تبحث هذه الدراسة في خلفيّات تحوّل دمشق من عاصمةٍ إقليمية في العهد العثماني، استمدّت هيبَتَها من تاريخِها العريق، وأهميّتِها الدينيّة كمحطّةٍ رئيسة على طريق الحجّ الذي تمحورت حولَهُ حياتُها الاقتصاديّة، إلى مركزٍ للقوميّة العربيّة، وبالنتيجة عاصمةٍ لدولةٍ مستقلّةٍ حديثة أو في سبيلها إلى التحديث. الكاتبة الدكتورة Leila Hudson، أستاذة في قسم دراسات الشرق الأدنى للتاريخ والعلوم الإنسانيّة Anthropology في جامعة أريزونا، والكتاب من منشورات ٢٠٠٨.
تطوّر أي كيان جغرافي سياسي عمليّةٌ في غاية التعقيد، لها إيجابيّاتُها وسلبيّاتُها، وإنجازاتُها وكبواتُها. يميل الأكاديميّون الغربيّون إلى إرجاع التطوّر إلى تأثير أوروپّا البنّاء، والعثرات إلى "تخلّف الشرقييّن"؛ بينما يدّعي القوميّون أنّ الفضل يعود إلى "يقظة العرب"، واللوم والتثريب إلى تدخّل إمپرياليّة الغرب في شؤونهم. من ناحيةٍ ثانية تعطي الدراسات التقليديّة أهميّةً خاصّةً لدور النخبة elite في تطوّر المجتمعات، وكأنّ هذه النخبة تتدخّل في كافّة التفاصيل وتقرّر كافّة الأمور بفرمانٍ من الأعلى. علّ هذا عائدٌ إلى تركيز المؤرّخين والكتّاب على سيرة القادة والوجهاء دونَ سِواهُم، وتجاهل دور الناس العادييّن الذين يشكّلون الأغلبيّة الساحقة في كلّ المجتمعات.
حاولت المؤلّفة، في كِتابّها قيد الحديث، تلافي أو على الأقلّ تخفيف وطأة هذا الخلل، وإعادةَ نوعٍ من التوازن إلى منهج الدراسات التاريخيّة. لا يمكن، رغم هذه التحفّظات، تجاهل دور النخبة، الذي اختارت Hudson أن ترسِمَهُ اعتباراً من مجزرة ١٨٦٠، عندما أرسل الباب العالي فؤاد باشا مزوّداً بصلاحياتٍ استثنائيّةٍ لمعاقبة المسؤولين، وإعادة الأمن وحكم القانون. تميّزت هذه الفترة بمحاولة الدولة تعزيز السلطة المركزيّة على حساب أعيان دمشق، الذين هُمِّشَ بعضُهُم، وبرز البعض الآخر من الوجوه الجديدة الأكثر استعداداً للتعاون مع القسطنطينيّة في برامجها التنظيمي والتحديثي. تزامنت هذه التطوّرات مع تغيّراتٍ إقتصاديّة وتجاريّة (زيادة التبادل مع الغرب) وماليّة (تضّخم)، والعديد من المشاريع في عهد مدحت باشا وغيرِهِ مع تعاظم أهمية ضواحي المدينة خارج السور، الغربيّة منها خصوصاً، وتوسّع هذه الضواحي وزيادة عدد السكان.
استقرأت الأستاذة Hudson الوثائق والملفّات وسجلّات المحاكم والتركات، بغية إعطاء سائر الطبقات الاجتماعيّة بعض حقّها، وجَنَت في هذا الصدد كميّةً لا بأس بها من المعلومات عن الوضع الاقتصادي لعامّة الناس، وكيفيّة انتقال الثروة، والعوامل التي تدخل في حسابات الزواج (العائلة والمهر)، وما يمكن تسميته "علمنة الأسماء" (من الأسماء الدينيّة "محمد" وعبد" إلى "كمال" و"أديب" إلخ)، ثم النواحي الثقافية. اقتناء الكتب كان وقفاً على قلّةٍ من الناس، أغلبُهُم من علماء الدين، أمّا عن أكثرها تداولاً فهو القرآن بطبيعة الحال، بيد أنّ المؤلِّفة زعمت (ص ٨٨) أنّ كتاب "مقامات الحريري" ضاهاهُ انتشاراً! هناك أيضاً مؤلّفات الصوفييّن، منهم عبد الغني النابلسي، وعبد القادر الجزائري، وخالد النقشبندي.
