علّ هذه الدراسة الصادرة عام ١٩٩٩ عن Princeton University Press أفضل المتوافر عن الموضوع قيد البحث، بل علّها فريدة ليس فقط في الطريقة التي تناولت بها سياسات الريف السوري واقتصاده السياسي، وإنّما أيضاً بعمقها وإسنادها ومداها.
المؤلّف حنّا بطاطو (١٩٢٦ - ٢٠٠٠) أمريكي فلسطيني من مواليد القدس وشيوعيّ الميول، هاجر إلى الولايات المتّحدة عام ١٩٤٨. هناك نسخة عربيّة من الكتاب الذي بلغ عددُ صفحاتِ أصلِهِ الإنجليزي حوالي ٤٠٠. العمل شديد الغنى بالمعلومات القيّمة عن سوريّا حتّى تسعينات القرن الماضي.
____________
من الناحية الديموغرافيّة، ودون التعرّض للأسباب، تزايد عدد سكّان سوريّا ضمن حدودها الحاليّة من ١٫٥ مليون نسمة عام ١٩٢٢ إلى ١٣٫٨ مليون عام ١٩٩٤. تزامنت هذه الزيادة مع تناقصٍ في نسبة العاملين في القطاع الزراعي، بكّل ما يعنيه هذا وذاك من تحدّيات تأمين الغذاء والكساء والبنية التحتيّة للمواطنين. قُدِّرَت نسبة النموّ الديموغرافي بحوالي ٣٫٣٪ بين الأعوام ١٩٧٠-١٩٩١، ونجم عن هذا أنّ نسبة الشباب دون عمر ١٥ قاربت ٤٥٪ عام ١٩٩٤.
ليس كلُّ الفلّاحين سواءً (موضوع الفصل الثاني). هناك فلّاحو البساتين (غوطة دمشق أفضل ممثّل لهذه الفئة) المتميّزين بمهارتهم وتديّنهم وعلاقاتهم الوثيقة مع أهل المدن؛ لدينا أيضاً الفلّاحين الزراعييّن في وادي الفرات وحوران وسهل الغاب (معظمُ فلّاحي هذا الأخير علويوّن). يمكن أيضاً تقسيم الفلاحين إلى مسالمين (الغوطة، حوران، إدلب، العلوييّن في السهول)، و"الحربجيّة" (الدروز). نستطيع أيضاً توزيعَهُم حسب الطوائف الدينيّة والمذهبيّة، أو العشائر؛ وما إذا كانوا ملّاكاً للأرض التي يفلحونها أو يعملون لحساب الملّاك والمستثمرين من أهل المدن. ترتّب على ذلك تفاوتٌ كبيرٌ في المستوى المعيشي بين فلّاح وفلّاح، وبين منطقةٍ وثانية. بالنسبة لِمَن لا يملكون الأرض tenants أو sharecroppers، بإمكان فلّاح الغوطة الحصول على ثلثيّ المحصول، بينما لم تتجاوز حصّة فلّاح حوران الربع. كلّ هذا قبل الإصلاح الزراعي.
الأرض تاريخيّاً مصدر الثروة الأهمّ في سوريّا والعالم عموماً. ترتّب على ذلك تضاربٌ بين مصالح الدولة التي تريد المزيد من الضرائب لنفقاتها المشروعة وغير المشروعة من جهة، ومصالح الفلّاحين الطامحين لتحسين ظروفِهِم المعيشيّة من جهةٍ ثانية. لجأ الفلّاحون خلال العهد العثماني إلى اتّباع شتّى الوسائل لإنقاذ القليل الذي يملكونه. تمثَّلَ الحلُّ لفلّاحي السهول المكشوفة أمام القوّات الحكوميّة بإخفاء محاصيلهم والتهرّب من الخدمة الإلزاميّة كيفما استطاعوا، بالمقابل قاطنو الجبال أقلّ تردّداً في اللجوء إلى العصيان المسلّح من معاقلهم المنيعة أو شبه المنيعة، حتّى عهد الإنتداب الفرنسي. تجدر هنا الإشارة أنّ ثورة (أو عصيان حسب المصدر) ١٩٢٥ بدأت قي جبل الدروز. صحيحٌ أنها امتدّت إلى غوطة دمشق، بيد أنّ العديد من القرى رفضت المشاركة، بل وناشدت الثوّار أن يغادروها تحسُّباً لانتقام الفرنسييّن.
