"قم ناج جلّق وانشد رسم من بانوا" بيت شعر غنيّ عن التعريف، صادفْتُهُ للمرّة الأولى في كتاب اللغة العربيّة في مطلع المرحلة الإعداديّة دون شرح أو تعليق، ولجأت بالتالي إلى أمّي، موسوعة الأولاد الأولى، وأفادتني أنّ جلّق "مكان قرب دمشق". قَبِلْتُ هذا الجواب دون تردّد، بيد أنّ عبد العزيز فيّاض أستاذ العربيّة في مدرستي، والمرجع الأخير في أمورٍ من هذا النوع، جَزَمَ بما لا يحتمل الشكّ أنّ جلّق "هي دمشق"، وتعيّن علي بالتالي أن أعيد برمجة معلوماتي ولو إلى حين.
أجرى المستشرق الفرنسي René Dussaud دراسةً مفصّلةً وفريدة عن طبوغرافية سوريّا التاريخيّة تجاور عددُ صفحاتِها الستمائة، تناول فيها الموافع المأهولة سابقاً ولاحقاً، والطرق التي أدّت إليها ووصلت بينَها، وتغيّرَ أسمائِها عبر العصور، حسب المصادر المعتمدة الشرقيّة منها (آشوريّة ومصريّة وعربيّة...) والغربيّة (يونانيّة ولاتينيّة وصليبيّة...). رَصَدَ المؤلِّف تحرّكات الجيوش في سوريّا آتية من بلاد الرافدين (شلمنصر الثالث على سبيل المثال)، أو من مصر (تحوتمس الثالث ورعمسيس الثاني)، أو من الجزيرة العربيّة (خالد إبن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح)، أو أوروپا (الإسكندر الأكبر وكثيرين بعده) وهلمّجرا. الطبوغرافيا كانت ولا تزال علماً بالغ الأهميّة من الناحية العسكريّة.
عودةٌ إلى جلّق؛ يبدو أنّ Dussaud تبنّى رأيَ أمّي طيّبَ اللهُ ثراها، عندما تابع ذكر جلّق من خلال سير ومناورات الجيوش البيزنطيّة والعربيّة في النصف الأوّل من القرن السابع الميلادي، وقدّم بناء عليها براهيناً مفادُها أنّ جلّق هي في الواقع بلدة الكسوة، محطّة القوافل الخارجة من دمشق باتجاه الجنوب، وأضاف أنّ الكسوة كانت مقرّاً الغساسنة.
يحتوي الكتاب على خضمٍّ من المعلومات التي لا تقدّر بثمن عن كامل سوريّا الشماليّة (أي دون فلسطين وشرق الأردن) في مطلع عهد الانتداب بما فيها لبنان واسكندرون والجولان. بالطبع جرى تتريك أسماء كثير من المدن السوريّة الشماليّة وتعبير (تحويل إلى العبريّة) أو حتّى هدم عدد لا بأس به من قرى الجولان منذ ذلك الوقت إلى يومنا. أقتصرُ على بعض الأمثلة المرتبطة بدمشق:
* رحبة خالد بن أسيد شمال شرق دمشق وداخل السور شرق القيمريّة. يُعْتَقَدُ أنّها احتلّت مكان ساحة المدينة Agora الهلنستيّة أو Forum الروماني.
* الصفوانيّة (لاحقاً الصوفانيّة) شرق دمشق.
* الأوزاع (العقيبة) شمال سور دمشق قرب باب الفراديس.
* بيت لهيا شمال شرق دمشق وجنوب برزة. التسميةُ مشتقّةٌ من "بيت الآلهة" التي يفترض أنّ إبراهيم حطّمَ أصنامَها.
* برزة: المكان المفترض لولادة إبراهيم.
* دير مرّان: يضعه البعض قرب باب الفراديس وآخرون لدى دمّر.
* جوبر: كان جميعُ سكّانِها يهوداً عندما زار chevalier d'Arvieux المنطقة في النصف الثاني من القرن السابع عشر. الموقع شمال شرق دمشق.
* مرج راهط شرق جوبر وجنوب عدرا. موقع أكثر من معركة كالتي تجابَهَ فيها الغساسنة وخالد بن الوليد عام ٦٣٤، وجيش مروان بن الحكم ضدّ أنصار ابن الزبير عام ٦٨٤.
* مرج الصفّر (شقحب) جنوب الكسوة. لجأ الملك الأيّوبي العادل الذي عانى من زكام العلف إليها في الربيع. شَهِدَت عدّة معارك.
* المزّة أو مزّة كلب نسبة لقبيلة بني كلب.
يستحيل متابعة هذه المواقع والدروب واستيعابها دون خرائط بالغة الدقّة. يحتوي الكتاب على ستّة عشر خريطة مطوية من نوعيّة جيّدة، ومع ذلك يحسن الرجوع إلى google map في حالة الالتباس، رغم التغيّرات التي طرأت على المسمّيات عبر الزمن.
كتاب Dussaud متوافر بالعربيّة.
Topographie historique de la Syrie antique et médiévale. Paris, Paul Geuthner, 1927.

No comments:
Post a Comment