Monday, January 13, 2020

والي دمشق محمّد راشد باشا‎


لا بدّ من توخّي الحذر لدى الاستشهاد بأي مرجع محليّاً كان أم أجنبيّاً فهو في نهاية المطاف يعكس وجهة نظره كاتبه وليس بالضرورة الحقيقة المطلقة ولربّما كان الشرقيّ أميل لا شعوريّاً إلى تبنّي ما قاله المستشرقون عن بلاده إذا اتّفق مع وجهة نظره ورفضه تماماً إذا خالفها. الأمثلة كثيرة وعلّ الأمريكي Mark Twain أحد أشهرها في كتابه "الأبرياء في الخارج" الذي نشر عام ١٨٦٩ (أي نفس العام الذي نشر فيه الاسكتلندي John MacGregor  كتاب "Rob Roy على نهر الأردنّ). يحلوا لمحبّي دمشق الاستشهاد بالعبارة التالية في كتاب Twain التي يختارونها بمنتهى العناية ويضربون صفحاً عمّا لا يعجبهم:

Go back as far as you will into the vague past, there was always a Damascus. In the writings of every century for more than four thousand years, its name has been mentioned and its praises sung. To Damascus, years are only moments, decades are only flitting trifles of time. She measures time, not by days and months and years, but by the empires she has seen rise, and prosper and crumble to ruin. She is a type of immortality.   


"دمشق موجودة أبداً مهما توغّلت قدماً في الماضي. اسمها مذكور في كتابات كلّ قرن عبر أربعة آلاف سنة غنّيت مدائحها خلالها. السنين لحظات بالنسبة لدمشق والعقود هنيهات من الزمن. لا تقيس دمشق الوقت بالأيّام والأشهر والسنوات بل بالإمبراطوريّات التي شهدت صعودها وازدهارها وانهيارها. دمشق شكل من أشكال الخلود". 

جميل جدّاً. فلنر الآن ما كتبه نفس المؤلّف في نفس الكتاب عن نفس المدينة:

 If I were to go to Damascus again, I would camp on Mahomet's hill about a week, and then go away. There is no need to go inside the walls. The Prophet was wise without knowing it when he decided not to go down into the paradise of Damascus.  

 It is so crooked and cramped and dirty that one can not realize that he is in the splendid city he saw from the hill-top. 

 The Damascenes are the ugliest, wickedest looking villains we have seen.


"إذا قدّر لي زيارة دمشق مجدّداّ فسأخيّم حوالي الأسبوع على نفس التلّ الذي وقف عليه محمّد ثمّ أعود من حيث أتيت إذ لا لزوم للولوج إلى داخل الأسوار وكان النبيّ -دون أن يعرف ذلك- محقّاً عندما قرّر عدم دخول جنّة دمشق...أزقّة دمشق متلويّة والبلد مزدحمة وقذرة إلى درجة أنّ المرء يعجز عن إدراك أنّها نفس المدينة الرائعة التي رآها من قمّة التلّ....الدمشقيّون أبشع وأخبث الأشرار الذين شاهدناهم في حياتنا"... إلى آخره إلى آخره...

تولّى محمّد راشد باشا دمشق (أو ولاية سوريا إذا شئنا) ١٨٦٦-١٨٧١ وهي فترة طويلة بالمقارنة مع غيره من الحكّام مع استثناء البعض من آل العظم وأمثال حسين ناظم باشا. استعرت الصورة من الويكيبيديا وهناك مقال مفصّل عن راشد باشا بالإنجليزيّة للمهتمّين. للرجل عدد لا بأس يه من الإنجازات علّ أهمّها في مدينة دمشق تخطيط ساحة المرجة عام ١٨٦٦ التي تطوّرت لتصبح مركز المدينة في أواخر العهد العثماني.

ودّع MacGregor دمشق في الأوّل من كانون الثاني يناير ١٨٦٩ والأسطر التالية تعريب عن الصفحتين ١٨٢-١٨٣ من كتابه دون أدنى محاولة لتلطيف ما قاله فما يهمّنا ليس رأيه حسناً كان أم سيّئاً بل ما اكتشفه وتوصّل إليه بمثابرة وهمّة لا نملك إلّا احترامها والإعجاب بها.

أتى الباشا مجدّداً مع حاشيته لرؤية زورق Rob Roy. استطعنا تبادل الحديث نظراً لكونه يتكلّم الفرنسيّة ووجّه إليّ عدّة أسئلة في صميم الموضوع. الباشا رجل ذكي ولطيف وهو ماسوني ملتزم يرتدي ثياباً نصف أوروبيّة كحلّ وسط غير موفّق بين نوعين من الأردية أحدهما شرقيّ فضفاض ومتهدّل يتألّق بأناقة ولكنّه عديم القيمة إذا تطلّب الموقف عملاً ما وغير مناسب تحت المطر والثاني غربي باهت اللون ولكنّه موائم تماماً للجهد العضلي وفي حال التعرّض للشمس والعواصف.  

لم يصف أحد على حدّ علمي حتّى اليوم دمشق كما ينبغي وعلّ السبب أنّ الرحّالة اللبيب يملك ما يكفي من حدّة الذهن والمحاكمة ليرسم صورتها بكلماته مدركاً أنّ جمالها عبارة عن مخاتلة تمليها العواطف. عبثاً يحاول المرء أن يشعر بإعجاب لا يوجد في هيئة المكان ما يدعوا إليه. لربّما كانت دمشق الأقدم من المدن ولكنّها بالتأكيد الأقذر عندما تمطر السماء. لربّما كانت غنيّة ولكن جدرانها الطينيّة -وهي كلّ ما يراه العابر- لا تظهر هذا الغنى. دمشق مخيّبة للآمال ويعود جمالها بالدرجة الأولى إلى موقعها ولكن بمجرّد الدخول إليها يتعذّر عليك أن تدرك خلال سيرك في أزقّتها الوسخة بين جدرانها المتداعية وحوانيتها الكئيبة وعبر أسواقها المتعرّجة أنّ ظاهرها بساتين غنّاء وينابيع متدفّقة وحدائق كثيفة وتلال مجيدة. غادرت دمشق للمرّة الرابعة غير مأسوف عليها. 



  





Mark Twain. Innocents Abroad

Stefan Weber. Ottoman Modernity and Urban Transformation 1808-1918. Proceedings of the Danish Institute in Damascus V 2009. 

No comments:

Post a Comment