يعود الفضل لابن عساكر الدمشقي، الإمام العالم الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي، (١١٠٥ ـ ١١٧٦ للميلاد) في تأليف أوّل دليل طبوغرافي معروف لمدينة دمشق، ولا يزال كتابُهُ أساسَ كلّ الدراسات الطبوغرافيّة لها ولمعالمِها كما كانت في القرون الوسطى؛ استقى منه ابن شدّاد بعد مائة عام، والنعيمي (وفيّات ١٥٢١) في مطلع القرن السادس عشر.
"تاريخ مدينة دمشق" الكامل لابن عساكر عملٌ هائل توزّع على ثمانين مجلّداً استغرق تحقيقُها عشرات السنوات، وهي اليوم متوافرة ورقيّاً وإلكترونيّاً (التحميل مجّاني). هذه الموسوعة، بالدرجة الأولى، تراجم biographies، وموضوع البحث هنا لا يتجاوز الجزء الثاني المتعلّق بمدينة دمشق تحديداً، كما حققّه صلاح الدين المنجّد، ونشره المجمع العلمي العربي للمرّة الأولى عام ١٩٥٤.
شهد عام ١٩٥٩ نشر ترجمة "الخطط"، أي الجزء الثاني من "التاريخ"، إلى الفرنسيّة على يد المستشرق الألمعي Nikita Elisséeff (١٩١٥ ـ ١٩٩٧)، مِن قِبَل المعهد الفرنسي في دمشق Institut Français de Damas. يقتضي العدلُ التنويهَ أنّ إسهام إليسييف تجاوز بكثير نقل هذه العمل الذي لا يقدّر بثمن بأمانةٍ ومهنيّة، ليغنيهِ بالشرح والإيضاح والحواشي والتعليقات التي تعرّضت لأدقّ التفاصيل. ليس من السهل اليوم الحصول على نسخةٍ من الطبعة الأصليّة، ولحسن الحظّ أُعيدَ طبعُ الكتاب عام ٢٠٠٨، بمناسبة اختيار دمشق عاصمةً للثقافةِ العربيّة.
يمكن اختزال نهج ابن عساكر بكلمتين: "التعداد والإسناد". توخّى الحافظ غايةَ الحرص في ذكرِ مصادِرِهِ التي فُقِدَت بالكامل تقريباً؛ يعود أقدمُ هذه المصادر - المقصود هنا الطبوغرافيّة منها خصوصاً - إلى القرن التاسع الميلادي. التوكيد على هذه النقطة شديد الأهميّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ ابن عساكر تعرّضَ لأحداثٍ أقدم من ذلك بكثير، وعلى سبيل المثال بناء الجامع الأموي في مطلع القرن الثامن. للتوضيح تاريخ ابن عساكر أقرب ما يكون إلى ترديد ما سمعه شفهيّاً عن محدّثين، وليس مؤرّخين، سمعوا بدورهم من محدّثين قبلهم، على طريقة صحيح البخاري ومسلم وغيرها من "الصحاح". تجدر الإشارة هنا أنّ الإسناد، بمقاييس القرون الوسطى، لا يقلّ أهميّةً إطلاقاً عن المَتْن (النصّ) وأحياناً يفوقَهُ أهميّةً. بعبارةٍ ثانية، كلّما دقّق الكاتب وأسهب في الإسناد، كلما زاد رصيدُهُ كضليعٍ ومتبحّر في علوم ذاك الوقت.
هذا عن الإسناد فماذا عن التعداد؟
هنا لا نملكُ إلّا أن ننحني احتراماً للجهود التي بذلها المؤلّف، بوسائلٍ بدائيّة، في توثيقِ معالم مدينَتِهِ ميدانيّاً على أشملِ وجهٍ ممكن: من دور العبادة، ومنازل عليّة القوم، وأقنية، وحمّامات، وأبواب، ومقابر، بدايةً بالمعالم الواقعة ضمن سور المدينة، ونهايةً بأرباضِها والقرى المحيطة بها. تمثّل أسلوب ابن عساكر في اتّباع اتّجاه معيّن (في حال الجوامع مثلاً انطلاقاً من الغرب وباب الجابية)، وتغطيتِهِ بالكامل، قبل أن ينتقل إلى التالي. بإمكاننا إذاً أن نرافِقَهُ، إذا جاز التعبير، ولو بالخيال، في مسارِهِ حول المدينة للتعرّف على حاراتِها وأزقّتِها والمعالم المطلّة على دروبِها.
هاك على سبيل المثال أسلوب الكاتب في توثيق جوامع دمشق: لا توجد، من الناحية العمليّة، معلوماتٌ تذكر عن أي معبد أو مبنى (باستثناء الأموي)، ولا يتجاوز ما كتّبَه ابن عساكر عن أي جامع عادةً أسطراً معدودة (٢ ـ ٣) تذكر اسم المسجد، والحارة التي تواجد فيها، والمبنى أو المباني المهمّة والأسواق المجاورة، وما إذا كان له وقف وإمام ومؤذّن وإذا كان فيه سبيل للمياه (سقاية)، أو كان على مستوى الأرض (سفل).
من نافل القول أن الغالبيّة العظمى من هذه المعالم اندثرت إلى غيرِ عودة أو تغيّرت جذريّاً، وأنّ أسماءَ العديدِ من الدروبِ والحارات والأسواق والقرى تختلف اليوم، اللهمّ إن كانت لا تزالُ موجودةّ، عمّا كانت عليه قبل ثمانية قرون. مع هذا تمكّن صلاح الدين المنجّد، استناداً إلى وصف ابن عساكر، من تصميم خريطة طبوغرافيّة مبسّطة للمدينة، استند عليها إلسييف بدورِهِ ليضع، مستعيناً بدراسات الألمانييّن Wulzinger و Watzinger، خريطةّ طبوغرافيّةً عالية الدقّة لدمشق كما كانت في القرن الثاني عشر للميلاد، وتحديداً في عهد الأتابك نور الدين زنكي. في زعمي أنّ هذه الخريطة أهمّ إضافات إليسييف إلى تحقيق المنجّد على الإطلاق.
أرفقُ مع هذه الأسطر صورة غِلافيّ الطبعتين الأولى والثانية لترجمة إليسييف.

No comments:
Post a Comment