تطوّر أي كيان جغرافي سياسي عمليّةٌ في غاية التعقيد، لها إيجابيّاتُها وسلبيّاتُها، وإنجازاتُها وكبواتُها. يميل الأكاديميّون الغربيّون إلى إرجاع التطوّر إلى تأثير أوروپّا البنّاء، والعثرات إلى "تخلّف الشرقييّن"؛ بينما يدّعي القوميّون أنّ الفضل يعود إلى "يقظة العرب"، واللوم والتثريب إلى تدخّل إمپرياليّة الغرب في شؤونهم. من ناحيةٍ ثانية تعطي الدراسات التقليديّة أهميّةً خاصّةً لدور النخبة elite في تطوّر المجتمعات، وكأنّ هذه النخبة تتدخّل في كافّة التفاصيل وتقرّر كافّة الأمور بفرمانٍ من الأعلى. علّ هذا عائدٌ إلى تركيز المؤرّخين والكتّاب على سيرة القادة والوجهاء دونَ سِواهُم، وتجاهل دور الناس العادييّن الذين يشكّلون الأغلبيّة الساحقة في كلّ المجتمعات.
حاولت المؤلّفة، في كِتابّها قيد الحديث، تلافي أو على الأقلّ تخفيف وطأة هذا الخلل، وإعادةَ نوعٍ من التوازن إلى منهج الدراسات التاريخيّة. لا يمكن، رغم هذه التحفّظات، تجاهل دور النخبة، الذي اختارت Hudson أن ترسِمَهُ اعتباراً من مجزرة ١٨٦٠، عندما أرسل الباب العالي فؤاد باشا مزوّداً بصلاحياتٍ استثنائيّةٍ لمعاقبة المسؤولين، وإعادة الأمن وحكم القانون. تميّزت هذه الفترة بمحاولة الدولة تعزيز السلطة المركزيّة على حساب أعيان دمشق، الذين هُمِّشَ بعضُهُم، وبرز البعض الآخر من الوجوه الجديدة الأكثر استعداداً للتعاون مع القسطنطينيّة في برامجها التنظيمي والتحديثي. تزامنت هذه التطوّرات مع تغيّراتٍ إقتصاديّة وتجاريّة (زيادة التبادل مع الغرب) وماليّة (تضّخم)، والعديد من المشاريع في عهد مدحت باشا وغيرِهِ مع تعاظم أهمية ضواحي المدينة خارج السور، الغربيّة منها خصوصاً، وتوسّع هذه الضواحي وزيادة عدد السكان.
استقرأت الأستاذة Hudson الوثائق والملفّات وسجلّات المحاكم والتركات، بغية إعطاء سائر الطبقات الاجتماعيّة بعض حقّها، وجَنَت في هذا الصدد كميّةً لا بأس بها من المعلومات عن الوضع الاقتصادي لعامّة الناس، وكيفيّة انتقال الثروة، والعوامل التي تدخل في حسابات الزواج (العائلة والمهر)، وما يمكن تسميته "علمنة الأسماء" (من الأسماء الدينيّة "محمد" وعبد" إلى "كمال" و"أديب" إلخ)، ثم النواحي الثقافية. اقتناء الكتب كان وقفاً على قلّةٍ من الناس، أغلبُهُم من علماء الدين، أمّا عن أكثرها تداولاً فهو القرآن بطبيعة الحال، بيد أنّ المؤلِّفة زعمت (ص ٨٨) أنّ كتاب "مقامات الحريري" ضاهاهُ انتشاراً! هناك أيضاً مؤلّفات الصوفييّن، منهم عبد الغني النابلسي، وعبد القادر الجزائري، وخالد النقشبندي.
نتجت التغيّرات والتطوّرات التي طرأت على دمشق في الخمسين عاماً السابقة للحرب العالميّة الأولى عن الكثير من العوامل، منها إراديّةٌ، ومنها تراكميّة، ومنها خارجيّةٌ وداخليّة، مع تفاوت حجم وسرعة هذه التغيّرات. لا يمكن إهمال أثر العوامل المحليّة والبيئيّة والعائليّة (تغيّر مكان الإقامة والطبقات والمؤسّسات والمواصلات والثقافة) البالغة الأهميّة على المدى البعيد، والنتيجة النهائيّة ما هي إلّا ترجمة لجميع هذه العوامل.
ظهور وجوه جديدة و"نُخَب" جديدة أمرٌ طبيعي ومتوقّع في أي مجتمع حركي dynamic. ختمت الأستاذة Hudson بالتوكيد، استناداً إلى آخر الأبحاث، على اعتماد القيم المدنيّة والتعليميّة والوطنيّة كأمضى سلاح لتحسين وضع الإنسان الاجتماعي social mobility في القرن العشرين.

No comments:
Post a Comment