمّةُ في الشرق الأدنى "أمّةُ الإسلام" بغضّ النظر عمّا يُدَرَّس في كتب التربية الوطنيّة، وتكافئ "الملّة" في العهد العثماني، ومن هنا القول الشامي المأثور "يللّي ما بياخد من ملّتو بيموت بعلّتو". الملّةُ إذاً هي الدين، بينما "الدولة" جهازٌ بيروقراطي وعسكري يتعيّن التمييز بينها وبين "الأمّة الدولة" أو "الدولة القوميّةNation-State في الغرب. يترتّبُ على ذلك أنّ تحقيقَ الوحدةِ على المستوى الاجتماعي الخالص أمرٌ غير وارد، وأنّ الطريقةَ العمليّة الوحيدة فرضُها من الأعلى من قِبَل السلطة الحاكمة. 

أعطى المؤلّفُ نَبْذَةً عن الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة مع التركيز على طابعها التاريخي. تحديد التوزّع الديموغرافي الديني صعبٌ للغاية: أجْرِيَ آخرُ إحصاء طائفي في سوريّا عام ١٩٦٠، ليتوقّف بعدها إلى إشعارٍ آخر. يمكن مع ذلك القول أنّ نسبةَ المسيحييّن تناقصت في الستين عاماً الأخيرة (٣) ولأكثر من سبب. المعلوماتُ عن الطائفة العلويّة (٤) إلى أمدٍ قريب قليلةٌ للغاية، ومستقاةٌ في معظمِها من أعدائها. اعتَبَرَت الدولةُ السوريّة المرشديّة في مطلع عهد الاستقلال (٥) حركةً انفصاليّة وأعدَمَت زعيمَها كما هو معروف. 

نأتي بعد العلوييّن إلى الدروز، فالمسيحييّن (بكلّ طوائِفِهِم)، فالأكراد، فاليهود، فالشركس، فالإسماعيلييّن، فاليزيدييّن. بالنسبة لسكّان الفيافي هناك الشوايا (٦) والبدو (٧) الذين قلَّ عددُهم كثيراً مع تناقصِ الحاجة إلى الجمالِ من ناحية، وسعي الدولة لتوطينِهِم بشتّى الوسائل من ناحيةٍ ثانية. تغيّرت علاقةُ الريفِ مع المدينة، إذ أدّت الهجرةُ المتزايدة والمُتَسارِعة نَحْوَ المدن، بهدف العمل أو الدراسة وهلمّجرّا، إلى ما اعتبره البعضُ "قرونة المدن"، عوضاً عن "تمدين أهل الريف". 

الطائفيّةُ كامنةٌ أبداً تحت الرماد حتّى على مستوى الأحزاب "العلمانيّة": الحزب الشيوعي السوري كردي - مسيحي (٨)؛ الحزب القومي السوري علوي - مسيحي؛ البعث مُخْتَلِف التركيب حسب المنطقة والأشخاص.

أفتى الدستور السوري عام ١٩٥٣ بالإسلام ديانةً للرئيس. اعتبر الكثيرون مع شديد الأسف فرضَ سيطرة الأغلبيّة طريقةً مثلى للقضاء على النعرة الطائفيّة.  

للحديث بقيّة. 

____________

١. خصوصاً بالنسبة للنساء في الحياة المدنيّة .
٢. من غير المحتمل أن يسمّي المسلم ابنَهُ "جورج"، أو الشيعي "معاوية". 
٣. ازدادت نسبةُ المسيحييّن  في عهد الانتداب، خصوصاً في حلب بعد لجوء الأرمن الذين استعان بهم الفرنسيّون مع الشركس لإخماد الثورة السوريّة حسب المؤلّف. 
٤. دُعِيَت الطائفةُ العلويّة نصيريّة قبل الانتداب، ثمّ اختفت هذه التسمية أو كادت إلى أن أحياها طائفيّو القرن الحادي والعشرين بمعنى سلبي. 
٥. أو مؤسِّسها سليمان المرشد على الأقلّ. 
٦. أنصاف البدو من رعاة الأغنام في الجزيرة.
٧. رعاة الجمال. 
٨. للشيوعييّن تواجدٌ معيّن في حيّ القصّاع في دمشق. 

