ولد مؤلّف كتاب الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء عام ١٨٥٤. نجا نعمان أفندي بالكاد من الموت في مذبحة ١٨٦٠، عندما اختبأ في أحد الأفران. لم يكن هذا من حسن حظِّهِ فقط، بل أيضاً دمشق وكلّ محبّيها والمهتمّين بها وبكتابِهِ القيّم عنها الذي أنجَزَهُ عام ١٨٧٨ لينْشَرَ في السنة التالية.
الكتابُ على قصرِهِ (١٦٠ صفحة) كثيفٌ بالمعلومات المختصرة المفيدة عن المدينة، بأسلوبٍ سهل وطلي يمكن قراءته في أمسيةٍ أو اثنتين دون مشقّة. يتوزّع كتاب الروضة الغنّاء على ثلاثة أقسام:
- الأوّل والأطول (٩٠ صفحة) يبحث في تاريخ المدينة منذ البدايات التي تمتزج فيها الحقيقة والأسطورة، وحتّى ولاية مدحت باشا عام ١٨٧٨.
- يتعرّض القسمُ الثاني (٢٦ صفحة) إلى تقسيم المدينة (ثمانية أثمان تُقْسَم بدورِها إلى أحياء)، وبيوت دمشق الشهيرة، ومياهِها، ومنتزهاتِها، وحِرَفِها، وتجارتِها، ومدارسِها الدينيّة وغير الدينيّة، ومعابِدِها، وحمّاماتِها، ومقاهيها، ومبانيها العسكريّة (أهمّها القلعة طبعاً)، وحكومتِها، وعاداتِ أهلِها.
- القسمُ الثالث عبارة عن تراجم لمشاهيرٍ دُفِنوا في دمشق مع بعض المعاصرين. خَتَمَ القساطلي كتابَهُ بقصيدةٍ في مدح المدينة للمتصوّف عبد الغني النابلسي، تَلَتها مدائحٌ في كتاب نعمان أفندي شِعْراً ونثراً ممّن قرأَهُ من الأدباء.
غزارةُ عِلْم نعمان أفندي مثيرةٌ الدهشة، خاصّة وأنّ عمرَهُ لدى نشر الكتاب لم يتجاوز ٢٥ سنة. الأكثر غرابةً معرفتهُ (كمسيحي) إن لم نقل تبحّرهُ في التاريخ الإسلامي والمصادر الإسلاميّة والأعلام الإسلاميّة والطوائف الإسلاميّة. لست أدري إذا كان هناك من علماء المسلمين وقتها من امتلكَ إلماماً مثيلاً بالدين المسيحي والطوائف المسيحيّة. أزيد فأقول أنّ من يقرأ بعض العبارات التي أورَدَها القساطلي يخاله مسلماً أو يكاد. لهجة نعمان أفندي عن الإسلام إيجابيّةٌ للغاية عموماً، لا بل استعمَلَ حتّى مصطلحات المسلمين الطائفيّة وعلى سبيل المثال:
- صفحة ٧٦: أراقَ عسكر تيمور "دماء المسلمين" وكان فيهم من "الروافض الخراسانيّة".
- صفحة ٩١-٩٢: "يسمح للنصارى بمغادرة الشام" المقصود بعد مجزرة ١٨٦٠ طبعاً.
- صفحة ٩٢: "ردع أصحاب التعدّي من العربان والنصيريّة".
- صفحة ١٣١: "النبي صلعم".
أسهب القساطلي وأطنب في تعداده قبور الصحابة (خاصّة وليس حصراً المتواجدة في الباب الصغير)، وعلماء المسلمين من مختلف المذاهب الفقهيّة، والمتصوّفين (ابن العربي مثلاً)، والأعيان وتراجِمِهِم. بالطبع هذا لا يعني خلو الكتاب من الأخطاء فمثلاً كَتَبَ (صفحة ٤٩) أنّ نور الدين وضع على دمشق "أخاه نجم الدين أيّوب"، وأشار (صفحة ١٠٨) إلى "تكيّة السلطان سليم بالمرجة" وهلمجرّا.
من البدهي أن يخصّص نعمان أفندي حيّزاً لا بأس به لأعلام المسيحييّن، بداية من القدّيس حنانيا (المذكور في كتاب العهد الجديد في سياق سيرة القدّيس بولس)، والقدّيس صفرونيوس (بطرك القدس لدى دخول المسلمين إليها في عهد عمر ابن الخطّاب)، والقدّيس يوحنّا الدمشقي، ونهايةً بالبطريرك مكسيموس مظلوم الكاثوليكي في القرن التاسع عشر (مؤلّف كتاب عن تاريخ الحروب الصليبيّة وآخر عن أخبار القدّيسين وعديد غيرها)، والدكتور ميخائيل مشاقة الذي احتلّ أربع صفحات تحت عنوان "العالم العلّامة والفرد الفهّامة الدكتور ميخائيل مشاقة". كان الدكتور مشاقة رجلَ دين وطبيباً وأديباً وقنصلاً للولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبالنتيجة نبذ (صفحة ١٥٢) "ما ذهب إليه ڤولتير الكافر" واقتنع "بصحّة الدياتة المسيحيّة"، واعتنق المذهب الپروتستانتي وألّفَ - من جملة ما ألّفَهُ - "البراهين الإنجيليّة ضدّ الأباطيل البابويّة".
الكتاب مليءٌ بالنوادر الظريفة، علّ ألطفها (صفحة ١٢٧) طقوس الخطبة لدى "النصارى": كان المسيحيّون (مثلهم مثل المسلمين)، لا يسمحون للعريس برؤية العروس قبل الزفاف، وإنّما تُوكل هذه المهمّة للخاطبات "هذه عادة مضرّة جدّاً بالنظر إلى الأمّة المسيحيّة التي لا طلاق عندها وكم من إبنة شنيعة المنظر سيّئة الطباع تزوّجت بجمال أختها لأنّهم كانوا يرون الخاطبات الجميلة ويبدلونها وقت العرس بالشنيعة". استدرَكَ نعمان أفندي بالقول أنّه "في هذه الأيّام فقد تحسّنت الحال نوعاً وصار الخطيب قادراً أن يختار الفتاة".
الصورة للشارع المستقيم عام ١٨٦١ عن Sauvaire.

No comments:
Post a Comment