____________
يعود الفضل لأكرم الحوراني في تنظيم الحزب العربي الاشتراكي، أوّل من تبنّى قضيّة الفلّاحين السورييّن من الأحزاب. ركّز هذا الحزب نشاطاتِه في البداية في ريف حماة، واعتنق شعار "هاتو القفّة والكريك لنعش الآغا والبيك". ازداد نفوذ الحوراني عندما نجح بإقناع العديد من شباب الأرياف بدخول الكليّة الحربيّة في حمص، وتعاظم هذا النفوذ عندما دُمِجَ حزب الحوراني مع حزب البعث في تشرين الثاني عام ١٩٥٢ تحت تسمية حزب البعث العربي الاشتراكي.
يعود الفضل لأكرم الحوراني في تنظيم الحزب العربي الاشتراكي، أوّل من تبنّى قضيّة الفلّاحين السورييّن من الأحزاب. ركّز هذا الحزب نشاطاتِه في البداية في ريف حماة، واعتنق شعار "هاتو القفّة والكريك لنعش الآغا والبيك". ازداد نفوذ الحوراني عندما نجح بإقناع العديد من شباب الأرياف بدخول الكليّة الحربيّة في حمص، وتعاظم هذا النفوذ عندما دُمِجَ حزب الحوراني مع حزب البعث في تشرين الثاني عام ١٩٥٢ تحت تسمية حزب البعث العربي الاشتراكي.
يمكن للتبسيط أن نميّز ثلاثة مراحل في تاريخ البعث:
- المرحلة الأولى هي "البعث القديم"، الذي أسّسَهُ دمشقيّان من حيّ الميدان: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. سيطر المثقّفون على الحزب في هذه الفترة: عفلق والبيطار درسا في فرنسا (جامعة Sorbonne)، وكلاهما أبناء تجّار جملة للحبوب، وهيب الغانم طبيب، زكي الأرسوزي (مؤسّس "البعث العربي" المحسوب بشكل أو بآخر على البعث) أيضاً خرّيج السوربون. المشكلة بالطبع أنّ المثقفّين لا ولم ولن يحكموا سوريا في حياتِهِم (وليست سوريا بالتأكيد فريدةً في هذا المضمار)، دون إيجاد صيغة تفاهم مع ضبّاط الجيش المتنفّذين، ومن هنا أهميّة حلف البعث مع جماعة الحوراني بغضّ النظر عن الخلافات الشخصيّة والعقائديّة.
- المرحلةُ الثانية مرحلة "البعث الانتقالي"، عندما جرى "ترييف" ruralization الحزب، وأزاح ضبّاطُ الجيش من أبناء الأرياف المفكّرين من الرعيل الأوّل، وأزاحوا معهم أبناء المدن من مناصِبِهِم المفتاحيّة في الجيش وبالنتيجة - إلى حدٍّ ما - من مؤسّسات الدولة الإداريّة. شغلت هذه المرحلة بالطبع عقد الستّينات، وشَهِدَت صراعاً على السلطة وتصفية بعض الضبّاط بعضهم الآخر. لا داعي هنا للدخول في تفاصيل المجابهات بين أمين الحافظ وصلاح جديد وسليم حاطوم ومحّمد عمران وعبد الكريم الجندي وكثير غيرهم، ويمكن للمهتمّين بالتوسّع الرجوع إلى كتابات Nikolaos van Dam و Patrick Seale.
- المرحلة الثالثة عهد الرئيس حافظ الأسد، بداية من عام ١٩٧٠، الذي تحوّل خلالَهُ البعث من حزبٍ بالمعنى المفهوم إلى جهاز بيروقراطي تابع للدولة، وازدادت عضويّته من ٦٥٫٠٠٠ عام ١٩٧١ إلى مليون ونيف عام ١٩٩٢. يشمل هذا الرقم الأنصار والأعضاء العاملين.
ماذا عن الريف؟
لعهد البعث سلبيّاتهُ ما في ذلك من شكّ، ومع ذلك لا يمكن إنكار إيجابيّاتِهِ، خصوصاً فيما يتعلّق بمدّ الكهرباء عبر البلاد. ازداد عدد القرى التي أنارها التيّار الكهربائي من ٢١٨ عام ١٩٧٠ إلى ٧٫٦٣٠ عام ١٩٩٢، أي ٩٥٪ من القرى السوريّة. انتشرت أيضاً شبكاتُ المياه النظيفة، وطبابة الأرياف، ووسائل المواصلات، والمؤسّسات التعليميّة، وزاد الإنتاج الزراعي في محاولةٍ لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي. بقي في نهاية المطاف الكثير من التحديات الناجمة عن الانفجار السكّاني وتوسّع الفروقات بين الأغنياء والفقراء والصراعات الإقليميّة والدوليّة.

No comments:
Post a Comment