الكاتب، فرانك كارپنتر (١٨٥٥ ـ ١٩٢٤)، صحافي ورحّالة أمريكي؛ الكتاب "الديار المقدّسة وسوريّا" (إصدار ١٩٢٢) متوافر بالمجّان للقراءة والتحميل، موزّع على قرابة ٣٠٠ صفحة، ويحتوي على ٩٦ صورة تاريخيّة بالأبيض والأسود، مع خريطتين إحداهما لفلسطين والثانية للشرق الأدنى. كارپنتر غزير الإنتاج، ألّف العديد من الكتب الموجّهة للزوّار ومن يريد التعرف على شعوب وثقافات متنوّعة عبر مختلف القارات. المؤلّف، علاوةً على ضلوعِهِ بالجغرافيا، مصوّرٌ موهوب، كَتَبَ بلغةٍ سهلة المتناول، ممّا أسهم في شعبيّةِ أعمالِهِ ورواجِها من ١٩١٥ إلى ١٩٣٠.
تجدرُ هنا الإشارةُ إلى خلفيّةِ الكاتب والإطار الزمني والمكاني لعملِهِ. يتجلّى من استعمال السيد كارپنتر لتعبير "مخلّصنا"، أنّه مسيحي؛ ولكن بمتابعة القراءة، نصلُ إلى نتيجةٍ مفادُها أنّه أوّلاً وآخراً غربي، لا يكنّ لمسيحيّي الشرق الأدنى الكثير من الاحترام، ويضعهم على مستوى واحد مع المسلمين أو حتّى دونهم، عندما يشير إلى شجار الطوائف المسيحيّة الصبياني بعضها مع البعض الآخر، وتدخّل الجنود المسلمين لفكّ هذا الشجار. يترتّب على ذلك أنّ المؤلِّف، إذ يزفّ عودة "الحكم المسيحي للأراضي المسيحيّة"، مع دخول الجنرال اللنبي إلى القدس في كانون أوّل ١٩١٧، يقصد بالأحرى عودة "الحكم الأوروپّي". أتى الكتاب بعد أربع سنوات من نهاية "الحرب العظمى"، أو ما يسمى حاليّاً بالحرب العالميّة الأولى، وطرد العثمانييّن وتصريح بلفور، وإعادة رسم خريطة الشرق الأدنى.
يعني الكاتب "بسوريّا" بلاد الشام كمفهوم جغرافي، يشمل ما كان وقتها فلسطين - أو الضفّة الغربيّة لنهر الأردنّ - وما أصبح اليوم اسرائيل. عدد فصول الكتاب ٣٣، منها ٢٤ لفلسطين وحدها لأهميّتها الدينيّة أولاً، وتسارع التغيير فيها ثانياً بفضل الحركة الصهيونيّة والتدخّل البريطاني. نتجَ عن هذه الحركة وذلك التدخّل، طفرةٌ سياسيّةٌ وديموغرافيّة منقطعة النظير، تُوِّجَت بنكبة ١٩٤٨ للفلسطينييّن، وإعلان دولة إسرائيل. خصّص كارپنتر لمدينة دمشق ثلاثَة فصول، وما تبقّى من الكتاب توزّعَ بين بيروت وبعلبك وأرمينيا.
احتلّت الحركة الصهيونيّة مكان الصدارة أو كادت. بذل المؤلّفُ جَهْدَهُ في استعمال مصادِرِها ومراجِعِها بما فيها حديثاً تبادَلَهُ مع اسرائيل زانغويل. قدّر كارپنتر عدد يهود العالم وقتها بحوالي ١٥ مليون، منهم عشرة ملايين في أوروپّا الشرقيّة، بينما لم تتجاوز نسبَتُهم من سكّان فلسطين ١٠٪، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هجرة اليهود إليها بدأت قبل الإنتداب البريطاني بعشرات السنوات، وكانت - بالذات إلى القدس - ذات طابع ديني بالدرجة الأولى، إذ قصدها الكثيرون ليقضوا فيها آخر أيامهم ويُدْفَنوا في ثراها.