Wednesday, February 21, 2018

سوريّا من العثمانييّن إلى الاستقلال



استقيتُ معظمَ المعلوماتِ أدناه من كتاب "سوريا اليوم" La Syrie d'Aujoud'hui الصادر عام ١٩٨٠، ومن فصلين بالتحديد: الأوّل بقلم Jean-Paul Pascual يتناول العهد العثماني والثاني كتبه André Raymond يتابع من عام ١٩١٤ (بداية الحرب العظمى) حتّى جلاء الفرنسييّن عن سوريا عام ١٩٤٦. لا داعي لتلخيص أحداث هذه الفترة المعروفة من العديد من المصادر، وأكتفي بالأحرى بتسليط الأضواء على بعض النقاط الهامّة التي أغْفَلَها أو تَجَاَوَزها السرد التقليدي الذي تعلّمناه في المدارس منذ صِغَرِنا وتعوّدنا أن نقبله أو على الأقلّ نتقبّله دون جدل، ودون أي محاولة جديّة لاستطلاعِ آراءٍ مغايرة. 

المعطياتُ الديموغرافيّة عن سوريّا في ثلاثينات القرن التاسع عشر تقريبيّةٌ، تستندُ على مصادرٍ غير مباشرة، قُدِّرَ عددُ السكّانِ آنذاك بناءً عليها بمليون ونصف من الحضر ونصف مليون بدوي. احتلّت دمشق المرتبةَ الأولى بين المدن (١٠٠٬٠٠٠ - ١١٠٬٠٠٠ نسمة)، وتلتها حلب (٨٠٬٠٠٠ بعد أن دَمَّرَ زلزالُ ١٨٢٢ قسماً كبيراً منها). بينما بَلَغَ عددُ سكّان طرابلس ١٠٬٠٠٠ إلى ١٥٬٠٠٠. كافّة المدن الباقية ١٠٬٠٠٠ إنسان أو أقلّ، بما فيها بيروت التي تَسَاَرع نموُّها أسيّاً في العقود اللاحقة. تغيّرَ التكوين الإثني للسكّان في بعض المناطق، إمّا نتيجةً لفِتَنٍ طائفيّة أشهرها مجزرة ١٨٦٠ التي هاجرت في أعقابها ٦ - ٧ آلاف عائلة درزيّة من لبنان إلى جبل حوران (١)، وإمّا نتيجةً لسياسةٍ واعية انتهجتها الدولةُ العثمانيّة لحماية الأراضي الزراعيّة من غزوات البدو، على سبيل المثال خلق مستوطنات شركسيّة في سبعينات القرن التاسع عشر. 

تقاسم الإنجليز والفرنسيّون الشرق الأدنى في أعقاب الحرب العالميّة الأولى كما هو معروف. كَتَبَ Arthur James Balfour إلى رئيس وزراء بريطانيا David LLoyd George في ١٩ شباط عام ١٩١٩ في هذا الصدد "أنّنا نرفض عمداً وبحقّ مبدأ تقرير المصير في حالة فلسطين". حاوَلَت بعثة King & Crane الأمريكيّة استطلاع رأي المعنييّن، ونشرت نتائج هذا الاستطلاع مع توصياتِها التي تعرّضت في جملةِ ما تعرّضت إليه لموضوع الانتداب، وطَرَحَت إمكانيّةَ قبولِ انتدابٍ فرنسي على جبل لبنان فقط (٢)، حيث تمتّعت فرنسا بشعبيّةٍ حقيقيّة. تجاهلت القوى الأوروپيّة توصيات البعثة جملةً وتفصيلاً. 

أثبتت الأحداث التالية لفيصل "ملك سوريا" أنّ فرنسا أهمّ لمصالح لندن من إرضاءِ طموحاتِهِ الشخصيّة وطلباتِ أبيه المزعجة، وتحتّم عليهِ بالتالي الوصولُ لاتفاق ما مع پاريس إذا أرادَ الاحتفاظَ بعرشِهِ، وهكذا قبل إنذار غورو الشهير وعلَّقَ المؤتمرَ السوري، وبدأ بتسريحِ الجيش وقمع المظاهرات المعارِضة عندما سقط ٢٠٠ قتيل في دمشق ليس على يد الفرنسييّن، بل قوّات فيصل. قابل ساطع الحصري غورو في عاليه في محاولةٍ لكسب الوقت والوصول إلى تسوية، والنتيجة التي نعرفها جميعاً أنّ فيصل "رضي بالهمّ والهمّ ما رضي فيه"، وُطِرَد من سوريّا ليعوِّضَهُ الإنجليز عرشاً في العراق فيما بعد على مبدأ "عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ".   

نأتي الآن إلى مأساة اسكندرون. أشارت كافّة الأدلّة حتّى مطلع الثلاثينات أنّ الأتراك كانوا أقليّةً في هذا اللواء، إلى أن دَخَلَتْهُ قوّاتُهُم في ٥ تمّوز ١٩٣٨ وأجرت إحصاءً "على كيفها" أثبتت فيه أنّ نسبة الأتراك بَلَغَت ٦٣٪. هُجِّرَ بالنتيجة  ١٤٬٠٠٠ أرمني وكثيرٌ من عربِ اسكندرون بعد أن ضمّته تركيا الكماليّة بموافقة سلطات الانتداب. 

هذا لا يعني عدم وجود مؤيّدين للوجود الفرنسي ونزعات انفصاليّة في عدّةِ مناطقٍ سوريّة، منها جبل الدروز واللاذقيّة ومنطقة الجزيرة، ولأكثر من سبب. بالَغَ الوطنيّون في إيمانِهِم بوجود "لُحْمَةٍ سوريّة" كانت آنذاك في طور المخاض، وأثارَت مساعيهُم ريبةَ وحذر الأقليّات. بالطبع كان هناك سياسةٌ فرنسيّةٌ واعية لخطبِ ودّ هذه الأقليّات وتجزئة البلد ما أمكن بهدف إضعاف المعارضة، ومع ذلك تقتضي الموضوعيّةُ الإقرارَ أنّ الأمورَ لم تكن سمناً وعسلاً قبل الفرنسييّن. زَرَعَت سلطاتُ الانتداب أقليّاتٍ كرديّةٍ ومسيحيّةٍ في الجزيرة، وساهم هذا الإجراء بزيادةِ التوتّر في الثلاثينات.

للحديث بقيّة.                   



١. الهجرة الدرزيّة الأولى لما عُرِفَ لاحقاً بجبل العرب أو جبل الدروز تَلَت معركة عين دارة عام ١٧١١.
٢. أي متصرّفيّة ١٨٦٠. 

Tuesday, February 20, 2018

سوريّا اليوم



تَصَدَّرَ عنوانُ La Syrie d'Aujourd'hui كتابَيْن: الأوّل للدكتور Louis Lortet يعودُ إلى العام ١٨٨٤، والثاني لعدّة مؤلّفين تحت إشراف André Raymond عام ١٩٨٠. يفصلُ بين الكتاب الأوّل والثاني إذاً قرابةُ مائة سنة ولا يوجد بينَهُما قواسمٌ مشتركةٌ تستحقّ الذكر باستثناء العنوان واللغة الفرنسيّة. حتّى جغرافيّاً سوريّا Lortet "الأولى" (الساحل ولبنان بما فيه بعلبك والأراضي المقدّسة ودمشق ومحيطها)، تختلفُ عن سوريّا Raymond "الثانية" خليقة الانتداب الفرنسي تمام الاختلاف. أضِف إلى ذلك أنّ الدكتور Lortet طبيب وعالم بالنبات والحيوان والإنسانيّات anthropology، وكتابُهُ وصفُ رحّالةٍ أديب وجهدُ فَرْدٍ وليس بحثاً علميّاً بالمفهوم الحديث، وإن كان مع خضّم اللوحات الرائعة التي تزيّنُهُ مرجعاً تاريخيّاً لا يقدّر بثمن. 