حاول الكاتب تقديم ما اعتقَدَهُ وصفاً حياديّاً للخلاف العربي الصهيوني، وحَرِصَ على الاستشهاد بحجج العرب، وليس فقط المهاجرين اليهود والصهاينة. مع ذلك لا يحتاج القارئ إلى الكثير من الاجتهاد ليدركَ أنّ الكاتبَ أكثر تعاطفاً مع الصهاينة، تبّنى ادّعائهم أنّهم "جعلوا الصحراء تزهر"، شعوريّاً أو لا شعوريّاً، عندما قارن بين المستعمرات اليهوديّة المزدهرة من جهة، والمدن العربيّة القذرة من جهةٍ ثانية. بغضّ النظر عن آرائي الشخصيّة في هذا الموضوع، أعتقد أنّ أي مراقب شبه محايد لا بدّ له من الإقرار بأنّ المقارنة بين بلادٍ استنزِفَت مواردُها في حروبٍ شعواء، وبين الحركة الصهيونيّة المموّلة بسخاء من أوروپّا وأمريكا، مجحفة. أضف إلى ذلك أنّ فلسطين لم تكن صحراءً بالكامل قبل الانتداب البريطاني، وأنّ اسرائيل اليوم لا تخلوا من الصحاري رغم البلايين التي صُبَّت فيها بعد الحرب العالميّة الثانية، بدايةً من ألمانيا ونهاية بالولايات المتحدة الأمريكية.
مع ذلك لا مناص من التسليم أنّ الصهاينة وظّفوا أموالاً طائلةً في فلسطين، ممّا أدّى إلى انتعاش الاقتصاد، مع التحفّظ - كما أقرّ الكاتب - أنّ بعض اليهود المهاجرين استنكروا قيام بعضِهِم الآخر بتوظيف العمالة العربيّة. الأموال كانت - ولا زالت - مخصّصةً بالدرجة الأولى لليهود و"وطنهم القومي" في فلسطين.
هذا لا يعني أنّ فترة الإنتداب البريطاني كانت سلبيّةً بالمطلق لعرب فلسطين، إذ عنيت السلطات بالصحّة العامّة، وتأمين المياه النظيفة، وتزويد القدس بشبكة للصرف الصحي. علاوةً على ذلك، أمَّ بعضُ عربِ الدول المجاورة فلسطين في الفترة بين الحربين طلباً للعمل، ومنهم جدّي وأخوه الأكبر عطّر الله ذكرهما. من نافل القول أنّ من استخدم العمالة العربيّة هم العرب والإنجليز، وليس المستوطنين الصهاينة.
أطنب الكاتب، قبيل النهاية، في إنشاد المدائح في أفضال التعليم الأمريكي في الشرق الأدنى من مصر وتركيّا (Robert College)، إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت. فتحت المؤسّسات التعليميّة الأمريكيّة أبوابَها للطّلاب بصرف النظر عن دينهم، ولكن على اعتبار أنّ جامعة بيروت هي في نهاية المطاف، مؤسّسة تبشيريّة (اسمها الأصلي الكليّة السوريّة الپروتستانتيّة)، فقد ألزمت تلاميذَها من جميع المعتقدات بتعلّم الكتاب المقدّس وحضور الصلاة. لست أدري إذا كانت هذه الأنظمة لا تزال ساريةً في يومنا.
لا يسعنا، بصرف النظر عن موافقتنا على آراء الكاتب السياسيّة، إلاّ الإعجاب بسعَةِ معلوماتِهِ وطلاوةِ أسلوبِهِ. بإمكان من لا يملك الوقت أو الصبر لقراءة الكتاب، أن يستمتع بصوره البديعة على الأقلّ.

No comments:
Post a Comment