موضوع البحث هو الكتاب الثاني المؤلّف من أربعمائة صفحة ونيّف، وثلاثةِ عشر فصلاً كَتَبَها ثلاثةُ عشرٍ من الأخصّائيّين، تغطّي سوريّا من نواحٍ جغرافيّةٍ وتاريخيّةٍ وسياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وديموغرافيّةٍ وثقافيّة. خُصِّصَ فصلٌ مستقلٌّ لدمشق وآخر لحلب.  


يعالج الفصل الأوّل المعطيات الجغرافيّة، ويرتأي المؤلّف Paul Sanlaville أنّ حمصَ مؤهّلةٌ أكثر من دمشق وحلب عاصمةً لسوريّا كما خَلَقَتْها فرنسا، نظراً لموقِعِها المركزي وسيطرتِها على أهمِّ الطرق المؤدّية إلى الساحل عبر الفجوة بين جبال العلوييّن وجبال لبنان. قَدَّرَ الكاتبُ عددَ سكّان سوريّا بحوالي ٦٬٣٠٥٬٠٠٠ عام ١٩٧٠، ازداد إلى ٧٬٨٤٥٬٠٠٠ عام ١٩٧٧ (أي مليوناً ونصف المليون) أمّا على مستوى المدن عام ١٩٧٠ فالتعداد كما يلي:

- دمشق ٨٧٨٬٠٠٠ نسمة.
- حلب ٦٣٩٬٠٠٠.
- حمص ٢١٥٬٠٠٠.
- حماة ١٣٧٬٠٠٠.
- اللاذقيّة ١٢٥٬٠٠٠. 
- دير الزور ٦٦٬٠٠٠.
- القامشلي ٤٧٬٠٠٠.
- الرقّة ٣٧٬٠٠٠.
- الحسكة ٣٢٬٠٠٠. 
- طرطوس ٣٠٬٠٠٠. 

يجب ألّا ننسى أنّ معظم السورييّن وقتها كانوا من سكّان الأرياف.

يمكن تقسيم الإقليم إلى ثلاثة مناطق:

- الساحل على البحر المتوسّط مع الجبال الملحقة، وهو بالطبع الأغنى بالأمطار.
- سهوب البادية steppe التي تتلقّى ٢٥٠ إلى ٥٠٠ معشار المتر من المطر سنويّاً، وتشمل حوالي ثلث الأراضي السوريّة، وتأخُذُ شَكْلَ هلالٍ يمتدُّ من الجزيرةِ شمالاً إلى جبل الدروز جنوباً.
- الصحراء التي تَشْغَل ٥٨٪ من الأراضي السوريّة، وتتلقّى أقلّ من ٢٥٠ معشار المتر من المطر سنويّاً. يمكن تصوّر هذه المنطقة كمثلّثٍ كبير، قاعدتُهُ الحدود السوريّة العراقيّة، وإن شَمَلَت واحاتٍ هامّة، خصوصاً تدمر ودمشق التي عوّضَتْها مياهُ بردى والفيجة عن شحِّ الأمطار.   

للحديث بقيّة. 

Saturday, February 17, 2018

Ḥammām az-Zayn


Located outside the city walls, on the street connecting Sinān Pāšā's mosque with that of Murād Pāšā an-Naqšbandī, this bathhouse belongs to the Mamlūk era. 

The bathhouse was mentioned in the endowment foundation of al-madrasā al-ʾAfridūnīyyā. According to Sauvaire (after al-ʿAlmawī and an-Nuʿaymī), the founder of the madrasa died in 1348; consequently, the bathhouse was constructed in or before that year. Another clue is the marked similarity between the muqarnas of the bathhouse's cupolas and those ornamenting the minaret of Tankiz Mosque, erected in 1317. Briefly, there exists adequate evidence that the building was originally constructed at the beginning of the 14th century, later modifications notwithstanding. 

The bathhouse was functioning in 1943 when its condition was described as fair by Écochard and Le Cœur.  

Fast forward to 2009, when the Danish Institute's study was published. Professor Stefan Weber describes the structure's condition as "good" but gives 1397 as the year of construction. He adds, relying on an inscription, that the bathhouse was modernized in 1872.